غرف أخبار.. أم غرف عملیات؟ | ||
غرف أخبار.. أم غرف عملیات؟ أکثر من نصف ما یجری على الأرض السوریة من أحداث ومواجهات، ینتمی إلى العالم (الافتراضی)..هذه الحقیقة تتأکد کل یوم.. تتابع بعض فضائیات (الناقل الرسمی للحدث) فتحسب أن القیامة قد قامت الآن، أو بعد قلیل، تهرع إلى مصادرک، تستل أرقام الأصدقاء القدامى والجدد، الذین صادف أن کثیرین منهم منتشرون فی عدد من النقاط الساخنة، تکتشف أن الأمر لیس کذلک، وأن (المواطن الصحفی) مدرب على الکذب والصراخ واستدرار العطف، وأحیاناً تکتشف أن الحدث مختلق بکامله.. تذهب إلى مصادر وتقاریر أکثر رزانة، فتکتشف أنک لست أمام إعلام مهنی، بل أمام (بروباغندا) من الطراز الردیء، حیث یتماهى الکذب بالحقیقة، الخبر بالتعلیق، والمعلومة بوجهة النظر، ودائما باتجاه واحد. حتى الان تبدو الصورة مُحتملة، لکن ما هو غیر محتمل، هو أن تکتشف بقلیل من العناء، أن لا جدار یفصل غرفة الأخبار عن غرفة العملیات، وأن رئیس التحریر هو ذاته، رئیس الأرکان، المعرکة واحدة على الأرض وفی الفضاء، وغالباً ما تکون معارک الفضاء أشد ضراوة واحتداماً من المعارک على الأرض.. غالباً ما یکون تأثیرها أشد وقعاً وتأثیراً، لا على البسطاء من الناس فحسب، بل وعلى القوات والمقاتلین والقیادات السیاسیة والعسکریة والصحافة والمحللین والحقوقیین والناشطین. لم تعد وظیفة (الفضاء) تغطیة الحدث ومتابعته أو حتى استشرافه، بعد أن تماهت مهمته مع مهمة صنع الحدث.. لقد بات جزءاً من ماکینة صنع الحدث، لذا صار یتعین علیه أن یکون حاضراً بمندوبیه ومحرریه فی غرفة العملیات، حتى یحضّر أدواته وکامیراته ومراسلیه مسبقاً.. هو یعرف بما سیحصل فی کثیر من الأحیان والوقائع، وهو أنجز للتو (وظیفته المنزلیة)، أعد تقاریره ومتابعاته مسبقاً، کل شیء جاهز للحظة الانقضاض الکبیر، کل الإمکانیات المسخرة لخدمة أهداف غرفة العملیات.. لقد صار (الفضاء) ملحقاً بدوائر الاستخبارات ووزارات الخارجیة فی الدول التی تمتلک الفضاء وتتحکم به وتسیطر على موجاته وتردداته. قدیما کانت المعارک تُحسم من (الجو)، فی إشارة للأدوار المتزایدة لسلاح الطیران فی المعارک التقلیدیة.. حرب حزیران 67 مثلاً، حسمت من الجو قبل أن تندلع على الأرض.. الیوم یبدو أن الحروب باتت تحسم من الفضاء، من دون إطلاق طلقة واحدة أو صاروخ واحد.. ومن منّا یستطیع أن ینکر أو یتنکر لحقیقة أن (الفضاء) أصبح فی السنوات العشر الأخیرة، طلیعة صدامیة مقاتلة فی کثیرٍ من أحداث الربیع العربی، ومن قبلها فی حروب ومواجهات خاضها العرب ضد أعدائهم أو فیما بینهم؟ لیس المهم أن یکون (الفضاء) مهنیاً، المهنیة أولى ضحایا (حروب الفضاء).. المهم أن یکون مقتدراً.. قادراً على استدعاء جیوش الاحتیاط من الصور الأرشیفیة وتقاریر (المواطنین – الصحفیین) والمحللین والمفکرین والشیوخ (غبَ الطلب).. عندها یمکن للفضاء أن یکذب ویکذب حتى یصدقه الناس، بل وحتى یصدق نفسه.. وسیحل الکذب محل الحقیقة وسیکون له مفعولها، خصوصاً حین یکون الخصم ضعیفاً فی (الفضاء) أو أن یُسقَطَ عن الفضاء بقرار من هیئة الأرکان وغرفة العملیات ذاتها. لکن حبل الکذب قصیر مهما طال واستطال، فأنت تستطیع أن تکذب على کل الناس بعض الوقت، أو على بعض الناس کل الوقت، لکنک لا تستطیع أن تکذب على کل الناس کل الوقت.. وهذا ما تکشّفت عنه التجربة اللیبیة. فی سوریة، یتفوق (الفضاء) على نفسه.. یتخلى عن مهنته ویتحول إلى طراز (غوبلزی) من (البروباغندا).. یدخل الحرب قاتلاً أو مقتولا.. ینافح عن مالکیه وداعمیه وأجنداتهم وتحالفاتهم وضغائنهم وحساباتهم الکبیر منها والصغیر.. سوریة هی الامتحان الذی یکرم فیه المرء أو یهان، و(الفضاء) أهین فی سوریة لأنه استهان بعقولنا واستخف بذکائنا، وهیهات أن یعود (الفضاء) لسابق مجده فی النفوذ والتأثیر. کانت إحدى الفضائیات تبث صوراً لما قیل أنها مجازر تعرض لها مسلمو بورما، تلک المجازر التی ملأت الفضاء الرقمی والافتراضی، مشفوعة بصیحات (الله أکبر) و(وا معتصماه) شبیهة بتلک التی نسمعها فی مطلع کل تقریر وخاتمته، من تلک التقاریر التی راجت فی الأزمة السوریة.. لیتبین أن کثیرا من الصور تعود لمجازر أمریکیة فی فیتنام فی أواسط ستینات القرن الفائت، أو لأکداس من الجثث جمعها رهبان بوذیون لضحایا الزلازل والفیضانات، هکذا وبکل صفاقة أو وجل. و أمثال ذلک من فیض الأکاذیب والفبرکات کثیر. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,174 |
||