فلســفة الشــریعة | ||
![]() | ||
فلســفة الشــریعة محمدتقیرهبر قبل الخوض فی صلب البحث، من الضروری الالتفات الى هذه الملاحظة وهی، ان الدین یتشکّل من عناصر رئیسة ثلاثة: العقائد والشرائع والاخلاق. وان الروح السائدة علیها هی روح الانقیاد والطاعة والتسلیم والتعبُّد بمفهومها المطلق إزاء مبدء الخلق. ولهذا فالعناصر الثلاثة هذه غیر قابلة للتفکیک او التجزئة.. فالعقائد لا تدوم بدون الشرائع والاخلاق. کما ان کلاًّ من الشرائع والاخلاق تلعب دوراً عملیاً فی استقرار العقائد وترسیخها. وهکذا الشرائع والاخلاق، فهی تفتقر الى الاساس والقاعدة من دون الایمان والاعتقاد. والشیء نفسه بالنسبة لعلاقة الاخلاق بالاحکام والشرائع. فکما ان التأثیر المعنوی للشرائع یتحقق فی ظل الملکات النفسانیة الفاضلة، فالفضائل ایضاً تنمو وتسود وتتأصل فی ظل الشرائع. وعلیه فالدور التربوی للشرائع وتأثیره فی الاخلاق، حقیقة واقعة تستمد وجودها من تداخل ارکان الدین وانسجامها. فکل من الاحکام والعبادات والتکالیف الشرعیة، تتسم بمنفعتها للانسان وتأثیرها الخاص فی حیاته الفردیة والاجتماعیة، وقد أُخذ ذلک بنظر الاعتبار فی تشریعها. اما الفلسفة العامة لهذه التکالیف فأنها تکمن فی الکمال الانسانی والتربیة الاخلاقیة. وفیما یخص (المحرمات) و(المکروهات) فانها کانت موضع نهی و رفض بسبب الآثار السلبیة التی تترکها على حیاة الفرد والجماعة. وبصورة عامة لم ینعت ای امر (بالوجوب) او (الاستحباب) الا لأنه یتحلّى بدور ایجابی وبنّاء. وهکذا الحرام والمکروه، فلو لم تکن للشیء آثار تخریبیة وتبعات غیر مرغوب فیها لما نعت بذلک. ویمکن لمس هذه الحقیقة بأدنى تأمّل فی الاحکام والشرائع. وسنحاول هنا الوقوف على حقیقة العبادة و سرًها ، وبناء الانسان، و البعد التربوی للصلاة، والفلسفة التربویة للمحرمات. حقیقة العبادة و سرّها العبادة تعنی الخضوع والانقیاد.. وهی بهذا المفهوم العام حقیقة نافذة فی جمیع الممکنات؛ وان کل من فی السماوات والارض رهن اشارة واجب الوجود: (ان کل من فی السماوات والارض الاّ آتی الرحمن عبدا) (1) . وهذا یعنی أن جمیع الکائنات تسبّح لله - بلغة الحال او لغة المقال - رغم ان ذلک غیر مفهوم لدینا : (وان من شیءٍ الاّ یسبح بحمده ولکن لا تفقهون تسبیحهم) (2) . وان فلسفة هذا التعبد، ای اتباع القوانین والسنن التی اودعها مبدء الوجود فی کل موجود، تکمن فی تکامل الموجودات. اما بالنسبة للانسان فالعبودیة لها مفهوم اسمى، فهی فضلاً عن بعدها (التکوینی) تتَّسم ببعدها (التشریعی)، الذی ینبع من ارادة الانسان واختیاره. فمعرفة الله الأحد الصمد، بوصفه اکمل الذوات والصفات ومنزّهاً من ای عیب او نقص ؛ ومعرفة ارتباطه بالکون حیث (الخلق) و(الحفظ) و(الفیض) و(العطف) و(الرحمن)، توجدان فی النفس رد فعل یعرف بالعبادة. وعلیه یمکن القول فی تعریف العبادة: انها نوع من العلاقة الحمیمة تتسم بالاستجابة والحمد والثناء، یوجدها الانسان مع ربّه على اساس المعرفة والاحساس والارادة والاخلاص. وتتجلى العبادة فی مظاهر ثلاثة: القلب والعمل واللسان. وتکون بدرجات متفاوتة. ویحظى کل مظهر من المظاهر الثلاثة بالأهمیة وفقاً للدرجة والمرتبة. ورغم ذلک لابد من البحث عن المصدر الاصلی للعبودیة فی القلب بالذات. و علیه فالعبادة تحلیق الروح الولهانة نحو مبدء الوجود و منبع الکمال والجمال على الاطلاق، بنحو یشعر القلب بتمام وجوده بارتباطه بالله وانقطاعه عمَّن سواه. ویرى المرء نفسه فانیة فی ذات الحق. وتستمر هذه المرتبة من العبادة بعد الموت فی عالم الآخرة أیضاً. وفی مقام العمل، تمثل العبادة حرکة الانسان الواله على طریق العبودیة والتسلیم العملی، بدافع ادراک حقیقة المعرفة ومراتب من الکمال غیر المتناهی، الکامنة فی کنه العبادة. یقول الامام جعفر الصادق (ع): (العبودیة جوهرة کنهها الربوبیة، فما فقد فی العبودیة وجد فی الربوبیة، وما خفی من الربوبیة أصیب فی العبودیة). ولهذا اعتبر الله تعالى فلسفة الخلق وخلق الانس والجن، العبادة والعبودیة: (وما خلقت الجن والانس الاّ لیعبدون) (3) .فالانسان خلق للعبادة، وقد اودع فیه ما یجعله میالاً للعبادة، وعن هذا الطریق یتمکن من العثور على ذاته الضائعة. ولذلک لا یمکن فصل العبودیة عن الهویة الانسانیة. کما ان فلسفة الشرائع الإلهیة لم تکن سوى عبادة الحق الخالصة بمفهومها الواسع، والله سبحانه قد امر بذلک: (وما أُمروا الاّ لیعبدوا الله مخلصین له الدین) (4). العبودیة والصراط الالهی المستقیم هما عهد الله القدیم مع الانسان لکی یحرره من الشرک والانانیة واتباع الهوى والحیرة و الضلال، ویسمو به الى الکمال. و هکذا فـ(الخلق) و(الامر) و (التکوین) و(التشریع) تدعو الناس بدرجة متساویة ومنسجمة الى عبادة الحق تعالى.
العبادةوالقُرب نعلم جمیعاً ان العبادة مشروطة (بقصد القربة). والقرب المعنوی هو الفناء فی الحق.. اکتساب الصبغة الالهیة.. الانصهار بحرارة الایمان والتحرر من المتعلقات. وهذا بحد ذاته له درجات. فاذا ما تحققت للعبد احدى درجات القرب، وتجلّى عامل العبودیة والخشوع فی نفسه، سیجد حال الملَک، وتصطبغ شاکلته الباطنیة والظاهریة بصبغة إلهیة، ویصبح مظهراً لصفات الله: العدل، والرحمة والخیر، والفضیلة، والطهارة؛ ویعرض بوجهه عن کل ما یوجب البُعد عن الله. وما حقیقة التهذیب والاخلاق فی الاسلام غیر ذلک. یقول الامام علی بن ابی طالب(ع): (دوام العبادة برهان الظفر بالسعادة) . ویقول ایضاً: (فضیلة السعادة حسن العبادة).
العبادةوبناءالانسان العبادة هی من اجل تربیة الانسان المتکامل. وکل سالک تتحقق له درجة من الکمال على قدر ادراکه وفهمه لحقیقة العبودیة والقرب.. العبادة والدعاء یوصلان القلب بالله. و یغذیان الروح معنویاً، ویقودان الجوارح للتسلیم فی مقابل الذات القدسیة الکاملة. وبقدر ما یتمتع الانسان بمدارج العبودیة، یقترب من الکمال المطلق ومبدأ الربوبیة.. تتخذ افعاله صبغة إلهیة، ویتحقق جوهره الانسانی، ویتحرر من اسر النفس.. وبتفوقه على عالم المادة، وخروجه عن مدار الزمان والمکان، وارتباطه بمبدأ الازل؛ یتحرر من الفناء والزوال ویمسی خالداً. وفی هذه الحال لا تصبح عباداته ومناسکه خالصة لوجه الله فحسب، بل تظلّل اجواء العبادة وجوده کلّه حیاته ومماته: (قل ان صلاتی ونسکی ومحیای ومماتی لله ربّ العالمین) (5). و إذا ما وعى الانسان فلسفة خلقه، و راح یطوی المسیر الذی اختاره الله لکماله ، متناغماً مع مجموعة الوجود المسخّرة للحق وتسبّح باسمه، ، بحریة ووعی وارادة راسخة، ویفنی فی ارادة الحق افعاله واخلاقه وارادته؛ تصبح جمیع لحظات حیاته فی مسار القرب الالهی، وتکون علاقته مع نفسه ومع الخلق والکون بمثابة الدوران حول ارادة (الله)، وبذلک تتخذ (التربیة الاخلاقیة) صبغة الهیة. والانسان المتخلق بالاخلاق الالهیة یفرّ من کل ما له سمة نفسانیة او شیطانیة، ویسمو الى منزلة (الولایة الالهیة المطلقة)،و الى مقام العصمة الذی یختص بالانبیاء والاوصیاء، فیرقى الى مایلی العصمة التی هی منزلة الاولیاء. هذا فی الوقت الذی نرى الانسان المحکوم بالانانیة وعبادة الذات، یصبح بعیداً عن الله - مقام العبودیة والانسانیة - ویمسی مطروداً من منزلة القرب، فیهوی فی (اسفل سافلین)، وتدل افعاله وتصرفاته على هذا السقوط والانحطاط. هذه هی الفلسفة العامة للعبادة وتأثیرها على تهذیب النفس وتکاملها باختصار. وفضلاً عن ذلک فان لکل عبادة تأثیراً تربویاً خاصاً بها، نشیر هنا الى جانب منه:
البعدالتربویللصلاة الصلاة من اشمل العبادات، واجمل الدعاء، واکثر العناصر نفخاً للروح فی العبادة، وهی معراج المؤمن: (الصلاة معراج المؤمن). وقد وصفها الرسول الاکرم (ص) بقوله: (الصلاة عمود الدین، إن قبلت قبل ما سواها، وان ردّت رُدَّ ما سواها)؛ وهی لا تسقط عن المکلف مهما کانت الاسباب. والصلاة قابلة للبحث من جوانب مختلفة: فردیة واجتماعیة.. سیاسیة واقتصادیة... عبادیة وانضباطیة... جسمانیة وروحانیة.... اخلاقیة وعرفانیة. وفیما یلی سنتناول بإیجاز الجانب التربوی والاخلاقی للصلاة. من الممکن دراسة البعد العملی والتربوی للصلاة من جوانب عدیدة بدءاً بالمقدمات کالغسل والوضوء وطهارة البدن واللباس، وعدم مغصوبیة المکان واللباس، ومعرفة الوقت، واتجاه القبلة؛ وما یلعبه کل واحد منها فی تربیة الجسم والروح والطهارة والتقوى والنظم والانضباط والخلق الفردی. وانتهاءً بالارکان والواجبات والمستحبات کالقیام والقعود والسجود والرکوع والقراءة والاذکار والتحمید والتنزیه والمفاهیم العرفانیة السامیة التی تشتمل علیها کل واحدة من هذه. فکل واحد من ارکان الصلاة او مقدماتها، الواجب او المستحب، یترک تأثیره المعنوی والروحی على النفس... وان کل واحد من المعارف التی تُعلّمها الصلاة یعتبر انموذجاً عمیقاً فی التعالی والتکامل والتهذیب وتربیة النفس وطهارتها من الشرک والریاء والغرور والتکبّر وعبادة الذات، وانعدام التقوى والرذائل الاخلاقیة الاخرى التی تحدثت عنها الآیات والروایات. الصلاة الکاملة والبنّاءة هی تلک التی تکون ، فضلاً عن تحلیها بالآداب الظاهریة واحرازها (شروط الصحة)، مقرونه بالآداب الباطنیة ای (شروط القبول)، مثل الخلوص وحضور القلب والخشوع وحضور النفس وصفائها، والابتعاد عن السیئات الباطنیة والاخلاقیة کالکبر والعجب والحسد والحقد والنفاق وانعدام التقوى - التی هی من مستلزمات شروط الصحة - لکی تخلّص روح المصلی من الموبقات بشکل کامل، وتکون معراج المؤمن، وتساعده فی سیره الصعودی وسموه الروحی لیحظى بالقرب.. ویتحدث القرآن الکریم عن فلسفة الصلاة ودورها الرادع، بعبارة جامعة مانعة، اذ یقول عزّ من قائل: (ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنکر ولذکر الله اکبر) (6) . اما ما یرتبط بروح الصلاة وفحواها، فهو ذکر الله والذی من غیره لن تکون الصلاة اکثر من جسد بدون روح. وان روح الذکر ومعناه یتحققان للمصلی من خلال الصلاة. ویستمر على هذا النحو بشکل متکامل تبعاً للظروف الصوریة المعنویة والتوجه والاخلاص، لیکون دلیله الى مقام القرب. یقول الامام علی (ع) فی اشارة الى دور الصلاة فی تزکیة النفس: (والصلاة تنزیهاً لکم عن الکبر). ویشبه الرسول الاکرم (ص) الصلاة بعین ماء تکون الى جوار بیت المسلم یغتسل فیها کل یوم خمس مرات، فتنزع عن جسده الادران. وعلیه فالصلاة هی الوسیلة الوحیدة التی تلعب دوراً فی التزکیة والتهذیب، ویتعامل معها الانسان صباح مساء، ویحرص على ادائها طوال عمره على احسن نحو بوصفها افضل العبادات. وتعتبر المراقبة المستمرة والمتواصلة للمکلف عاملاً فی تهذیب النفس وتزکیتها وتقواها.
العلاقةبینالصلاةوالتقوى الصلاة من جهة هی عامل تزکیة وتهذیب وتحقق روح التقوى. ومن جهة اخرى فإن تأثیرها الواقعی مرهون بالتقوى. والتقوى هی بمثابة المکمل لتأثیر الصلاة. ولهذا فالصلاة والتقوى متلازمتان الى حد کبیر ولهما تأثیر متقابل.. یشیر الامام الصادق (ع) الى دور الصلاة فی النهی عن المنکر بقوله: (اعلم ان الصلاة حجزة الله فی الارض. فمن احب ان یعلم ما یدرک من نفع صلاته فلینظر فان کانت صلاته حجزته عن الفواحش والمنکر فانما ادرک من نفعها بقدر ما احتجز). وبطبیعة الحال ان تأثیر الصلاة على المصلین لا یکون واحداً من حیث مراتب التوجه والخلوص والتقوى وذکر القلب وغیر ذلک. ولکن على ایة حال لن یحرم المصلی من سمتها الناهیة عاجلاً ام آجلاً، قلیلاً ام کثیراً. لذا ینبغی ان لا یستخف بأمر الصلاة او یسهو عنها مهما کانت الظروف، وان لانیأس من آثارها المرجوة، لأن القصور او التقصیر فی امر الصلاة موجب للکفر والعصیان وسائر السیئات. وقد ورد فی الروایات: ان شاباً من الانصار کان یقیم الصلاة خلف الرسول (ص)، وفی الوقت نفسه کان لا یمتنع عن ممارسة الموبقات. فأخبروا الرسول (ص) بحال هذا الشاب، فقال (ص): سوف یأتی الیوم الذی تنهاه صلاته عن فعل ذلک.. وفی روایة أخرى، قالوا لرسول الله (ص): ان الشخص الفلانی یصلی فی النهار ویسرق فی اللیل. فقال (ص) : سیأتی الیوم الذی تردعه صلاته عن هذا العمل.
الهوامش: 1 ) سورة مریم، الآیة 93 .2 ) سورة الاسراء، الآیة 46 . 3 ) سورة الذاریات، الآیة 56. 4 ) سورة البیّنة، الآیة 5. 5 ) سورة الانعام، الآیة 162. 6 ) سورة العنکبوت، الآیة 45. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,204 |
||