النظام السعودی وصراع الوجود | ||
النظام السعودی وصراع الوجود فؤادابراهیم
شأن کل الکیانات الجیوسیاسیة القائمة على غیر عهود وطنیة، تتوارى الدولة وتصبح السلطة الضیقة وحدها العنصر المنغرس فی أداء رجالها، وحینئذ فحسب یتکشّف جوهر الکیان نفسه، إن کان حقاً دولة وطنیة أم شیئاً آخر، لا صلة له بالفئات الاجتماعیة المنضویة بداخلها.. من فضائل الربیع العربی أنه أزال القشرة المضلّلة عن الفاکهة الفاسدة، إذ توحدّت النعوت التی کانت تضفى على الکیانات الجیوسیاسیة قومیة أم اشتراکیة أم دینیة فی النهایة الطبیعیة والموضوعیة. فمدیونیة المعنى لم تنقذ هذه الکیانات من الحتف الحتمی، وسواء أکانت تحکم باسم الرب أم باسم الشیطان فإنها حین تجاوزت الإنسان، المعنی الأول والأخیر بالدولة، یعنی أنها اختارت أن تحارب من أجل مصلحة خاصة، لا صلة لها بطرف آخر حتى الشیطان نفسه.. لو أعاد التاریخ نفسه فی الجزیرة العربیة، لما لجأ آل سعود الى مصادر المشروعیة نفسها التی باتت عبئاً ثقیلاً على کیان ینوء الآن بأحمال التاریخ والأیدیولوجیا الدینیة، ورغم ذلک لا یزال یجد نفسه مرغماً على التماهی معها، لأن البدائل تبطن خطراً وجودیاً، بمعنى أن کل مصدر آخر للمشروعیة هو على النقیض من المصادر القائمة.. ثمة وقائع کبرى تخضع للفحص العام الیوم عبر قنوات المناظرة الشعبیة والتواصل الاجتماعی وتتصّل بجدارة وجدوى بقاء العائلة المالکة على رأس السلطة فی هذا البلد، وکذا الدور غیر المنضبط للمؤسسة الدینیة، فی مقابل دعوات متصاعدة ناحیة الانتقال الدیموقراطی وإرساء أسس الدولة المدنیة وفق عقد إجتماعی یشارک فیه کل المکوّنات السکّانیة، إن أرید لهذا الکیان البقاء موحّداً ومتماسکاً.. حتى الآن، لا یبدو أن النخبة الحاکمة المؤلّفة حصریاً من أعضاء فی العائلة المالکة فی وارد التفکیر بمنطق الدولة الوطنیة، وربما ساهم القصور الذاتی فی تعزیز مثل هذه النزعة، بدلیل أنها باتت تعمل فی ضوء خطاب غرائزی شدید الفئویة والطائفیة، وهو ذات الخطاب الذی أسّس السلطة السعودیة لکنّه أخفق إخفاقاً ذریعاً فی إقامة دولة وطنیة.. یعنی ذلک ببساطة، أن النکوص الى عقل ما قبل الدولة یشی بحقیقة أن الخطر بات وجودیاً.. لیس هناک الیوم عدد کافٍ من الأفراد لخوض معرکة المصیر من أجل إدامة أمد النظام السعودی، بالرغم من صخب الخطاب الطائفی المعمّم عبر قنوات سلطویة إعلامیة ومالیة ولوجستیة، فالأغلبیة السکانیة باتت فی مکان آخر، ولم تعد حقن «التقدیمات الاجتماعیة» کافیة لـ (تکسیل) الفعل الشعبی، فثمة فیض من التکتیکات فی المقاومة المدنیة یبدعها الشباب فی کل المناطق وهی کفیلة بأن تدفع القیادة السیاسیة لإعادة حساباتها.. حتى الآن، الرهان قائم على أن هذا الشعب وبفعل انقساماته المذهبیة والمناطقیة والقبلیة المرسّخة سلطویاً لن یکون قادراً على التوحّد فی حرکة احتجاجیة شعبیة، لکن ثمة معطیات جدیدة کشفت عنها أحداث جرت مؤخراً.. المغامرة الأمنیة التی أقدمت علیها وزارة الداخلیة برأسها الجدید الأمیر أحمد بن عبد العزیز بإطلاق النار على الرمز الدینی والناشط نمر النمر ثم اعتقاله بعد إصابته فی رجله وارتطام سیارته بجدار أحد البیوت فی بلدة العوامیة بمحافظة القطیف، جاءت فی سیاق إعادة ترمیم الهیبة الأمنیة، وتقدیم أوراق اعتماد الوزیر الجدید فی لعبة المنافسة على العرش، فهو یجد نفسه أمام فرصة تاریخیة کادت تفوت للأبد بعد التموضعات المخیبة التی جرت داخل حلبة السدیریین السبعة ودفعت به خارج الحلبة حیناً من الدهر.. لا یمکن لأی مراقب لأداء وخطاب النظام السعودی إلا أن یضعهما فی سیاق الذهول المنفلت بوحی من الإحساس بالذعر من خبایا التحوّلات الاجتماعیة التی جرت منذ انطلاق برامج التحدیث مطلع سبعینیات القرن الماضی. أخذت التحوّلات تلک أشکالاً متعدّدة ومتصاعدة وصولاً الى مرحلة العولمة الاتصالیة التی فقدت فیها مراکز التوجیه الدینی والسیاسی الرسمیة تأثیرها المأمول، وخصوصاً فی مرحلة باتت الحاجة الى تزخیم العصب وتأکید الاصطفافات الشعبیة حول النظام شدیدة الإلحاح.. یخطئ من یعتقد أن السیاسة الخارجیة السعودیة منوطة بجهة محدّدة، أو أنها تسیر وفق استراتیجیات بعیدة ومتوسطة وقصیرة المدى، کما یخطئ من یعتقد أن ثمة تباینات بین صنّاع القرار حیال ملفات لا یمکن أن یتسلل الیها الخلاف مثل: الیمن، والبحرین، والعراق، وسوریا، ولبنان، وإیران. فهذه ملفات لا تخضع لمبدأ المصلحة فحسب، بل ثمة عوامل أخرى ضالعة فی توحید الموقف السعودی الرسمی، ومن بینها العامل الطائفی، لیس لأنه غیر مندغم فی الفعل السیاسی وإنما على الضد هو یمثل الیوم مکوّناً سیاسیاً فاعلاً، بل یعمل حالیاً دوراً انقاذیاً للکیان، وإلا لما وجدناه حاضراً بسطوة فی اللهجة السعودیة الرسمیة وشبه الرسمیة.. هل کان رئیس الدیوان الملکی السابق ووزیر الدولة الحالی الأمیر عبد العزیز بن فهد مخطئاً حین نفث کلاماً طائفیاً على صفحته فی (تویتر)؟! وهل تصعید العدواة للشیعة واعتبارهم أخطر من الیهود کما یروج فی الوسط الدینی السلفی فی المملکة مجرد نفثة مصدور، أم أن الخطاب الطائفی أصبح مصدراً رئیساً للنظام السیاسی..؟ ولأن الطائفیة نقیض تکوینی للدولة، فإن اللجوء الیها یستهدف إنقاذ الســلطة على حساب الدولة. بل قد نذهب الى أبعــد من ذلک. إن الانغماس المفـرط فی الشأن الســوری ـ ولیس الثورة السوریة ـ یبتغی إعادة بناء المشروعیة الدینیة للنظام السعودی داخل المجال السنی العام، وأیضاً فی الوسط الاجتماعی السلفی کرد فعل على ما أحدثته الانتفاضات العربیة من تعــریة للمزاعم الدینــیة والتاریخیة التی نضبت تدریـجاً مع انتقال الربیع من بلد الى آخر.. وثمة ســؤال الآن: من یفکر الیوم فی دینیة الدولة السعودیة؟! ثمة مصدر قوة آخر تمسّکت به السلطة السعودیة وهو الانجاز الأمنی. وهنا کلام دقیق للغایة، فالدول الشمولیة لیست بحاجة الى مصادر عدیدة حتى تحافظ على استقرارها واستمرارها، فیکفی أن تملک أجهزة أمنیة قادرة على القمع وفرض الهیبة کیما تقیم کیاناً، تماماً کما لو أن شخصاً یمتلک أموالاً طائلة وبإمکانه أن ینظّم شبکة عصابات یقیم بها سلطة، لأن السلطة هی فی الحساب النهائی اختلال میزان القوة فی المجتمع لصالح طرف ما. و یتذکّر مناضلو الستینیات فی السعودیة ولا سیما الیساریون والبعثیون ما أحدثه عهد الملک فیصل من آثار نفسیة مرعبة، الى حد أن بعضهم لا یزال یعیش فی المنفى من وحی أهوال تلک المرحلة.. ولکن بعد مرور أکثر من أربعة عقود، فإن النضال الشعبی المدنی تصاعد الى مستویات متقدّمة، فیما لم تعد الهیبة الأمنیة للنظام تشکّل عائقاً أمام الحراک الشعبی، رغم أن أدوات القمع وأسالیبه لم تتغیر، بل ازدادت بشاعة لکنها إرادة الشباب التی قلبت المعادلة.. لیس من رهانات کثیرة متبقیة بعد انقشاع سحر الأیدیولوجیة الدینیة المشرعنة للسلطة، وأفول الهیبة الأمنیة، وهذا یفسّر الى حد کبیر الأداء المربک سیاسیاً وأمنیاً وعسکریاً. ثمة من یمرّر رأیاً مفاده أن التحضیرات للحرب الإقلیمیة القادمة تسمح بتقطیع مرحلة بخسارات جزئیة وتحمّل تبعاتها..لیس هناک فی المملکة السعودیة من یتحدّث الیوم عن إصلاحات سیاسیة أو حتى انفراجات موضعیة فی الملف الحقوقی، باستثناء تنفیس احتقان هنا أو هناک، والحال نفسه ینسحب على الملف البحرینی الذی بات سعودیاً بامتیاز. قد یبدو صحیحاً القول ان تعاوناً أمیرکیاً ـ سعودیاً فی الملف الاقلیمی یقوم على تهدئة أمیرکیة مؤقتة فی الستة شهور المقبلة ریثما تحسم هویة القادم الى البیت الأبیض فی مقابل تکفّل السعودیة بالحفاظ على سخونة الوضع الإقلیمی وصولاً الى اشعال الحرب المنتظرة منذ سنین لتغییر خارطة الشرق الأوسط بإسقاط النظام فی سوریا وشلّ القدرات النوویة الایرانیة وتحطیم حرکات المقاومة فی المنطقة.. کل ما سبق یأتی فی سیاق صراع الوجود، لأن النظام السعودی على وعی تام بأنه أمام فرصة تاریخیة لن تتکرر، فإما أن یحقّق انتصاراً فی الحرب القادمة ویستعید مکانة خسرها بعد الربیع العربی، أو أن یستعد لمرحلة الانفلات الجیوسیاسی بیده وأیدی حلفائه وخصومه. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,125 |
||