الوحدة الاسلامیة بین الطموح و الامکان | ||
ما من قضیة شغلت العالم الاسلامی وارتبطت بمصیره کقضیة الوحدة الاسلامیة، فمنذ أن أفاق المسلمون على واقعهم الحدیث والمعاصر وقضیة الوحدة تحتل أولویة اهتمامات القادة والمصلحین لاسیما بعدما اعتورت المسلمین ظواهر الضعف والانحلال فی مقابل صعود المرکزیة الغربیة وتطاولها على بلدان المسلمین، مما شکل تحدِّیاً حضاریاً کبیراً، لا یمکن مقاومته الا بتعبئة کافة امکانیات المسلمین وتوحد کلمتهم. ان واقع التعدد المذهبی والطائفی قضیة واضحة لاتحتاج الى برهان، فقد انقسم المسلمون الى مذاهب فقهیة وأصولیة، وتعددت الاجتهادات فی الفروع لدرجة تکرست معها المذهبیة ولا یمکن تصور العکس، إلاّ أنَّ الاساس العقیدی الثابت ووحدة العواطف والمشاعر والمصیر، والانتماء الى امة ذات اساس عقیدی ولیس قومیاً او اثنیاً، جعل المسلمین یدرکون هویتهم وانتماءهم الى مرکب العقیدة – الامة ولیس المذهب او الطائفة او الانتماء القومی والاثنی واللسانی. ومع دخول العناصر الآنفة وتفکک عرى التماسک العقیدی بسبب صعود المشاعر القومیة الوافدة، کانت الدولة القومیة التی ولدت بفعل المشروع الغربی الزاحف، أخطر ضربة توجه لکیان المسلمین، خاصة عندما تم إلغاء منصب الخلافة العثمانیة فی عام 1925. وبعد قیام الدول القومیة والقطریة وغلبة المشروع القومی العلمانی، کان أحد المشاریع التی تنادى لها أصحاب الهم الاسلامی، مشروع التقریب بین المذاهب الاسلامیة لتوحید صفوف المسلمین ومواجهة عوامل التفرقة بهدف تنشیط الجسم الاسلامی لمواجهة التحدیات الضخمة التی باتت تواجهه. وفی هذا السیاق جاء أنبثاق (دار التقریب بین المذاهب) بجهود علماء الشیعة والسنة وتحولها الى مؤسسة واضحة الاهداف، لیمثل اهم خطوة فی التاریخ المعاصر، فقد ساهم فیها علماء کبار امثال الشیخ محمد حسین آل کاشف الغطاء من العراق والشیخ محمد تقی القمی من ایران، والشیخ حسن البنّا والشیخ محمد أبو زهرة والشیخ محمد المدنی من مصر وغیرهم، وخطت الدارخطوات جادة ولکنها لم تتمکن من تحقیق غایاتها والوصول الى أهدافها النهائیة بسبب غیاب القاعدة الاسلامیة القادرة على دفع المسیرة وصیانة المشروع. فقوى التجزئة والتفتیت کانت لدیها أحزاب ومؤسسات. وکانت الدول القومیة القطریة وسیاساتها تباعد بین المسلمین أنفسهم، بل حتى فی داخل الوطن الواحد، والمنطق العملی یوجب وجود قوة تمتلک کیاناً سیاسیاً قویاً قادراً على احتضان مشروع التوحید، فإمکانیات الدولة غیر امکانیات المؤسسات الشعبیة مهما بلغ شأو الأخیرة وارتفعت قیمتها وتأثیراتها، ولا یتیسر السبیل لمشروع التوحید ما لم تسهر علیه دولة مستقلة یکون نهجها الاسلام ودعوتها کلمة الله العلیا، وهدفها نهضة المسلمین واستقلالهم. ورغم اهمیة هذا الحلم وصعوبة الطریق، الا انه لم یکن بمعزل عن الواقع، فالوحدة الاسلامیة لیس مشروعاً للتذویب والإلغاء أو تجاوز الواقع الموجود بتضاریسه القومیة والمذهبیة وحدوده السیاسیة، بل ان خطوة عملاقة کهذه، تبدأ اولاً بتوحید المشاعر والعواطف وإلغاء نتوءات الفرقة والانقسام والبدء بخطوات التقریب ومد جسور التواصل والمواقف المشترکة والمنسقة حیال قضایا المسلمین المختلفة ومصالحهم المتنوعة وعلى الاصعدة السیاسیة والفقهیة والاقتصادیة والاعلامیة والتربویة والدعویة کافة. لقد جاءت ولادة الدولة الاسلامیة فی إیران لتعطی مشروع التوحید دفعة قویة بتبنیها لخطاب وحدوی شامل، ولإضفائها البعد السیاسی على مشروع الوحدة وهو البعد الضروری الذی یضاف الى البعد العقیدی والمذهبی والاجتماعی. ان التحدی السیاسی یمثل – فی الجواهر- اکبر عامل دافع نحو الوحدة، فحجم التحدیات التی تواجه المسلمین یتطلب قدراً کبیراً من التماسک والتعاون والتنسیق والتآلف والوحدة فی المواقف، وما یباعد بین المسلمین لیس اکبر مما یوحدهم، فأمة العقیدة الواحدة المستهدفة فی عقیدتها وإطارها الحضاری فی عملیة صراع شاملة لابد أن تدرک موقعها فی الصراع ونقاط قوتها وضعفها. وعندما یتحول الهم الوحدوی الى هم شعبی یستشعره الافراد جمیعاً ولا یعود منحصراً بنخبة من العلماء والمؤسسین او ذوی الاختصاصات الاکادیمیة، فان القاعدة الشعبیة للوحدة ستکون السیاج الذی یحمی المشروع ویعضده فی مقابل عناصر الاضعاف والفرقة والانقسام. الطریق الى الوحدة منذ عام 1979 انطلق من ایران نداء وحدوی حار کانت أصداؤه تتردد فی انحاء العالم الاسلامی، فقد تبنت الثورة مشروع الوحدة، لیس على طریقة الشعارات الاستهلاکیة ولاستغلال ذلک فی المزایدات المذهبیة والسیاسیة والاعلامیة، بل ان الخطاب الوحدوی الذی صدر عن الامام الخمینی الراحل کان ینطلق من رؤیة عمیقة وتحلیل دقیق لمشکلات العالم الاسلامی، فالتجزئة هی سبب ضعف المسلمین، وغلبة الاعداء منشؤها التجزئة، وکان ضروریاً بالتالی استبدال عوامل الضعف والانهیار بنقیضها بعد وعی أسبابها ووضع الید على نقاط الخلل. فأین یکمن الخلل؟ ان هناک تعصباً طائفیاً فی واقع الامر تغذیه منابع جعلت أهدافها اثارة عناصر الخلاف وتضخیمها والنفخ فیها على الدوام. والى جانب التعصب الطائفی، هناک الانقسام السیاسی الذی سببه الدول القومیة والقطریة، والانظمة العلمانیة المتحالفة مع الغرب، وهناک أیضاً نوع من ازمة الثقة ورواسب من التفکیر تعود الى النصوص وتهمل تحدیات الواقع المعاصر، والتبعیة الفکریة والسیاسیة. وقد رکز الخطاب النهضوی للامام الخمینی على هذه المشاکل الموروثة فکان همُّ الوحدة بین المسلمین یستأثر بأولویات اهتماماته، وانعکس ذلک فی کلماته ورسائله وبیاناته وفتاواه، وکان بیانه السنوی للحجیج یتضمن شرحاً وافیاً لاخطار الفرقة والتباعد، ودعوة خالصة الى الوحدة. وقد رَدَمَت مواقف الامام الراحل هوة عمیقة بین المسلمین إلاّ ان عوامل التعصب استمرت تفعل فعلها، ولکنّ الاطار الفکری للوحدة ظل یتحرک على أکثر من صعید للاسباب التالیة: اولاً: ان صعود القوى الاسلامیة ودعوتها الى تحکیم الشریعة الاسلامیة والعودة الى أحکام القرآن، وسع قاعدة الوحدة وجعلها تتحرک فی دائرة جماهیریة أوسع. فمن ضروریات الدعوة الى الحکم الاسلامی، الوحدة بین المسلمین، لأن القوى الاسلامیة السنّیة تتبنّى نظریة الخلافة فی الحکم، وهذه النظریة تعتبر الوحدة شرطاً من شروطها. ثانیاً: إن مصلحة المسلمین باتت تقتضی نوعاً من التفاعل الوحدوی، فالموقف من قضیة فلسطین مثلاً لا تعوقه المذهبیات او الحالة القومیة، والمسألة تتعدد بتعدد التحدی الذی یواجه المسلمین، فوحدة المعرکة الاسلامیة المصیریة تحرک المناخ الوحدوی أکثر من ای وقت مضى لان المعرکة غدت معرکة المشروعین الاسلامی والغربی، والمشروع المعادی لم یعد یفصل بین اسلامی وآخر، ولا بین بلد مسلم وآخر، وهنا یکمن الدافع السیاسی الذی یعضد الدافع العقیدی (ان هذه أمتکم امة واحدة). ثالثاً: إن حیویة العقیدة فی نفوس المسلمین تشکل بحدّ ذاتها دافعاً وحدویاً لان قضیة الوحدة تبتنی على الشرعیة، فالتجزئة والانقسام لا یستند الى الشرعیة الاسلامیة، بل الى شرعیة مغایرة او خارجة عنها هی شرعیة القومیة او المذهبیة او القطریة ای شرعیة العنصر واللغة ولیس شرعیة الدین، وهذه الشرعیة مهما ترسخت لن تصبح بدیلاً عن شرعیة الجماعة المسلمة التی یکونها اطار الامة الموحدة بوحدة العقیدة والمبدأ. ان السبیل الى وحدة المسلمین هو إقامة الحکم الاسلامی، وقبل ان یصبح ذلک حقیقة، لابدّ من طی مراحل متعددة أهمها انفتاح المسلمین على بعضهم واشتراکهم فی المشروعات الفکریة والسیاسیة والاقتصادیة، وتبلور وجود اسلامی له شخصیة متمیزة واضحة، وانتقال الصراع من الداخل وتوجیهه الى الخارج. وفی الطریق الى ذلک تکون مؤسسات التقریب والتعاون والتفاهم بین العلماء والمتخصصین، ونبذ النعرات الطائفیة، والعمل على ترسیخ الاحترام المتبادل، والاعتراف بالآخر، والعمل بالمشترکات والممکنات، مراحل لاغنى عنها فی سبیل الوصول الى الهدف الکبیر. ان المنابر الاعلامیة والفکریة والدعویة تستطیع المساهمة فی المشروع الوحدوی، لانه تکلیف المسلمین الجماعی فی عالم لم یعد فیه للوجودات الصغیرة مکان. ان رعایة الجمهوریة الاسلامیة لمشروع الوحدة عبر مؤسسات مهمة کمجمع التقریب بین المذاهب، وأسبوع الوحدة الاسلامیة، ومؤتمرات الفکر الاسلامی، وفرّت قطباً دولیاً یرعى قضیة الوحدة على مستوى المؤسسات والافکار، ولا نعتقد أن المشکلة متجذرة فی التنظیر والفکر، بل فی الممارسة العملیة، فمتى ما خطا المسلمون الخطوات الصادقة فإن کل شیء سیتجه الى الوحدة. قال تعالى (وأن اقیموا الدین ولاتتفرقوا فیه). صدق الله العلی العظیم.
حیدر العبادی
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 3,226 |
||