استمرار الوجود الأمیرکی فی العراق.. کیف سیکون؟ | ||
عنوان هذه المقالة یشی بمحتواها، فالإتفاقیة (صوفا ) التی أبرمت بین العراق والولایات المتحدة عام 2008، تنص على انسحاب القوات الأمیرکیة فی الحادی والثلاثین من دیسمبر 2011، إلا أن من المتوقع ألا یحصل ذلک، فالولایات المتحدة لم تأت إلى العراق من أجل النزهة أو القیام بسفرة سیاحیة وفی جعبتها تذکرة للعودة. مستقبل الوجود الأمیرکی فی العراق تقرره إرادتان: عراقیة وأمیرکیة، ولیس بالضرورة أن تتفق هاتان الإرادتان فی رؤاهما أو توجهاتهما الاستراتیجیة، أو بسبب لی ذراع إحداهما من قبل الأخرى، ولکنهما ستتفقان، لا محالة، لأن ذلک یحقق اتزان معادلة قد لا یکون هناک بدیل أفضل منها فی الوقت الحاضر. عاملان أساسیان یحددان الاتزان فی هذه المعادلة، أولهما ذو طبیعة استراتیجیة عالمیة تهم الولایات المتحدة، لا تتعلق بالواقع الحالی فحسب، بل تتعداه لتتعلق بالمصالح الإستراتیجیة المستقبلیة لها، وثانیهما محلی یهم العراق وحده، ویتعلق بسلامة وجوده ومستقبله. ما یتعلق بالموقف الأمیرکی تحدده الإجابة عن سؤال مهم یمکن اعتباره بمثابة المفتاح الرئیسی لمقاربة هذا الموضوع، وهو: هل حققت الولایات المتحدة أهدافها من احتلال العراق؟ وللجواب عن هذا السؤال، نحتاج لطرح سؤال آخر وهو: ما هی الأهداف الأمیرکیة الحقیقیة التی تکمن وراء هذا الإحتلال؟ هناک هدف جوهری، تتفرع عنه أهداف ثانویة أخرى، حدا بالولایات المتحدة للمجیء إلى العراق، الذی یعتبر بمثابة القلب لمنطقة الشرق الأوسط، وهو البدء بإعادة صیاغة إحدى أهم المناطق الإستراتیجیة فی العالم، بشکل یضمن المصالح الأمیرکیة، الأمنیة والسیاسیة والإقتصادیة والثقافیة، على أمد طویل، مستفیدة من الفرصة التی توافرت، والفراغ الذی خلفته نهایة الحرب الباردة وانهیار الإتحاد السوفییتی. هکذا أهداف طویلة الأمد، تتطلب وجوداً طویل الأمد. وقد کانت الساحة السیاسیة لتنفیذ هذه المَهمة، مهیأة بشکل مثالی فی العراق، فنظامه السیاسی معزول دولیاً ولم تخفِ دول الجوار رغبتها فی التخلص منه، إضافة إلى وجود من یرحب بذلک من العراقیین أنفسهم، داخل العراق وخارجه. هناک لغط فی دوائر القرار الأمیرکی، البیت الأبیض والکونغرس بمجلسیه، یدور حول مستقبل الوجود الأمیرکی فی العراق بین اتجاهین، الأول یدعو إلى الإیفاء بالتعهدات وتنفیذ استحقاقات معاهدة (صوفا) والانسحاب من العراق نهایة العام الجاری، والثانی لا یرى ذلک ویصر على إدامة هذا الوجود فی العراق. وقد کشفت صحیفة کریستیان ساینس مونیتور الأمیرکیة، عن الإرهاصات الأولى للتحرک الأمیرکی، فی عددها الصادر فی الثامن عشر من فبرایر المنصرم، حین نشرت أن (الترجیح یتزاید لبقاء القوات الأمیرکیة فی العراق إلى ما بعد دیسمبر 2011 المقرر لانسحاب الجیش الأمیرکی)، وتستطرد الصحیفة قائلة: (یتزاید مؤیدو هذا التوجه بین أوساط الحزبین فی الکونغرس). یبدو أن الإدارة الأمیرکیة قد حسمت موقفها حین کشفت، بشکل رسمی، عن رغبتها فی إبقاء بعض قواتها فی العراق لما بعد عام 2011، والتمتع بالحصانة من المساءلة القانونیة أمام القضاء العراقی، فی حالة تورط بعض أفرادها بما یخالف القوانین المحلیة العراقیة کما نصت اتفاقیة (صوفا). وباشرت، فی ضوء ذلک، بالضغط على المسؤولین العراقیین لقبول هذا المبدأ، أولاً لتمهید الطریق من أجل التوصل إلى صیغة تضفی الشرعیة على ذلک. فالمتاعب المالیة التی تمر بها الولایات المتحدة، واضطرارها لرفع سقف دیونها. وما ترتب على ذلک من مخاطر قد تلحق الضرر بمکانتها الدولیة، لم تکن ضغوطاً کافیة تلزمها بتخفیض نفقاتها العسکریة وإعادة النظر فی سیاساتها فی الشرق الأوسط، والتخلی عن بعض أهدافها فیه. وفی ما یتعلق بالجانب العراقی، هناک فقط موقفان واضحان لکتلتین سیاسیتین من قضیة بقاء القوات الأمیرکیة؛ التحالف الکردستانی مع بقاء هذه القوات، والتیار الصدری ضد ذلک. هذان الموقفان یتوجان مواقف مبدئیة سابقة لهاتین الکتلتین. أما بقیة الکتل السیاسیة، وهی عدیدة، فتتعامل مع هذه القضیة بطرائق تتسم بالضبابیة، فمعظمها قد لا ترفض بقاء القوات الأمیرکیة لفترة أخرى، إلا أن رؤساء هذه الکتل أو الناطقین بلسانها، حریصون على استخدام کل ما بحوزتهم من مهارات للتملص والزوغان من مواجهتها بمواقف صریحة وواضحة أمام الجمهور. وقد تطرق روبرت غیتس وزیر الدفاع الأمیرکی السابق، إلى هذا الموضوع فی معرض حدیثه عن حاجة العراق لبقاء القوات الأمیرکیة، بالقول إن هذه القوات (لا تحظى بشعبیة فی العراق، لکن السیاسیین کما أعتقد یفهمون هذا النوع من الحاجة، لکن لا أحد یرید أن یکون أول من یدعم هذا الأمر). على المستوى الإجرائی، یعتبر مجلس النواب العراقی هو المرجعیة التی تُحسم عندها القضایا، فمن أجل التوصل إلى صیغة لا تلقى اعتراضات کثیرة، وَجه رئیس المجلس دعوة لرئیس الوزراء لإبداء الرأی حول الطلب الأمیرکی، باعتباره القائد العام للقوات المسلحة الذی ترتبط به الأجهزة الأمنیة المسؤولة عن تقییم مدى جاهزیة القوات العراقیة لملء الفراغ الذی یخلفه الانسحاب الأمیرکی. من جانبه دعا رئیس الوزراء الکتل السیاسیة للاجتماع وتحدید موقفها من هذه القضیة. وها قد مضت بضعة أشهر والکتل السیاسیة تتقاذف هذه الکرة بینها، غیر قادرة على الإعلان عن موقف حاسم. القوات الأمریکیة سوف تبقى فی العراق، أما الفترة الزمنیة لهذا البقاء وحجم القوات التی ستبقى ومستوى تسلیحها والحدود المسموح بها لعملیاتها، فأمور من الصعب التکهن بها فی ظل تعتیم یحرص علیه العراق أکثر مما تحرص علیه الإدارة الأمریکیة. والمتابع لسیاسات الولایات المتحدة، لا یجد صعوبة فی التوصل إلى حقیقة أن لدى صقور السیاسة الأمیرکیة مساحة أوسع مما لدى حمائمها، فی التأثیر على سیاسة الدولة الأمیرکیة.
د. محمد عاکف جمال | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,269 |
||