المرجعیة والمجتمع عناصر القوة فی المرجعیة الدینیة الشیعیة | ||
المرجعیة والمجتمع عناصر القوة فی المرجعیة الدینیة الشیعیة
تتمتّع المرجعیة الدینیة بموقع اجتماعی وسیاسی بالغ الأهمیة. ولقد مارست أدواراً خطیرة فی حرکة الأمة وصناعة الأحداث والمواقف، حیث شهدت الحیاة السیاسیة تحولات کبیرة على مستوى الأمة والدولة ،صنعتها المرجعیة الدینیة عبر توجیهاتها وفتاواها التی أصدرتها فی أوقات حساسة، فکانت القول الفصل والحکم القاطع فی مجریات الأحداث. إنّ المکانة الاسلامیة الکبیرة للمرجعیة الدینیة وموقعها الشرعی جعلها تتجاوز الأطر الرسمیة للحکومات، وتتخطى الحواجز الاقلیمیة للدول، على أساس أنّ المقلِّدین فی الغالب یتوزعون على أقالیم مختلفة، ویندر أن یکون هناک مرجع شیعی لا یتجاوز مقلِّدوه حدود الجغرافیة الاقلیمیة التی یعیش فیها. وعلى هذا فإنّ اتساع دائرة التقلید تساهم فی إلغاء الفواصل الإِقلیمیة من خلال ربط المسلمین بمراجع التقلید. وهذا ما یتضح عملیاً فی المواقف الکبیرة التی یحدد فیها المراجع الموقف الجماهیری المطلوب عبر الفتوى أو الحکم. کما حدث مثلاً فی فتوى الجهاد التی صدرت عن مراجع الدین فی العراق عام 1914. فقد شملت العراق، مثلما شملت المناطق الأخرى التی تدخل ضمن دائرة محاربة الإنجلیز وحرمة التعاون معهم. إنّ قدرة المرجعیة على تخطی الحدود وفّر لها إمکانیة قیادة حرکات مهمة، وتوجیه أحداث خطیرة خارج وسطها الاجتماعی، کما حدث فی ثورة التنباک فی إیران عام 1891 م التی فجرتها فتوى السیّد حسن الشیرازی من سامراء، وعلى أثرها اضطرّ ناصر الدین شاه إلى إلغاء اتفاقه مع بریطانیا حول التبغ. ومن هنا یمکن القول أنّ قوة المرجعیة انما هی متأتیة من جانبها الشرعی الذی یفرض على المقلِّدین العمل وفقها. إنّ المکانة التی تحتلها المرجعیة فی واقع الأمة، جعلها حقیقة کبیرة فرضت نفسها على الواقع السیاسی بکلّ قوّة، وراحت الحکومات تتعامل معها بحسابات دقیقة، وقد تحاشت السلطة فی البلاد الشیعیة – أو ذات الأغلبیة الشیعیة – أن تصطدم معها قدر الامکان خوفاً من تعرضها لثورة جماهیریة، رغم أنّ السلطات کانت تعمل على إضعافها وتقلیل مکانتها السیاسیة. فالحکومات تنظر إلى المرجعیة على أنها سلطة ذات نفوذ على الشیعة أکثر من نفوذها الرسمی علیهم، بل إنّ سلطة الحکومة قد تتعطل إذا ما تعارضت مع موقف المرجعیة. ولذلک شواهده التاریخیة الکثیرة. وتأسیساً على ذلک فإنّ المرجعیة اکتسبت تأثیرها الاجتماعی من موقعها الدینی، وأخذت أهمیتها السیاسیة من قوة الأمة بوصفها الرصید الکبیر للمرجعیة. على أنّ هذه الصورة تظهر وکأنّ قوة المرجعیة محصلة اجتماع عنصرین أساسیین هما الدین والأمة، دون أن یکون لها دور ذاتی فی صناعة قدرتها، فهل هی الحقیقة أم أنّ هناک تفسیراً آخر؟ لا شک أنّ الإجابة عن هذا السؤال ذات أهمیة خاصة، لانها تتولى مهمة تحدید عناصر القوة فی المرجعیة الدینیة ومنشأ هذه القوة، ومن ثم طبیعة التحرک الذی تضطلع به، ومقوماتها فی صناعته. وهی مسائل دقیقة فی هذا الخصوص. ومن هنا فلابدّ من الاستناد إلى الارشیف التاریخی للحوزة العلمیة عبر مراحله المختلفة فی محاولة الاجابة عن هذا السؤال ، وفی المواقع التی تستلزم الحاجة العلمیة الرجوع إلى التاریخ والاستشهاد بوقائعه. للوهلة الأولى یبدو وکأن عنصری (الأمة والدین) منفصلان عن بعضهما، وأنّ کل واحد منهما یتحرک بشکل مستقل فی إعطاء المرجعیة قوتها المیدانیة. غیر أنّ هذا الفصل الظاهری یغیب فی أرضیة الواقع، ویتداخل هذان العنصران للدرجة التی یعتمد فیها أحدهما على الآخر. فالأمة وبحکم تکلیفها الشرعی ترجع إلى علماء الدین فی مسائلها الحیاتیة فی العبادات والمعاملات، وتأخذ الحکم فی مستجدات الأمور منهم، وهی مساحة واسعة یصعب تحدیدها، وفی المواقف الحرجة تنظر صوب المرجعیة لترى ما یصدر عنها. والمکانة الدینیة قد تتحول إلى موقع محدود إذا فقدت المرجعیة قدرتها الحرکیة وانعزلت عن الأمة. صحیح أنها تظل تحتفظ بقدسیتها، لکن دائرة المؤمنین بهذه القدسیة تتسع أو تضیق حسب اتساع أو ضیق القاعدة الجماهیریة الملتزمة بالاسلام. فالموقع الدینی یکسب المرجعیة قوة ذاتیة محدودة فی حالة انغلاقها على نفسها وخضوعها لاجوائها الخاصة، ویتحول هذا الموقع إلى قوة کبیرة عندما تکون المرجعیة نشطة فی دائرة تحرّکها وسط الأمة. فهی المعنیة فی نشر الاسلام بین المجتمع، وهی التی تتولى قیادة العملیة التغییریة فی الأمة. وحین تنجح فی عملها هذا تکون قد صنعت قاعدة جماهیریة کبیرة ملتزمة بالاسلام ومنضویة تحت لوائها. والشاهد التاریخی البارز فی هذا الخصوص تحوّل بعض العشائر العراقیة إلى الارتباط الوثیق بالمرجعیة خلافاً لما کانت علیه سابقاً وذلک خلال القرن التاسع عشر. إنّ هذا التحول المؤثر رافقه فی نفس النقطة امتلاک المرجعیة الدینیة رصید جماهیری ضخم، فضمنت بذلک عنصر الأمة، وقوّت به مکانتها الدینیة (وهو العنصر الثانی لقوتها)، وکانت النتیجة أن صارت المرجعیة قوة إجتماعیة وسیاسیة کبیرة فی المجتمع العراقی، قلبت الموازین فی الساحة العراقیة، وغیّرت مجرى الاحداث فیها، ورسم على أساس هذا التحول تاریخ العراق فی السنوات التی أعقبت ذلک. وهنا تبرز مسألة جدیدة، هی کفاءة المرجعیة فی استخدام مکانتها الدینیة فی توجیه الأمة وتحریک الأحداث، لتحتفظ بقاعدة جماهیریة متفاعلة معها ولتبقى متمتعة بمرکز القوة فی الساحة. إنّ شخصیة المرجع تلعب دوراً کبیراً فی مکانته الاجتماعیة، فعلى سبیل المثال احتلّ المیرزا السیّد حسن الشیرازی موقعاً متمیزاً من بین علماء الحوزة، لأنّه تفرد عن بقیة العلماء فی عدم خروجه لاستقبال ناصر الدین شاه عندما زار النجف الأشرف فی عام 1870 م، وقد طلب الشاه أن یجتمع به فرفض ذلک، ووافق بعد الالحاح الشدید أن یکون اللقاء فی الحرم العلوی الشریف أثناء الزیارة. ولأنّ السیّد الشیرازی کان یساعد المحتاجین حین مرّت النجف بضائقة شدیدة فی نفس السنة، فقد رفعت هذه الأعمال منزلته الاجتماعیة وکثر عدد مقلّدیه بشکل ملحوظ . لقد صنع السیّد الشیرازی قاعدة جماهیریة واسعة حین اهتم بالأمة وتعامل بحکمة مع الأمور. والأکثر من ذلک أنه هاجر إلى سامراء فی أیلول 1874 م، وهی خطوة مهمة لما یعرف عن سامراء بأنّ سکانها من السنّة، رغم کونها من الاماکن المقدسة للشیعة. وفی سامراء نشط السیّد الشیرازی فی مشاریعه الاسلامیة والاجتماعیة. فأسس مدرسة دینیة وشیّد حسینیة، وحماماً للرجال وآخر للنساء وسوقاً کبیرة ودوراً کثیرة وجسراً من القوارب على نهر دجلة. وقد استقطبت هذه المشاریع الشیعة، فهاجروا إلى سامراء التی تحولت من قریة صغیرة إلى مدینة عامرة. وبدأ التشیع ینتشر فی أوساط المدینة، حیث تأثر سکانها السنّة بالشعائر الحسینیة وتعاطفوا معها . کان من الطبیعی حین یجد الناس هذا الحضور القوی للمرجعیة فی أوساطهم، أن یبادلوها تجاوباً وولاءً. فهم یتعاملون مع الموقف المیدانی للمرجع أو عالم الدین ومع سلوکه الاجتماعی، أما المنزلة الفکریة ودرجة العلم فهی مقاییس تتعامل معها الحوزة العلمیة حسب أجوائها الفکریة الخاصة. وقد یکون العالم بارزاً فی الحوزة، لکنه مجهول عند الأمة. إنّ الأمة حین تعیش مرجعها رمزاً کبیراً، فانها لا تنتظر فتواه حتى تؤدی واجبها، بل إنها تسارع إلى هذا الموقف بمجرد أن یبدی رغبته، ویکون الاحساس برضا المرجع أو رفضه محرّکاً للجماهیر فی هذا الاتجاه أو ذاک. وتلجأ إلیه فی المسائل المصیریة لتأخذ منه الرأی، فتحوّله إلى واقع على الساحة. وهو ما فعلته فی ما عرف بثورة التنباک (التبغ)، فقد انهالت الرسائل والبرقیات من ایران إلى سامراء، تطلب من السیّد حسن الشیرازی أن ینقذهم من الاتفاقیة وما یترتب علیها. فبذل السیّد – قدّس سرّه – مساعیه لثنی الشاه عن الاتفاقیة، وحین وجده مصراً ، أصدر فتواه التاریخیة: (بسم الله الرّحمن الرّحیم. الیوم استعمال التنباک والتتن بأی نحو کان، بمثابة محاربة إمام الزمان). وقد أحدثت هذه الفتوى ضجّة کبیرة فی إیران، وامتنع الناس بمختلف فئاتهم عن استعمال التبغ، حتى أضطرّ الشاه إلى إلغاء الاتفاقیة. لقد صنع السیّد الشیرازی بمواقفه مرجعیة قویة، حین کسب بسلوکه ومشاریعه قطاعات واسعة من الأمة، وحین استخدم موقعه الدینی للتأثیر على القرار السیاسی للحکومة الایرانیة، وتوجیه الاحداث حسب إرادته وبما یخدم مصلحة الأمة، ووفر بذلک للمرجعیة قاعدة جماهیریة ضخمة، وعزز مکانتها السیاسیة. وهنا نستطیع القول أنّ کفاءة المرجع هی التی تجمع الأمة حوله. وتجعلها تسیر فی خطّه، وأنّ تعامله الحکیم مع الأحداث هو الذی یطرحه على الساحة کقائد سیاسی یستخدم حکمه الشرعی فی الموضع المناسب وبالشکل الدقیق. وبذلک یجعل من المرجعیة وجوداً قویاً یفرض نفسه على الساحة بکل مفرداتها وموازینها، ویجعل الحاضر یسیر فی خطّها وعلى نهجها، فیعطی للمستقبل صورة واضحة، لأنّ الأمة ستلجأ إلى المرجعیة فی الأحداث الجدیدة بعد أن جرّبتها وعرفت کفاءتها فی المرة السابقة. إنّ ثورة التنباک فی ایران وما تمخّض عنها من نتائج إیجابیة، وجّهت أنظار الأمة أکثر إلى المرجعیة، وتعاملت معها على أنها مصدر القوة الوحید الذی یستطیع أن یحقق لها طموحاتها ومصالحها، وأنها الحکم القاطع فی القضایا المتداخلة. ومن هذه الرؤیة، اطمأنت الأمة فی ایران عام 1905 م ابان شروعها فی المطالبة بالدستور والتی عرفت (بالمشروطة)، بأنّ تحقق أهدافها سیکون على ید المرجعیة. وقد کان لعلماء الدین الدور الأکبر فی قیادتها وتوجیهها، وتحقیق صورة نادرة من الالتفاف الجماهیری حول القیادة العلمائیة، أعطت نتائج ضخمة على الصعید السیاسی. إنّ الأحداث التی صنعتها المرجعیة الدینیة فی الساحة الایرانیة فی تاریخها الحدیث، انطلقت من موقف السیّد حسن الشیرازی فی قضیة التنباک التی أفرزت انتصاراً سیاسیاً واتساعاً جماهیریاً مؤیداً للمرجعیة. صحیح أنّ تلک الأحداث وقعت فی إیران لکن انعکاساتها فی العراق کانت قویة، لا سیما وأنها کانت توجه من الحوزة العلمیة فی النجف الأشرف بالدرجة الأساسیة. کما أنّ القوة التی ظهرت بها المرجعیة فی مواقفها تجاه الساحة الایرانیة لا تختص بإیران وحدها، بل إنّ الأوساط العراقیة تشارکها نفس النظرة، وهذا یعنی أنّ موقع المرجعیة تعزّز فی العراق مثلما تعزّز فی ایران. لکن | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,206 |
||