بمناسبة الذکرى الـ «33» لإختطافه دور الإمام موسى الصدر فی اسـتنهاض الامة و دحر الصهاینة | ||
الکتابة عن الإمام موسى الصدر فی أی مجال من مجالات حرکته وفکره لیست کتابة عن مرحلة تاریخیة مضت، لیتوقف الباحث عندها معیداً ترکیب الأحداث، وتحلیلها واستنتاج خلاصات منهجیة أو معرفیة، بل هی کتابة عن واقع معاش متصل وملتصق بدور الإمام الصدر. بصماته وتأثیره حاضران فی کل مسارات التحولات الجاریة على مستوى امتداد الساحة التی شغلها بحرکته وجهاده وفکره. وصعوبة الحدیث على من عاصر هذا القائد الفذ، تصل إلى حد استحالة وضع حاجز بین عاطفة متدفقة وتقدیر کبیر وبین الحرص على کتابة مستندة إلى مصادر البحث وعلمیة المنهج. الشخصیة القیادیة ما یمیز الشخصیة القیادیة هو تمتعها بصفات ذاتیة تجسد التزامها وذوبانها فی قناعاتها الفکریة والاعتقادیة إلى حد التطابق التام بین قولها وفعلها، وموقفها وعملها وکذلک سعیها الدؤوب وإیمانها الراسخ بقدرة شعبها وأمتها على مواجهة الأخطار والتحدیات وتحقیق تطلعاتهم وطموحاتهم فی التطور والتقدم والتحرر. والإمام الصدر واحد من أبرز هذه النماذج القیادیة فی تاریخنا المعاصر تقرأ فی کتابه فیبهرک سعة أفقه وقدرته على فهم حرکة الواقع وأسبابها ودقة تنبؤه وتوقعاته مثله لیس کمثل أولئک المتأملین، المتنبئین والحالمین، بل کمثل أصحاب الرسالات الساعین إلى التغییر والإصلاح ونشر رسالاتهم وأفکارهم مدرکین الظروف والأوضاع المحیطة بهم، بالتصدی والتفاعل والانفتاح بکل الوسائل والسبل المتلائمة مع الغایة والمبدأ. بالکلمة الناصحة الهادیة والموجهة، بالحرکة الدؤوبة المتصلة والملتصقة بهموم الناس وقضایاهم، بالانفتاح على مجریات الزمن وتحولاته والأحداث والقوى والتیارات والمذاهب المؤثرة بالتفاعل المنتج الذی یحرک قوى الخیر ویحدد وجهة المسیر. ویقترن کل ذلک مع حضور دائم ووعی متحرک وثبات على المبدأ واستعداد لا حدود له لتحمل تبعات الموقف والحرکة. مثل هذا النموذج من القیادات (لیس سیاسیاً بالمعنى المألوف لکلمة سیاسة المرادف للمصالح الآنیة أو الفئویة أو الذاتیة والمتمثلة بطموح أو صراع غایته التسلط طلباً لنفوذ أو وجاهة أو منفعة أو لهم معاً). هو نموذج من المصلحین، الذین یطلقون حرکة التغییر ویؤسسونها ویهبونها کل ما لدیهم وفیهم من طاقات وقدرة، فیترکون للأجیال عصارة فکر متجدد ولقوى التغییر خلاصة منهج قدوة .
المشروع والنهج والوسیلة لا ینفصل مشروع الإمام الصدر ونهجه ووسائل حرکته وعمله عن ثقافته والتزامه ومسؤولیاته الدینیة وإیمانه الحقیقی بالله، لا الإیمان التجریدی. والمستقرئ لنهج الإمام الصدر ووسائله یجد منهجاً حرکیاً جدیداً فی العمل الدینی وتجدداً وانفتاحاً فی مفاهیمه، هو نهج مماثل لنهج الإمام الخمینی (قدس سره) فی نظـرته إلى العالم الدینی وواجباته ودور الناس فی مشروع الاصلاح والتغییر ومواجهة الفساد والظلم والانحراف مع اختلاف فی الظروف وطبیعة ساحة العمل وجهل الکثیرین فی تلک الفترة لحرکة الإمام الخمینی (قدس). الحرکات الاسلامیة - الشیعیة منها خاصة - قبل حرکة الإمام الصدر وأثناءها حتى مرحلة ما قبل انتصار الثورة الاسلامیة فی إیران، کان منهجها فی العمل یرتکز على الوسائل والأنشطة التربویة والثقافیة وترى ذلک ضرورة لإعداد المجتمع وفق مراحل (تحاول فیها تقلید مراحل الدعوة فی عصر رسول الله (ص)) لا حدود زمنیة لها قبل التصدی للشأن العام السیاسی الاجتماعی. على ضوء هذا النهج التجدیدی والفهم الدینی للاسلام، (إسلام موسى الصدر) حدد الإمام مواقفه وأسباب تحرکه ومنطلقات حرکته وأهدافها وعلاقاتها مع الآخرین.
نظرة الإمام الصدر إلى اسرائیل اسرائیل کیان عنصری توسعی یستند إلى عقیدة مزیفة وادعاءات باطلة تبیح السیطرة والتوسع وتعطی لمعتنقیها الحق بالاستعلاء على بنی البشر من غیر الیهود، وهی بسبب هذا الاعتقاد جرثومة فساد. وهی وجود غیر شرعی فی تکوینها ، وممارساتها لا تحترم الاتفاقیات المعمول بها فی العالم ولا قرارات مجلس الأمن، ولا قرارات لجنة حقوق الانسان. هذا الوجود تجسید للشر المطلق، ویشکل تهدیداً دائماً للعرب والفلسطینیین واللبنانیین، وهو نقیض القیم الانسانیة المتمثلة بالعدل والخیر وکرامة الانسان ولا یمکن من الموقع الدینی قبول بقاء الاحتلال الصهیونی لأرض فلسطین. (إننی کمسلم لا یمکن أن أقبل ببقاء الاحتلال الصهیونی لأرض فلسطین، فکیف بالقدس، وکعالم دین یجب علیّ أن أعلن ذلک). محاربة هذا الکیان لیست محاربة للانسان بسبب دینه إنما محاربة للظلم والفساد والانحراف ولفکرة التفریق العنصری التی یصفها القرآن الکریم فی تحدیه لهذا الاستعلاء الیهودی (إن زعمتم أنکم أولیاء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن کنتم صادقین). ولیست محاربة لأهل ایمان، أو أهل کتاب بل هی محاربة لمن لم یحمل الکتاب ولم یعمل به. (مثل الذین حملوا التوراة ثم لم یحملوها). وتفسیر الإمام الصدر للآیة القرآنیة الکریمة التی تؤکد (ضربت علیهم الذلة والمسکنة).إنما هی إنشاء وأمر وطلب، ولیست إخباراً وحکایة ومؤداها إلقاء واجب علینا وتحملنا المسؤولیة ، وإلا فسوف نضرب نحن بالذلة والمسکنة. هذه الرؤیة المبدئیة العقائدیة المرتکزة إلى فهم طبیعة المشروع الصهیونی وأسسه العقائدیة وممارساته وأسالیبه هی التی أملت مواقف الإمام الصدر من الکیان الصهیونی وحددت وسائل التعامل مع وجوده غیر الشرعی ودفعته إلى تأیید ودعم المقاومة الفلسطینیة واعتبارها (الخیرالمطلق) طالما تقاوم (الشر المطلق). والمقاومة فی منظور الإمام الصدر جزء أساسی فی استراتیجیة الصراع مع الاحتلال الصهیونی وهی تمثل سبب إضعافه وإنهاکه، ولذا ینبغی المحافظة علیها والحرص على سلامتها. والمعرکة مع (اسرائیل) متعددة الأبعاد والوجوه، والبعد الوطنی لهذه المعرکة یفرضه الخطر الصهیونی على لبنان الذی یبدو جلیاً فی سعی قادة الحرکة الصهیونیة المبکر لضم أجزاء من لبنان إلى خارطة کیانه الموعود، لیتسنى لها عندما یحین ظروف الالتزام الاستعماری لتنفیذ وعد بلفور، أن تضع یدها على المیاه اللبنانیة وأجزاء من الجنوب. (إننا نملک مواثیق تؤکد أن أسرائیل تطمع فی جنوب لبنان وذلک حسب الخرائط المطبوعة من قبل السلطات الأسرائیلیة وحسب تصریحات المسؤولین وبموجب تصرفات الاسرائیلیین). ولا یقتصر الخطر الصهیونی على المیاه والأرض بل یشمل أیضاً تهدیداً للصیغة اللبنانیة الحضاریة المتنوعة القائمة على التسامح والعیش المشترک بین مختلف الطوائف والمذاهب. لأن هذه الصیغة نقیض حضاری للکیان الصهیونی العنصری المنشأ بالقهر والقوة والدعم الاستعماری بعد ارتکاب المجازر بحق أبناء فلسطین وطردهم من أرضهم. (إن وجود لبنان کدولة تشمل مذاهب مختلفة وعناصر متنوعة تعیش بنظام دیمقراطی مسالم لا یروق لدولة تقوم على أساس عنصری مذهبی).
المقاومة اللبنانیة ومراحل التأسیس على ضوء فهمه لدور لبنان وموقعه فی ساحة الصراع والمواجهة ومقارنته بالممارسات السیاسیة والانمائیة التی رأى فیها إحتقاراً للمواطن وتقزیماً لدور الوطن، رسم الإمام الصدر نهجه فی التحرک وحدد واجباته المنبثقة عن مسؤولیته الدینیة وفق مشروع یتکامل فیه البعد السیاسی والاجتماعی المتعلق بحقوق المحرومین والمناطق المتخلفة إنمائیاً والبعد الوطنی- والقومی المتمثل فی مؤازرة المقاومة الفلسطینیة ودعمها ومواجهة الخطر الصهیونی. وتدرجت وسائل التحرک من المطالبة الشعبیة والاحتجاج - إلى المسیرات والمهرجانات إلى التهدید بالعصیان المدنی من أجل دفع المسؤولین إلى تغییر السیاسات وإنصاف المناطق المحرومة حرصاً على العدالة الاجتماعیة التی هی رکیزة الاستقرار وعامل أساسی فی قوة ولاء المواطن لدولته وضرورة لصمود الجنوبیین وتحملهم لأعباء المواجهة وحرص الإمام على ممارسة حق التعبیر السلمی البعید عن استخدام السلاح واللجوء إلى القوة لفرض التغییر الداخلی وتحقیق المطالب السیاسیة والاجتماعیة. ما یهمنا فی الإشارة إلى تحرکه المطلبی، أن نبین أمرین: أولاً: رفضه استخدام السلاح فی الدعوة للتغییر والمطالبة بإنصاف المناطق المحرومة، رغم جهده الدؤوب ومطالبته بالتدرب وحمل السلاح، وتأکیده المتکرر أن دعوته لحمل السلاح هی فقط من أجل الدفاع عن الجنوب وصد الانتهاکات الاسرائیلیة وحفظ المقاومة الفلسطینیة ثم تطورت مواقفه بعد تطور الأحداث إثر اندلاع الحرب الداخلیة لیجعل للسلاح دوراً داخلیاً محدداً فی محاربة مشروع التقسیم من أجل (وحدة لبنان ومنع قیام إسرائیل أخرى أو اسرائیلیات تدعم اسرائیل الأم). (أما الاصلاحات الاجتماعیة والسیاسیة فإننا نرى ضرورة النضال الدیمقراطی المستمر لأجلها، حیث أن النضال المسلح فی مثل هذه الظروف یعرض الأهداف الکبرى للخطر). والدعوة إلى التدرب وحمل السلاح إنما بدأها بعدما فشلت نداءاته ومطالبته المتکررة فی حمل الدولة على تغییر نظرتها لدور الجیش، وعدم استجابتها لمطلب تقویته وتعزیز دوره فی حمایة أمن الوطن والمواطن، وتمسکها بمقولة (قوة لبنان فی ضعفه). وکانت محنة الفلسطینیین حاضرة دائماً فی عقله ووجدانه یذکر بها اللبنانیین حکومة وشعباً وکذلک الأنظمة والشعوب العربیة لیعوا جمیعاً خطورة المصیر، ولیحثهم على وجوب الدفاع عن الجنوب وتحمل مسؤولیة دعم صموده واعتبار أزمته قضیة وطنیة وعربیة. ولطالما نبه إلى خطورة إهمال ما یجری فی الجنوب وانعکاسه على کل الوطن. (لقد احتلت اسرائیل قسماً من الأراضی اللبنانیة فی العدیسة، وفی مزارع شبعا، وشردت منها خمسمائة عائلة لبنانیة، واحتلت مواضع للطرق التی شقتها داخل الأراضی اللبنانیة ولیس هناک من دلیل على معالجة هذه الأوضاع). ثانیاً: إن المطالبة بالعدالة الاجتماعیة وتنمیة المناطق المحرومة لیست منفصلة عن مشروع دعم صمود الجنوبیین لیتمکنوا من مؤازرة المقاومة الفلسطینیة وتحمل عبء القضیة القومیة وهی جزء من تفکیر الإمام الصدر فی بناء مجتمع الجد والصمود، (نحن نرید الجنوب صخرة تتحطم علیها أحلام اسرائیل وتکون نواة تحریر فلسطین وطلیعة المحاربین ضد اسرائیل). ویؤکد حقیقة هذین الأمرین مسارعة الصدر إلى إطفاء حریق الحرب الداخلیة ومواجهة الفتن الطائفیة، من اعتصامه فی (مسجد الصفا) فی (رأس النبع) إلى اندفاعه لیوقف الاقتتال فی منطقة البقاع (شلیفا- دیر الاحمر- القاع) بعباءته وعمامته وجهده المتواصل لوضع حد للحرب الداخلیة . و بقی سماحته مصراً على مبادئه وتوجهاته لإخماد الحرب الداخلیة متحملاً الأذى، ورافضاً استخدام السلاح إلا فی ثلاثة عناوین: 1- محاربة التقسیم. 2- صد الاعتداءات الصهیونیة. 3-حفظ المقاومة الفلسطینیة. (سنبقى فی طلیعة النضال فی سبیل أمتنا ووطننا، نختار الصدیق والعدو فی ضوء المبادئ لا الممارسات، لسنا أطفالاً ولا قبائلَ بل شموعٌ وکوادرَ وروّادٌ فی مجتمعنا وفی وطننا وأمتنا). تدرج الإمام على ضوء هذا النهج فی تأسیس المقاومة اللبنانیة من خلال تبیان أهمیة المقاومة وضرورتها، وتوضیح محدودیة قدرة العدو الصهیونی وأثر الاستشهاد فی حسابات موازین القوى العسکریة مستخدماً کل ما لدیه من حضور إعلامی وسیاسی وثقافی ودینی من أجل تصحیح المفاهیم وخصوصاً الدینی منها التی کانت تثیر التساؤل عن مشروعیة القتال ومن یتحمل مسؤولیة الدماء، وتعریض الأنفس للخطر. وکذلک مواجهة الآراء السیاسیة التی تبالغ فی تقدیر قوة العدو وترفض اتخاذ قرار المواجهة معه واستبدال دور لبنان القوی بضعفه محملاً أصحاب هذه الآراء مسؤولیة تقزیم دور لبنان وتهدید مصیر جنوبه الذی لا سلام للبنان بدون سلامه. (إن اسرائیل قویة ولکنها لیست إلهاً أو أسطورة، إذا أردتم أن تکونوا أقوى منها تعلموا، أمامکم تجربة الفلسطینیین، مأساتهم کانت أکبر من مأساتکم). لا شک أن تأسیس الإمام الصدر للمقاومة اللبنانیة یعتبر مشروعاً رائداً فی معادلة الصراع مع العدو ودور لبنان فی هذه المعادلة، ولا یتعارض ذلک مع مساهمة لبنانیین آخرین فی المقاومة الفلسطینیة أو تحالف بعض القوى والأحزاب معها، إلا أن أثر ودور المقاومة التی أسسها الإمام الصدر وارتکز فیها على ثقافة الناس وقیمهم یتجاوز بما لا یقاس أثر ودور تلک القوى مع الاحترام والتقدیر لتضحیاتها،لأن ما زرعه الإمام الصدر کان النبتة القادرة على النمو والاستمرار لأنها تنمو فی مناخ ثقافی وإیمانی وسیاسی ملائم لها، وهذا ما أثبتته تطورات الصراع مع العدو، وقدرة المقاومة التی نهلت من فکر الإمام الصدر وارتوت من فقه الإمام الخمینی وخطه وثورته والتی کانت القوة الأساس التی تحقق على أیدی مجاهدیها کل ما تنبأ به هذان القائدان العظیمان. فالإمام الصدر کان کمن یقرأ فی المستقبل عندما قال: (ان الإعتداء على لبنان وبخاصة على جنوبه، سیقابل بمعرکة تبدأ ولا تنتهی مهما کان تفاوت القوى واختلاف الموازین). کما أن مواقف الإمام الصدرکانت ضمن حالة الصمود العربی وقبل انهیار جدار مشروع تحریر فلسطین من جهة بعض الأنظمة العربیة وتوقیعها صلح منفرد، وکان سعی الإمام الصدر إلى تثبیت دعائم هذا الجدار بهدف تکامل دور المقاومة فی الجنوب مع الاستراتیجیة العربیة للصراع. إلا أن التحولات التی جرت بعد اختطافه أفرزت وضعاً جدیداً ومعادلات مختلفة على أثر مؤتمر مدرید وانهیار الاتحاد السوفیاتی ورغم ذلک ومع قراءة مسار التسویة ونتائجها المخیبة للآمال والعاجزة عن إیجاد حل ینهی المشکلة الفلسطینیة ویحرر القدس السلیب ویعید اللاجئین الفلسطینیین إلى أرضهم ویمکنهم من ممارسة حق تقریر المصیر. فإن نهج الإمام الصدر ومشروعه القائم على تحریک طاقات الناس وتعزیز صمودهم وتقویة روح الجهاد والشهادة لدیهم یبقى الأمل فی استنهاض الأمة ودحر الصهیونی من فلسطین وسائر الأراضی العربیة المحتلة. وما تجربة المقاومة فی لبنان وانجازها العظیم إلا تأکید لهذا النهج وتعزیز للأمل وکذلک فإن استمرار الشعب الفلسطینی فی انتفاضته ورفضه الخضوع والحلول المذلة ضوءٌ آخر فی نفق الأمة المظلم الذی لن ینتهی إلا بسلوک طریق بناء مجتمع الجد والحرب والصمود.
محمد فنیش | ||
الإحصائيات مشاهدة: 6,389 |
||