المساجـــد حصـــن الامـــة | ||
تشهد المساحة الجغرافیة للعالم ظاهرة ملفتة فی التعامل مع المساجد وفی بناء نمط العلاقات النفسیة معها، سواء فی المناطق التی یشکل فیها المسلمون الاکثریة، أو تلک التی یعیشون فیها کأقلیات وسط حشود بشریة غیر اسلامیة. ففی الاقالیم التی یواجه المسلمون حروباً قومیة أو دینیة او توجهات عنصریة، تعمد القوى المعادیة للاسلام والمسلمین الى ترکیز اهتمامها على المساجد والعمل على هدمها وازالتها من الوجود، او تدنیس حرمتها وتحویلها الى مراکز غیر آمنة حتى لا تغدو مکاناً لجمع المسلمین ورباطاً یشد أزرهم، ومعلماً حضاریاً یرمز الى دینهم وحضارتهم وثقافتهم العامة. ففی بلاد البوسنة والهرسک المسلمة، وفی اقالیم یوغسلافیا السابقة کالجبل الاسود وکوسوفو جرى نسف عشرات المساجد وتدمیرها وأزالة بعضها الآخر من الوجود فی نطاق الحرب القومیة الدینیة التی تشن ضد المسلمین بصراحة، حیث لا یخفی الصرب والکروات هدفهم الرامی الى اقتلاع جذور المسلمین وإبادتهم ومنعهم من إقامة دولتهم على أرضهم ووطنهم، والعمل على تشریدهم وأعتبارهم غرباء عن المنطقة لاصلة لهم بها. وتتکرر هذه الحوادث فی أوربا فی نطاق صعود القوى الیمینیة العنصریة حیث یجری التعرض للمساجد وتدنیس حرمتها، أو هدمها کما فعل الهندوس المتعصبون بمساجد المسلمین فی الهند ولا سیما هدم مسجد بابری الکبیر فی مدینة ایودیا بولایة اوتاربرادیش. ومن جهة أخرى تجری فی مناطق المسلمین التی تخلصت من سلطان الالحاد الشیوعی، حملة واسعة لبناء المساجد وتعمیرها وإحیائها، وتشهد جمهوریات آسیا الوسطى وآذربایجان وشمال القوقاز والفولغا، إفتتاح المزید من المساجد وعمارتها واستعادتها من ایدی السلطات المحلیة والمرکزیة، بعد أن تم تحویلها فی عصر التسلط الشیوعی الى اسطبلات للخیول ومتاحف یزورها السیاح. اما فی بعض البلاد العربیة، فإن هناک حملة حکومیة لتأمین المساجد ووضعها تحت تصرف الاوقاف والادارات الدینیة الحکومیة، لان القوى والجماعات الاسلامیة تستخدم هذه المساجد منطلقات للتعبئة الشعبیة ومراکز للتوعیة الدینیة والمطالبة بتطبیق الشریعة وإقامة الحکم الاسلامی بدلاً من الحکم العلمانی. وفی بلاد المسلمین التی یعیش أهلها الوئام مع سلطة الحکم، أو أن الحکم فیها لا یعادی الاسلام او منبثق من الاسلام، فان المساجد تقوم بدور تعبوی حضاری ثقافی على صعید أسلمة المجتمع والمساهمة فی عملیة التغییر الاجتماعی والتنمیة الاجتماعیة والانسانیة من خلال الدور الاخلاقی والتعلیمی والثقافی الذی تقوم به المساجد، ومن خلال مساهمتها فی عملیة التکافل الاجتماعی ومساعدة الضعفاء والمحتاجین. وفی کل هذه الحالات، هناک دور محوری کبیر یمثله وجود المسجد. فأعداء الاسلام ینظرون الیه بالاهمیة والخطورة نفسها التی ینظر بها المسلمون، والحکام یخشونه کخشیتهم من عدو خارجی، والمسلمون المؤمنون یعتبرونه حصناً منیعاً للاسلام ومکاناً مقدساً له مکانته الرفیعة ودلالته الرمزیة والمعنویة الکبیرة، فهو بیت الله الآمن، ومکان العبادة المقدس ومربط الایمان ومجمع المسلمین وعلامة وجودهم بوصفهم اتباع الرسالة الخاتمة التی جاء بها الرسول الاعظم صلى الله علیه وآله والتی قامت على مبدأ التوحید الخالص. إن المسجد بهذه المواصفات ذو دلالات حضاریة خاصة، ولذلک جعله الاعداء هدفاً دائماً لهم عبر قرون التاریخ المنصرم، فکما جعله الغزاة الاسبان الکاثولیک الذین غزوا الاندلس هدفهم الاول، فان خصوم الیوم الذین یجاهرون بعدائهم للاسلام، أستهدفوا المسجد بالفعل الیدوی وبالعمل الفنی والثقافی، والسبب فی کل ذلک، هو الدور الثقافی الخطیر الذی یؤدیه المسجد فی الاجتماع الاسلامی. فقد کانت المساجد وماتزال جامعات علمیة، وصفوفاً لتخریج طلبة العلوم الاسلامیة، وموئل الحلقات العلمیة التی کانت تتشکل فی رحابها، وکان ارتباط العلم والعلماء بالمساجد ارتباطاً عضویاً وثیقاً، أمدَّ الحضارة الاسلامیة بعناصر متمیزة حفظت لها خصوصیتها وهویتها، واعطتها بعدأ علمیاً ثقافیاً یستند الى قاعدة اقتران العلم بالعبادة، مما منح الاسلام منهجاً علمیاً متمیزاً لا یفصل بین العلم والعمل فی سبیل الله وعبادته، بل جعل العلم أفضل وسائل التقرب من المطلق الواحد الأحد، فاعطى ذلک المسلمین زخماً علمیاً، ووسع من قاعدة اکتساب العلم وتعلیمه، فلم یصبح حکراً على فئة وعلماً خاصاً لطبقة. ان ظهور اکبر الجامعات العلمیة واستمرارها، انطلاقاً من المساجد، جسَّد حقیقة ناصعة، وهی أن العبادة لا تنفصل عن النشاط الانسانی الآخر، وان الاسلام لم یجعل من المساجد دور عبادة فحسب، بل جعلها وعاءً حضاریاً، وحدد لها رسالة علمیة فکریة ثقافیة، فلا غرو إذن أن تکون محطة العلم الاسلامی هی المساجد، وان تکون مرکز اشعاع معرفی، ورمزاً للطهر والعبادة والتنسّک والعمل الاجتماعی الانسانی. وهذه الرسالة الثقافیة والمعطى الحضاری هو الذی جعل اعداء الاسلام یخافون المسجد وارتیاد المساجد ودوره فی المجتمع، فأینما وجد مسجد کان ذلک علامة على تجذُّر المسلمین ووجودهم، وعلى انتشار عقیدة التوحید، وأینما وجد مسجد کان ذلک دلیلاً على حیویة الاسلام و امتداده. ان حواضر الاسلام العلمیة الکبرى نشأت حول المسجد، فحول مسجد الرسول الاعظم صلى الله علیه وآله فی المدینة، وحول مسجد الکوفة والبصرة ومساجد قم ومشهد وسمرقند وبخارى والقاهرة ودمشق وتونس نشأت وازدهرت الجامعات العلمیة، وتخرج أئمة المذاهب والفرق والمفسرون واللغویوّن والفقهاء على مر العصور الاسلامیة والى یوم الناس هذا. ان الحوزات العلمیة فی النجف الاشرف فی العراق، وقم و مشهد فی ایران، والازهر فی مصر، والقرویین فی المغرب، والزیتونة فی تونس ، ماتزال تقدم عطاءها العلمی، وتقدم الدلیل الوثیق على عمق الدور الثقافی والمعرفی والحضاری الذی أدّاه ویؤدیه المسجد، وهذا الدور یؤکد ایضاً استمراریة العطاء الفکری الاسلامی مما شکل الرافع الاساس شکل من عادی الاسلام لیستهدف المساجد بالقضاء علیها، ولتحویلها الى مراکز لاروح تنبض فیها. کانت المساجد، منطلق قتال الغزاة والاعداء والبغاة، ومراکز جهاد فی سبیل الله للدفاع عن ثغور الوطن وسیادة الاسلام وحمایة الأمة، وهی بهذه المواصفات عنوان هویة ورمز حضارة، ومصدر علم وموقع جهاد ومرکز تنویر، انها وطن الأمة وحصن الاسلام. ومن هنا کان واضحاً سبب هذا الشعور العاطفی والمبدئی العمیق بین المسلم والمسجد، حتى اذا ما عُرِّضُ المسجد للعدوان ولم تحترم قداسته ،کان ذلک عدواناً على الفرد المسلم وعلى الأمة المسلمة بأسرها، لان المسجد هو مؤسسة الأمة التی تعمل کالناظم لایقاع حرکتها العبادیة والسیاسیة والعلمیة والاجتماعیة والجهادیة، ولم یفقد المسجد هذا الدور الى الآن، رغم تطور وسائل العیش والارتباط والعلاقات، فبقی مرکز شدِّ وجذب للمسلم على الدوام الى عقیدته وحضارته وثقافته، یربطه دائماً بالسماء، ویدفعه الى أحضان العقیدة، ویدعوه الى طهارة الروح والبدن، وینادیه بالتقوى والعمل الصالح، ویحثه على التخلق بأخلاق الاسلام والتمسک به والدفاع عنه. وقد اصبحت المساجد الیوم منبراً لإیقاظ الأمة ومنطلقاً لنهضتها، فحرکة الإحیاء ااسلامی التی تأخذ اشکالاً مختلفة وعناوین متنوعة مدینة للمساجد فی نمائها واتساعها وقوتها والتفاف الجمهور حولها، ای إن المسجد یساهم الیوم بقوة فی بلورة وعی الأمة من جدید وفی دفعها نحو معالجة أزمتها واصلاح خللها من خلال وصل الاهداف والغایات بالوسائل الصالحة الصحیحة، فنهضة الأمة التی تتحرک حول المحور الاسلامی تعید المسجد الى الواجهة من جدید. فیعمل المسجد على تکثیف الطاقات ودفعها فی معرکة البناء والنهوض ومواجهة التحدیات کأنه یعید بذلک رسم صورة الأمة ویعید تشکیل ثقافتها کما کان دائماً.
ابراهیم احمد
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 3,002 |
||