الخطوة الثانیة للثورة الإسلامیة: بین العلم و الإیمان | ||||
PDF (956 K) | ||||
محمود ریا ـ إعلامی من لبنان
شکّل إعلان الإمام السید علی الخامنئی “انطلاق” الخطوة الثانیة للثورة الإسلامیة عام ٢٠١٩، خلال الاحتفالات بالذکرى الأربعین لانتصار الثورة التی فجّرها الإمام الخمینی الراحل قدس سرّه الشریف، تمهیداً لتطبیق خطة أربعینیة جدیدة تقود هذه الثورة إلى آفاق جدیدة، فتجعلها أکثر رسوخاً فی الأرض، وأکثر شموخاً إلى الأعالی فی الوقت نفسه. جاء إعلان الإمام القائد لهذه الخطة المستقبلیة فی إطار حدیثه إلى الجمهور الأنسب والأکثر قابلیة لفهم المعانی التی یتضمنها هذا الطرح المتقدم. ومَن أقدر من الشباب على حمل مشعل الثورة من الأجیال السابقة والسیر بها إلى المقبل من الأیام بکل ثقة وعزم وأمل؟ لقد رکز الإمام الخامنئی فی هذا الخطاب الممیز الموجه للشباب الإیرانی المتحفز والمتعلم والمؤمن على رسم صورة متکاملة لمستقبل یلیق بهذا الشباب، وبالدولة التی ینتمی إلیها وبالأمة الإسلامیة الکبرى التی تشکل إیران جزءاً أساسیاً منها. إنه مستقبل یحتاج بناؤه لبنة لبنة إلى کل الإیمان الذی یعمر قلوب هؤلاء الشباب، والتضحیات التی یستعدون لبذلها والأحلام المشرقة التی یضعونها نصب أعینهم، ما یجعل من هؤلاء الشباب طلیعة نهضة الشعب والأمة، ورکناً أساسیاً فی بناء حضارة إنسانیة یتناغم فیها التطور والعلم مع الأخلاق والمبادئ، بعیداً عن المسار الجهنمی الذی قادت النزعات المادیة العالم إلیه، حیث یتم إعلاء شأن العلم وتحطیم معنویات وأخلاق الشباب، ما یؤدی إلى تشویه مسیرة البشریة ویقودها إلى تدمیر نفسها بنفسها. لقد کانت الثورة الإسلامیة فی إیران عند انتصارها ممیزة بین الثورات التی شهدتها البشریة على امتداد قرون، فهی ثورة جمعت بین الجماهیریة الشعبیة وبین القیم الدینیة ـ الإسلامیة تحدیداُ ـ ما جعلها تقدّم نموذجاً مختلفاً على جمیع الصعد الفکریة التنظیریة والعملیة التطبیقبة, وما زالت هذه الثورة متفردة فی التجربة التی قدمتها، مع وجود بعض المحاولات للاقتباس منها والاهتداء بهدیها. وما یجعل هذه الثورة منهلاً دائماً للراغبین بالاستفادة والاستزادة هو قدرتها على الاحتفاظ برکائزها الأساسیة، مع قدرتها أیضاً على التصحیح والتعدیل وفقاً لما تتطلبه الظروف والتطورات، وهذا ما عجزت عنه الکثیر من الثورات والحرکات الأخرى. العلم والإیمان لقد رکز الإمام الخامنئی فی خطابه الذی أخذ عنوان “الخطوة الثانیة للثورة” على المفهوم الأساسی الذی أشرنا إلیه، أی الاقتران بین العلم والمعنویات. فقد دعا فی أکثر من مکان فی الخطاب إلى الاهتمام الشدید بالعلم، مشدداً على المنافع الکبرى التی تتحقق من هذا الاهتمام. فـ “العلم هو الوسیلة الأبرز لعزة بلد وقوته”. وکما أخذ الحدیث عن الإنجازات العلمیة التی حققتها الجمهوریة الإسلامیة خلال عقودها الأربعة الأولى جانباً أساسیاً من استعراض سماحة القائد لماضی الثورة والجمهوریة المبارکتین، فهو ـ أی العلم ـ کان أیضاً البند الأول فی توصیاته الهامة للمستقبل، ما یدل على المکانة الرفیعة التی یحتلها العلم بمختلف فروعه وأنواعه فی خریطة بناء مستقبل الأجیال المقبلة کما یراه سماحته. وبقدر ما أشاد سماحة القائد بالإنجازات الکبرى التی تحققت خلال السنوات الماضیة، والتی أفاض فی تعدادها وذکر أرقامها، فإنه کان صریحاً فی الحدیث عن استمرارالتخلف عن “قمم” العلم بسبب الظروف المختلفة التی مرت فیها إیران، من إهمال النظم الامبراطوریة السابقة لهذا المجال الأساسی والهام، إلى الحصار المالی والعلمی الذی فرض على البلاد بعد انتصار الثورة الإسلامیة، داعیاً الشباب إلى جعل السیر فی تطویر العلوم “عملاً جهادیاً” لتجاوز العقبات والوصول إلى المکانة المرموقة. ولن یکون مفاجئاً أبداً إذا کان البند الثانی فی “التوصیات” التی قدمها سماحة الإمام الخامنئی للشباب فی نهوضهم بمهمة بناء المستقبل الأفضل هو “المعنویات والأخلاق المعنویة”، وهی القیم التی یجب أن یتحلى بها الشباب کجماعة وکأفراد لتحقیق أهداف نهضتهم. فالمطلوب هو “مراعاة فضائل من قبیل حب الخیر والتسامح ومساعدة المحتاجین والصدق والشجاعة والتواضع والثقة بالنفس وسائر الأخلاق الحسنة”.والاهتمام بهذا الجانب المعنوی لیس أمراً ثانویاً أو هامشیاً، وإنما هو أساسی فی بناء المستقبل المنشود، “فالمعنویات والأخلاق هی الموجهة لکل الحرکات والنشاطات الفردیة والإجتماعیة، وهی حاجة أساسیة للمجتمع، ووجودها یجعل من أجواء الحیاة جنة حتى مع وجود النواقص المادیة، وعدم وجودها یجعل الحیاة جحیما حتى مع التمتّع بالإمکانیات المادیة”. وبما أن “الأخلاق والمعنویات لا تتحققان حتماً عن طریق الأوامر والنواهی”، فقد کان سماحة الإمام الخامنئی واضحاً فی التأکید على أنه “لا یمکن للحکومات تحقیقها عن طریق القوة القهریة”. ونظراً لأهمیة دور الحکومات فی هذا المجال فقد وضع سماحة الإمام القائد خطة متسلسلة لا بد من اتباعها لنشر الأخلاق والمعنویات وتثبیتها فی المجتمع. وهذه الخطة تقوم على ثلاثة بنود أساسیة: ـ أن تکون الحکومة نفسها (رئیساً وأعضاء ونظام عمل) تمتلک الأخلاق وتعمل على هدیها. “علیها أولاً أن تتحلى بالسیر والسلوکیات الأخلاقیة والمعنویة”. ـ على الحکومة أن تلعب دوراً أساسیاً فی نشر الأخلاق والمعنویات فی المجتمع وبین الناس وأن تساعد من یعمل على ذلک بتقدیم کل الدعم الممکن له. “علیها (الحکومة) أن تهیّء الأرضیة لإشاعتها (الأخلاق) وترویجها فی المجتمع، وأن تتیح الفرص للمؤسسات الإجتماعیة للعمل على هذا الموضوع وتمدّ لها ید العون”. ـ ویبقى على الحکومة مهمة أساسیة أخرى وهی التصدی بحزم لکل المشوّشات التی تعمل على إبعاد الناس عن الأخلاق والمعنویات، وهی مشوِّشات کثیرة تقف وراءها أجهزة متعددة وتدخل بطرق متنوعة إلى الأنساق الاجتماعیة وإلى النفس الإنسانیة لتشویهها، “کما علیها (الحکومة) محاربة المؤسّسات المعادیة للمعنویات والأخلاق بأسلوب معقول، وباختصار أن لا تسمح للجهنّمیین أن یجعلوا الناس جهنّمیین بالقوة والخداع”. وإذا کانت مسؤولیة الحکومات کبیرة إلى هذا الحدّ، فإن هذا لا ینفی مسؤولیة الأفراد أنفسهم فی العمل على تعزیز المعنویات والأخلاق ومحاربة مَن یعمل على عزلها من المجتمع. ویدعو سماحته إلى “إعداد خطط وبرامج شاملة قصیرة ومتوسطة الأمد فی هذا الخصوص والعمل على تطبیقها”. إذاً لم یکتفِ سماحة الإمام الخامنئی بالحدیث عن موضوع الأخلاق والمعنویات بشکل مجمل، ولم یضع فقط خطوطاً عریضة للاهتداء بها فی عملیة نشر هذه المفاهیم فی المجتمع، وإنما رسم خططاً تفصیلیة للقیام بهذا الأمر، ودعا المسؤولین للقیام بدورهم الواجب علیهم فی هذا المجال، وشدد على إشراک الناس والقوى الفاعلة فی المجتمع فی هذه “المعرکة” الصعبة، ودعا الشباب من جیل المستقبل لیکونوا فی مقدمة قافلة السائرین فی نهج الاقتران بین الدین والعلم، لما فی ذلک الاقتران من سعادة فی الدارین، الدنیا والآخرة، وما فیه من دفع کبیر وسلیم لمسیرة التنمیة والتطور التی ینبغی أن تسیر فیها الثورة الإسلامیة فی “الخطوة الثانیة”. الاقتصاد.. ومبادئ أخرى کان موضوعا العلم والقضایا الروحیة والمعنویة البندین الأولین فی توصیات سماحة الإمام الخامنئی إلى الشباب الذی یضع بین أیدیهم مستقبل الثورة الإسلامیة فی السنوات الأربعین المقبلة، وقد أخذ هذان البندان الحیّز الأکبر من الترکیز فی هذه المقالة المتواضعة، إلا أن هذا لا یعنی أن البنود الخمسة الأخرى فی توصیاته لیست بحاجة إلى تحلیل ونقاش. فقضیة الاقتصاد وحدیث سماحة القائد عنها بین الماضی والحاضر والمستقبل تستحق مقالة لوحدها، نظراً للأرقام الدقیقة والمعطیات الواضحة التی أوردها سماحته فی الخطاب. فسماحة القائد تحدث مع الشباب وکأنه یسلّمهم أسرار الدولة ومفاتیح الخزائن وأزمّة التأثیر على مستقبل البلاد. إنه لیس خطاباً سیاسیا عادیا، وإنما هو خطاب تأسیسی مفصلی تنطلق من بین کلماته مسیرة رسم المستقبل بکل عناوینه. وکما هو الحال مع الاقتصاد کذلک کان الأمر مع حدیث سماحة القائد عن “العدالة ومکافحة الفساد” فی البند الرابع من بنود توصیاته، وقد شرح بکل وضوح معنى العدالة وتحدث بکل صراحة عن الفساد وأثره المدمر فی المجتمعات على مدى الزمان، لافتاً إلى أن الفساد کان موجوداً حتى فی زمن أکثر الحکومات عدالة فی التاریخ، ما یعنی أن محاربة هذه الآفة هی عملیة مستمرة تقع مسؤولیة القیام بها على عاتق الجمیع. وتبقى بنود “الاستقلال والحریة” و”العزة الوطنیة والعلاقات الخارجیة وتحدید الأطر والحدود مع العدو” و”نمط الحیاة” معالم أساسیة فی هذا الخطاب الذی یستحق أن تعالج مفرداته ودقائق توجیهاته بین دفتی کتاب متکامل، ولیس فی مقال قاصر ومن شخص مقصّر مثلی. إن خطة عملٍ تبدأ بدعوة المخاطَبین بها إلى الاستفادة من عِبر الماضی وقراءتها بدقة للبناء علیها والاستفادة من إیجابیاتها والتعلم من سلبیاتها، ثم تقوم بتعداد هذه الإیجابیات وشرحها وتبیان السلبیات والتحذیر منها، وبعد ذلک تقدم توصیات للمستقبل تقوم على المعلومة والحجة والبرهان، لهی خطة تستأهل أن تکون محل دراسة وتمحیص وتفسیر، فکیف إذا کانت صادرة عن قائد ملهم مسدّد مجرّب، قاد بلداً وأمة ومحوراً نحو تحقیق ما عجزت عنه أمم کثیرة، وتخطى بحکمته وصبره وبصیرته کل العقبات، لیصل بهذه الثورة العظیمة إلى بدایة أربعین سنة أخرى من نجاحها الدائم.
لقد رکز الإمام الخامنئی فی خطابه الذی أخذ عنوان “الخطوة الثانیة للثورة” على المفهوم الأساسی الذی أشرنا إلیه، أی الاقتران بین العلم والمعنویات. فقد دعا فی أکثر من مکان فی الخطاب إلى الاهتمام الشدید بالعلم، مشدداً على المنافع الکبرى التی تتحقق من هذا الاهتمام. فـ “العلم هو الوسیلة الأبرز لعزة بلد وقوته”.
لقد کانت الثورة الإسلامیة فی إیران عند انتصارها ممیزة بین الثورات التی شهدتها البشریة على امتداد قرون، فهی ثورة جمعت بین الجماهیریة الشعبیة وبین القیم الدینیة ـ الإسلامیة تحدیداُ ـ ما جعلها تقدّم نموذجاً مختلفاً على جمیع الصعد الفکریة التنظیریة والعملیة التطبیقبة, وما زالت هذه الثورة متفردة فی التجربة التی قدمتها | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 331 تنزیل PDF: 147 |
||||