فی ذکرى شهادته 25 شوّال الجهاد العلمی للامام الصادق | ||
فی ذکرى شهادته 25 شوّال الجهاد العلمی للامام الصادق جعفرالبیاتی بعد وفاة کلّ رسول تتعرّض الرسالة الى تیّاراتٍ عدیدة من التشکیک والتأویل وکثرة الآراء واختلاط الاحادیث الدخیلة بالصحیحة، وبالتالی تظهر الدعواتُ الضالّة وفِرقُ الرِدّة والانحراف. فما هو الضامن؟ والى من ترجع الامة؟ ومن الذی یحفظ الشریعة من ایدی التشویه وقد قال تعالى (إنا نحنُ نزّلنا الذکرَ وإنّا له لحافظون) الحجر: 9؟ حسب قاعدة اللطف الإلهیّ فقد بعث الله – سبحانه – أنبیاءه ورسله لهدایة البشر، وحسب القاعدة ذاتها جعل من بعدهم أولیاء حُماةً لدینه، فنقرأ مثلاً فی دعاء الندبة بعد ذکر الانبیاء قول الامام المهدیّ (علیه السلام): (وکُلاّ شرعت له شریعةً، ونهجتَ له منهاجاً، وتخیّرت له اوصیاء، مستحفظاً بعد مستحفظ، من مدّةٍ الى مدّة، إقامةً لدینک، وحجّةً على عبادک، ولئلا یزول الحقُّ عن مقرِّه، ویغلبَ الباطل على اهله..). وقد نقل التاریخُ روایات متواترة کثیرة شهدت لأوصیاء المصطفى (صلى الله علیه وآله) أنّهم کانوا اعلمَ الناس وأقضاهم، وکانوا یجیبون على کلّ سؤال ویردّون على کلّ شبهة، ویحلّون کلّ معضلة، صغاراً فی اعمارهم أو شباباً أو شیبة، حتّى قال الإمام علیّ (علیه السلام): (سلونی، قبل أن تفقدونی) فقال أصحابُ السیر: لم یقلّها غیره، وحتى قال أکثرُ من واحد: لولا علیّ لهلک فلان.
عالم أهل البیت شارک الامام الصادق (علیه السلام) - وله من العمر خمس سنوات - فی بناء المسجد الحرام، حتى اذا بلغ العاشرة من عمره المبارک کان یحضر درس والده الامام الباقر (علیه السلام)، فلمّا ورد الحاکم الاموی الولید بنُ عبد الملک المدینة المنوّرة وأراد مشاهدة المسجد حضر الدرس وکان یدور حول الفلک، فأصغى طویلاً دون ان یفهم شیئاً، لکنّه وقع نظره على غلام فسأل والیه على المدینة (عمر بن عبدالعزیز) عنه، فقال له: إنه جعفر بن محمّد الباقر، فتساءل الولید باستغراب کیف یستطیع مثل هذا أن یفهم ما یُطرح فی هذه الحلقة، فدعاه عمر الى سؤاله، فأخذ الولید یطرح علیه الاسئلة العدیدة وکان یسمع من الامام الصادق (علیه السلام) فی کلّ مرّة اجوبتها فیزداد تعجّباً، وکان منها: - مَن هو صاحب المنطق؟ فأجابه بأنه أرسطو، وهذا لقب خلعه علیه تلامیذه. - من هو صاحب المغز؟ فأجابه بأنّ هذا لیس اسماً لشخص إنما هو اسم لمجموعة من النجوم تُدعى بـ(مسک الأعنّة). عاش الامام (علیه السلام) فی فترةٍ قاسیة، حیث وُلد سنة 82 هـ والامة تلاقی الأمرّین من حکّام الجور وظواهر الفساد، ونشأ فی زمن تنازعت فیه الأهواء والأفکار، وسادت الوشایاتُ والاتّهامات، وزاد التضییق على أهل بیت النبیّ (ص) ومُوالیهم. وقد استثمر الامام الصادق (علیهم السلام) تلک الفترة التی شُغل الکثیر بالتکالب على السلطة، فأسس مدرسته العلمیّة وبثّ خلالها معارفَه النیّرة فی الآفاق. وقد توافد على مدرسته آلاف العلماء الکبار فی الحدیث والتفسیر والحکمة والکلام، فضلاً عن طلاّب العلم والرواة الذین أمّوه من الأقطار النائیة.
المقامُ العلمی شهِد القاصی والدانی والمؤالف والمخالف انّ الامام الصادق (علیه السلام) هو صاحب المقام العلمیّ الفرید الذی لاینازعه فیه احد، وقد توافدت کلماتُ الثناء والإکبار علیه من الحکّام وأئمّة المذاهب وأهل العلم والمؤرّخین واصحاب السیر والتراجم ما تزدحم فلا یجمعها الا کتاب، فنکتفی بالقلیل حیث ما لا یُدرک کلُّه لا یُترک جلّه ولا لیسقط المیسورُ بالمعسور. فی (تذکرة الحفّاظ) للذهبّی 157:1: ( قال - أبو حنیفة - ما رأیتُ أفقه من جعفر بن محمّد، لما أقدمه المنصور بعث إلیّ فقال: یا أبا حنیفة، إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر، فهیّىء له من المسائل الشداد. فهیأتُ له اربعین مسألة، فلما ابصرتُ به دخلتنی من الهیبة لجعفر بن محمد الصادق مالم یدخلنی لأبی جعفر (المنصور)... فجعلتُ ألقی علیه فیُجیبنی فیقول: (أنتم تقولون کذا، وأهل المدینة یقولون کذا، ونحن نقول کذا)، فربّما تابعهم وربّما خالفنا جمیعا. حتى اتیتُ على الاربعین مسألة. ثم قال أبو حنیفة: ألسنا روینا أنّ اعلم الناس اعلمهم باختلاف الناس). وقال الآلوسیّ، فی (التحفة الاثنا عشریّة) ص8: هذا أبو حنیفة – وهو من أهل السنّة – یفتخر ویقول بأفصح لسان:(لولا السنتان، لهلک النعمان. یعنی السنتین اللتین جلس فیهما لأخذ العلم عن الامام جعفر الصادق). ونقل النجاشیُّ فی رجاله ص 31 عن الحسن بن علیّ الوشاء أنّه قال: (أدرکتُ فی هذا المسجد - یعنی مسجد الکوفة – تسعمائة شیخ کلُّ یقول: حدّثنی جعفر بن محمد) – هذا مع ان الإمام الصادق (علیه السلام) کان یعیش مراقبةً شدیدة من قبل السلطة العبّاسیة. وفی (شرح نهج البلاغة 18:1) قال ابن ابی الحدید المعتزلیّ: -( أمّا أصحاب أبی حنیفة کابی یوسف ومحمد وغیرهما فأخذوا عن أبی حنیفة، وأمّا الشافعی فقرأ على محمد بن الحسن، فیرجع فقهُه أیضاً الى أبی حنیفة، وأمّا أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعی فیرجع فقهُه أیضاً الى أبی حنیفة، وأبو حنیفة قرأ على جعفر بن محمد (علیه السلام)..). وفی مقدمة کتاب (الهفت والأظلّة ص 15 – 16)الصادر عن معهد البحوث الشرقیّة لـ (عارف ثامر، والأب أ. عبده خلیفة الیسوعیّ): - (عندما یتفرّغ الباحث لدراسة شخصیّة الامام جعفر بن محمّد دراسةً صحیحة على ضوء الضمییر النقیّ، والواقع العقلیّ، والتجرّد العلمیّ، متّبعاً الأصول الحدیثة، مبتعداً عن مرض التعصّب، فلا یستطیع إلاّ الإقرار بأنها مجموعةُ فلسفیّة قائمة بذاتها، تزخر بالحیویّة النابضة، والروحیّة المتجسّدة، والعقلیّة المبدعة التی استنبطت العلوم، وأبدعت الأفکار، وابتکرت السنن، وأوجدت النظم والاحکام).
انجازات علمیة باهرة إمتازت الفترة التی عاشها الامام الصادق (سلام الله علیه) بأنها مرحلة نموّ العلوم وتزاحم الثقافات، وذلک لانفتاح البلاد الاسلامیة على الامم الأخرى، ولانتشار الترجمة التی مدّت جسوراً من التبادل الفکریّ فنقلت کثیراً من الفلسفات الى العرب، حتى بدأ الغزو الثقافیّ الذی جاء بالعادات السیّئة والاتجاهات المنحرفة، فنشأ على أثرها الإلحاد والآراء الهجینة والعقائد الضالة. وقد تطلّبت تلک الظروف ان ینهض رجلُ عالم شجاع یردّ عادیة الضلال عن حصن الرسالة الاسلامیة، فکان ان قیّض الله (جل وعلا) ولیَّه الامام الصادق (علیه السلام) الذی فاضت حیاته بالعطاء والعلوم الغزیرة المتعددة من الحدیث والتفسیر والعقیدة وسائر ابواب الفقه والشریعة، نقلها نقلاً امیناً فکانت امتداداً نزیهاً عن معارف النبوّة ومنابع التشریع والرسالة، حتّى لُقّب بالمحقّق وکاشف الحقائق. فأصبح (علیه السلام) مرجع الأمة وإمامها الذی تتلمذ على یدیه مئاتُ الأعلام من الفقهاء والمشایخ، فتح لهم باب التخصّص العلمیّ فی المعارف العقلیة والطبیعیّة کالفلسفة والکلام والکیمیاء والریاضیات، اضافة الى ابواب الشریعة الاسلامیة، کما وضع القواعد الواضحة لمسائل الأصول والفقه لیربّی فی تلامیذه ملکة الاجتهاد والاستنباط: کقاعدة الاستصحاب، والبراءة، والضمان، والتخییر... وغیرها. وبما انّ الغزو الفکریّ الطارىء من الغرب قد رافقته حریّة غیر موجّهة وانفتاح فی إبداء الآراء ممّا احدث ارتباکاً فی عقائد المسلمین، فقد جنّد الامامُ الصادق (علیه السلام ) جهوده العلمیة الهائلة لمواجهة الانحراف بمواقف علمیّة عقائدیّة، بالاجابة عن کلّ مسألة، وردُ کلّ شبهة، وإفحام کلّ تشکیک أو تضلیل، وبیان کلّ امرٍ من امور الدین والدنیا ممّا یُتساءل عنه، حتى استطاع بذلک الجهاد العلمیّ المؤیّد برعایة الله وعنایته ان یوقف الزحف الضلالیّ على العالم الاسلامیّ، ویکشف زیفه ویبیّن اباطیله. وبعد أن کان قد ساهم مع ابیه الباقر (علیه السلام) فی تأسیس جامعة اهل البیت فی المدینة المنوّرة، جعل من الجامع النبویّ أو الحرم النبویّ مرکزاً لإلقاء دروسه، حتّى تحوّل الى اکبر معهد من المعاهد الاسلامیة فی زمانه، فربّى جیلاً عالماً انتشر فی انحاء البلاد فبثّ حقائق الدین وبیّن معالمه. قال المرحوم اسد حیدر فی کتابه القیّم (الامام الصادق والمذاهب الأربعة 367:1): (کانت مدرسته (علیه السلام) ثابتة المبدأ متّصلة الکفاح، وجد الناسُ فیها ثروة علمیّة، وکانوا یحیون فیها حیاة فکریة تهذّب النفوس وتسمو بالعقول، وترتقی بهم الى أوج المعرفة والکمال. وکان غرضه المباشر هو توجیه الناس الى أسمى درجة من التفکیر، وإفهام الامة نظم الاسلام على الوجه الصحیح، وتطبیقه بین افراد الامة عن طریق العلم وحریة التفکیر، لیعالج مشاکل ذلک المجتمع بالحکمة والموعظ الحسنة... وقد ازدهرت المدینةُ المنوّرة فی عصر الإمام الصادق، وزخرتُ بطلاب العلم ووفود الأقطار الاسلامیة، وانتظمت فیها حلقات الدرس، وکان بیته کجامعة اسلامیة یزدحم فیه رجالُ العلم وحملة الحدیث من مختلف الطبقات، ینتهلون من موارد علمه، ویقتبسون من ضیاء معرفته، وقد اغتنموا تلک الفرصة فازدحموا علیه یسألونه إیضاح ما اشکل علیهم). وقد أجمع العلماء مثل الشیخ المفید والطبرسیّ والفتّال النیسابوریّ والشهید الثانی وابن شهر آشوب، وغیرهم أنّه نُقل عن الإمام الصادق (علیه السلام) من العلوم مالم یُنقل عن أحد، وقد جمع اصحابُ الحدیث أسماءَ الرواة الثقات الذین رووا عنه – على اختلاف الآراء من العامّة والخاصّة – فکانوا أربعة آلاف راوٍ. فکانت جهوده المبارکة (سلام الله علیه) جهاداً علمیاً کبیراً، أرسى من خلاله قواعد الدین وثبّت اصوله وفروعه وعقائده.. والیوم و کما یقول الاستاذ علی محمد علی دخیل فی کتابه (أئمتنا) 427:1: (وبعد مضیّ ما یقرب من ثلاثة عشر قرناً على تأسیس مدرسة الامام الصادق (علیه السلام) لا تزال العلوم الاسلامیة: من فقهٍ وحدیثٍ وتفسیر وفلسفةٍ وأخلاق، وغیرها من العلوم، عیالاً على مدرسته، تستمدّ من آراء مؤسّسها الحکیمة، وتوجیهاته القیّمة، ولیست العلوم الاسلامیة وحدها عیالاً على مدرسة الإمام الصادق (علیه السلام)، بل إنّ الکثیر من العلوم الحدیثة کان له (علیه السلام) الید الطولى فی تأسیسها وإنمائها). | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,662 |
||