نهایة «إسرائیل» فی مصر | ||
الاقتحام الشعبی للسفارة الإسرائیلیة فی مصر عمل وطنی بامتیاز، وجرى بطریقة عفویة جدا، وعبر عن مشاعر وطنیة تلقائیة صادقة، وأحرز نصرا کبیرا بطرد السفیر الإسرائیلی، وفی عملیة هروب کبیرة جرت تحت جنح اللیل. الأیام التالیة للاقتحام أثبتت صحته، وردت على تخرصات صغیرة، تخوف بعضها مما أسماه سقوط هیبة الدولة المصریة، أو الإخلال بقواعد القانون الدولی، أو إنزال عقوبات بمصر، بینما ما جرى جاء على العکس بالضبط، فقد ابتلعت إسرائیل ما جرى، ولجأت إلى التهدئة الذلیلة، وتحدثت عما أسمته استمرار اتفاقیة السلام، وأولویة التواصل مع الحکومة المصریة. الاقتحام الشعبی أخذ صورة معرکة حقیقیة، سقط فیها شهداء من الشبان المصریین برصاص قوات الأمن، وأحیل العشرات إلى تحقیقات النیابة العسکریة، وینتظرون المحاکمة أمام محاکم أمن الدولة الاستثنائیة، وفی تطبیق فظ غلیظ لحالة الطوارئ المفروضة على البلاد منذ ثلاثین سنة مضت . وقد سقطت کل التأویلات الصغیرة لما جرى، وانفضح عوار حملة إعلامیة أمنیة سارعت إلیها دوائر شبه رسمیة، وبدت هذه الدوائر کبقایا لنظام مبارک المخلوع، وکانت تأمل فی رد فعل إسرائیلی عنیف یدعم مواقعها التی لم تتطهر بعد، ویجهض عملیة بلورة وحضور القضیة الوطنیة المصریة، وتأثیرها المتزاید على خرائط معارک الثورة المصریة، واستعادة روابط العروة الوثقی بین قضیة تحریر مصر وقضیة تحریر المصریین، بین قضیة کسب الدیمقراطیة وقضیة کسب الاستقلال الوطنی . المجلس العسکری الحاکم فضل الصمت رسمیا، لم یعلق المشیر طنطاوی، والذی بدا رابط الــــجأش فی اللیلة الحمراء، والتی شهدت تقدم الشباب المصری بالآلاف من میدان التحریر، وهم یحملون الشواکیش والمرزبات، وحطموا الجدار العازل أمام عمارة السفارة الإسرائیلیة، وأحدثوا ثغـــــرة فی جدار الحمایة الأمنیة، وصعدوا إلى حیث مقر السفارة بأعلى العمارة، وبعثروا وثائق للسفارة فی الهواء، وفی مشهد درامی استمر لساعات، وقبل أن تنتقل الاشتباکات والاحتکاکات إلى مقر مدیریة أمن الجیزة القریب، وحیث جرت حوادث مؤسفة، اختلطت فیها الدماء بالنیران . وفی لحظة الاقتحام الشعبی لسفارة العدو الإسرائیلی، کان المشیر طنطاوی مشغولا عن استغاثات بنیامین نتنیاهو رئیس الوزراء الإسرائیلی، وفشل نتنیاهو تماما فی الوصول هاتفیا للمشیر، ولجأ نتنیاهو المصدوم إلى الرئیس الأمریکی أوباما، والذی أدار عملیة واسعة من الاتصالات، استعان فیها بمئة دبلوماسی أمریکی، ونجح أخیرا فی مکالمة المشیر، والذی قرر تنفیذ عملیة کوماندوز لإجلاء حراس السفارة الإسرائیلیین الستة، والذین هربوا لإسرائیل مع سفیرهم وکامل الطاقم الدبلوماسی، وعلى متن طائرة حربیة خاصة . وتداخل وقائع اللیلة الحمراء التی بدأت مساء جمعة التصحیح 9 أیلول/سبتمبر 2011، تداخل الوقائع قد یثیر الالتباس، ویثیر أسئلة فی التفاصیل، بینها أسئلة عن هویة ودوافع الشبان المقتحمین للسفارة الإسرائیلیة، وقد توالت اقتراحات عبثیة من نوع یثیر السخریة، وإلى حد أن بعضهم عزا الحادث إلى تدبیر سئ من فلول نظام مبارک المخلوع، أو من جماعة جمال مبارک، وقد اختفى التفسیر العبثی سریعا، وجرى سحبه من التداول الإعلامی والسیاسی، وحل محله تفسیر آخر لاتسنده وقائع کافیة، وهو أن العملیة کلها من تدبیر المجلس العسکری، وأن قوات الشرطة العسکریة المتواجدة على مسرح الحادث غضت البصر عما یجری، والتفسیر الأخیر لایبدو دقیقا، ولسبب ظاهر، وهو أن أعداد المتظاهرین فاقت کل توقع أمنی، وزادت حماستهم مع النجاح فی الخطة الأصلیة، وقد کانت مقصورة على تحطیم الجدار الأسمنتی بوسائل بدائیة، ومع النجاح السریع فی تحطیم العائق، بدا اندفاع المتظاهرین إلى مدخل عمارة السفارة فوق المقدرة على صده دون إطلاق النار، وقد کانت أوامر عدم إطلاق النار ساریة، حتى ساعتها، وتلتزم بها قوات الجیش على نحو حرفی، وزاد فی التهاب مشاعر الجمهور وصول خبر کئیب من جبهة المواجهة مع إسرائیل، وهو وفاة الجندی المصری عماد عبد الملاک متأثرا بجراحه، وهکذا أضیف الشهید السادس إلى ضباط مصر وجنودها الخمسة الذین قتلتهم إسرائیل فی حادث الحدود، کانت روح الفقید السادس تصعد إلى بارئها، بینما شباب مصر الوطنی یرد على الجریمة الإسرائیلیة فی تلقائیة وعفویة، ویقتحم بیت الشیطان الإسرائیلی الکائن أعلى نیل الجیزة . لامجال إذن لتفسیرات ملتویة تتحایل على القیمة الوطنیة السامیة لما جرى، أو تعتذر لإسرائیل من الباب الخلفی، وقد اعتذرت شخصیات مریبة کشفت عن هواها الأمریکی، ولم تعتذر السلطات المصریة الرسمیة، ولم یعتذر المجلس العسکری بالذات، ولو فعلها لکان وضعه أسوأ شعبیا، فهو یعرف عمق کراهیة المصریین لإسرائیل، ویعرف حدود رد الفـــــعل الذی قد تقدم علیه إسرائیل، وقد وجدت نفسها فی المأزق، ولا تجد ربما غیر فرصة تسول استمرار السلام مع مصر، والرجاء الملـــــح بإعادة سفیر إسرائیل للقاهرة، والبحث عن مخبأ آمن لإقامته، ولو کان فی منطقة صحراویة معزولة على نحو ما یجری التفــاوض علیه الآن. وأیا ما کان الذی تفعله السلطات الرسمیة المصریة، وهی واقعة تحت ضغط أمریکی داهس، ولا تمیل إلى قطع فوری لکل الصلات مع إسرائیل، أیا ما کان الموقف الرسمی، فإن وجود إسرائیل فی مصر ذاهب إلى التلاشی بالتدریج، فقد کسر المصریون حواجز الخوف جمیعا، وفکت الثورة المصریة عقدة لسانهم، وحررت أیدیهم القادرة على صنع المعجزات، ولنا أن نلاحظ مغزى ما یجری فی القاهرة وعلى جبهة سیناء معا، فی القاهرة: تعقب شعبی لأی وجود إسرائیلی، وفی سیناء : قوات الجیش تدهس خطوط نزع السلاح، وتســــتعید وجودها بکثـــافة، وسوف یتسع الخرق مع اطراد الأیام، وتتحول اتــــفاقیة السلام إلى حبر على ورق، فالمعادلات الاستراتیجیة فی المنطقة تتغیر، والقوى الاقلیـــمیة الکبرى تعزل إسرائیل، إیـــران ضـــد إسرائیل بالخلقــة، وترکیا تتحفز لإسرائیل وتتطهر من إثمـــها، ومصر فی حـــالة ثورة لم تستقر بعد على مشهد ختام، وإسرائیل تبدو کعدو مفضــــل للأطراف الثلاثة، فالعــــداوة لإسرائــیل هی شرط نمو الدور الإقلیمی، وشرط القبول المتزایـــد بالدور عند شعوب المنطقة العربیة، وقد اتسع دور إیران وترکیا على أساس القاعـــدة الذهبیة، والدور الآن على مصر التی اقتحم شبابها سفارة إسرائیل، جرت المعرکة فی مصر، رفع المصریون الصــوت، وکان الصدى الفوری فی الأردن، وقد سارعت إسرائیل لإخلاء سفارتها فی عمان، وقبل أن یقتحمها شباب الأردن تأسیا بسلوک وسیرة الشبان المصریین.
عبد الحلیم قندیل
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,700 |
||