السیاسة الخارجیة السعودیة بین انعدام الرؤیة و تبدد الخیارات | ||
![]() | ||
السیاسة الخارجیة السعودیة بین انعدام الرؤیة و تبدد الخیارات فؤاد ابراهیم إن المعطیات المتوافرة حول أداء الدیبلوماسیة السعودیة فی الآونة الأخیرة تشی بضیاع شبه کامل.. ولأنها لا تملک رؤیة استراتیجیة لما ترید أن تکون علیه سیاستها الخارجیة وعلاقاتها الدولیة، فإنها، فی ظل أحادیث عن تسویات کبرى فی المنطقة، تجنح لأن تتحوّل الى أداة تعطیل فاعلة، فلا حل فی سوریا، وتالیاً لا حکومة فی لبنان، ولا حل فی البحرین، وتالیاً لا حکومة منتخبة، والأهم من ذلک کله توظیف کل إمکانیاتها المالیة وشبکة علاقاتها الاقلیمیة والدولیة لمنع التقارب الامیرکی الایرانی.. ولکن حین یأتی موعد الحصاد تبدو الدیبلوماسیة السعودیة فی حال بائسة. أوحى رجل المهمات الخاصة بندر بن سلطان لأفراد أسرته المالکة بأن ما أنجزه فی ملفات المنطقة یقارب الإعجاز فی عالم یزداد تعقیداً، فیما تجعل حدّة الاستقطاب السیاسی فرص الاختراقات السیاسیة ضئیلة ونادرة. وحین حلّ ضیفاً استثنائیاً على الرئیس الروسی فلادیمیر بوتین، تلا بندر أمامه مطالعة استعراضیة لإنجازاته الممثلة فی إسقاط الرئیس مرسی فی إطار خطة تنسیق مسبقة مع اللواء عبد الفتاح السیسی، وإسقاط حکومة میقاتی الموصومة بکونها حکومة (حزب الله)، والإمساک بملف المعارضة السوریة بشقیها السیاسی والمسلّح، وإحکام القبضة على معادلة الحکم فی الیمن والبحرین، إلى جانب القدرة التخریبیة الهائلة فی العراق، والأخطر هو الرعایة الروحیة والمالیة لمقاتلی القوقاز. اعتقد بندر أنه بات یملک أوراق اللعبة کافة، وأن بوتین أصبح محاصراً ولا یملک أمام قائمة الإنجازات السیاسیة للأمیر بندر سوى القبول بالصفقة التی جاء من أجل عرضها علیه. غضب بوتین من عبث بندر بمسألة الأمن القومی الروسی بحدیثه عن مقاتلی القوقاز، ولکن لم یشأ إبلاغه رفض الصفقة بالجملة، وترک باب التکّهنات مفتوحاً، ما دام لیس هناک حسم مأمول قریباً فی أی من ملفات المنطقة. ولکن بندر فهم الرسالة الروسیة، وقرر فور عودته الى الدیار فتح جبهة جدیدة فی سوریا، وکانت اللاذقیة، التی لم تدم المعارک فیها طویلاً لأسباب تتعلق بمناعة المدینة على الانفلات، ولکن مجرد الاقتراب منها کان رسالة تنبیه الى موسکو بأنه یستطیع ما لا یستطیع غیره فی جبهات القتال السوریة، وقد یصل الى طرطوس إن تطلب الأمر. على أیة حال، ما کانت تتوهّمه الریاض أوراقاً رابحة، شعرت بعد التسویة الکیمیائیة بین موسکو وواشنطن بالتنسیق مع طهران ودمشق وکأنها بمثابة شیکات بلا رصید. تدرک السعودیة ومن تجارب سابقة أن ثمة مستویات فی الأمن القومی الأمیرکی تجعل منها وحتى من إسرائیل خارج إطار التحالف الاستراتیجی واتفاقیات الحمایة، یبدو ذلک بوضوح شدید فی قرارات الحرب والسلم، فالسعودیة لم تکن مع إسقاط حکومة «طالبان» فی أفغانستان العام 2001، ولا إسقاط نظام صدام حسین فی العراق العام 2003، وعلى الضد کانت تراهن، ولا تزال، على حرب مدمّرة على إیران وسوریا، وهی ما تنأى الولایات المتحدة عنه، لأسباب تتعلق أیضاً بأمنها القومی.. والکلام إذاً ینتقل الى مستوى أدنى، لاختبار أداء الدیبلوماسیة السعودیة. ظهر جلیاً أن ما بعد التسویة الکیمیائیة بین واشنطن وموسکو وتداعیاتها على التقارب الأمیرکی الإیرانی، کشف عمق الخلل فی السیاسة الخارجیة السعودیة، وتبیّن أنها تعمل وفق رهانات قصیرة الأجل. وبإمکان المراقب أن یحصی تظهیرات الخلل فی الأداء السعودی ما بعد التسویة الکیمیائیة بدأت بصمت الصدمة حیال متغیّر مباغت، فلم یصدر تصریح رسمی یعلّق على ما جرى، وحین استفاقت الخارجیة من أعراض الصدمة قدّمت تعلیقاً باهتاً خلاصته: أن الأزمة السوریة لا تتعلق بالقضیة الکیمیائیة. ثم کرّت سبحة الإرباکات الدیبلوماسیة: إلغاء کلمة وزیر الخارجیة سعود الفیصل أمام الجمعیة العمومیة فی الامم المتحدة دون بیان السبب فی حینه، وحین صدر توضیح من السفیر السعودی فی الامم المتحدة جاء مثیراً للسخریة محمّلاً الجمعیة المسؤولیة لأنها تجاهلت قضیة فلسطین، أعقبها إلغاء زیارة الرئیس میشال سلیمان، وکان السبب المعلن هو الوضح الصحی للملک، ومن غرائب الصدف أن الأخیر لم یکن بمثل النشاط الذی کان علیه تلک الأیام وهو یستقبل وفود الأمراء والمشایخ والوجهاء فی المناطق الأخرى، وثالثاً تأجیل، بنکهة الإلغاء، لزیارة الرئیس الإیرانی حسن روحانی للحج، التی کان من المقرر أن تختتم بلقاء قمة إیرانیة ـ سعودیة. فی الملف السوری، بدت ظاهرة الانشقاقات فی الجماعات المسلّحة وکأنها مدبّرة، بالنظر الى تزامنها مع الحدیث عن مؤتمر (جنیف 2). وکان الإعلان عن (جیش الإسلام) برعایة السعودیة، والمؤلّف من عناصر وألویة منشقّة عن الجماعات المسلّحة الکبرى: (جبهة النصرة)، (داعش)، (الجیش الحر) وغیرها، أول مؤشر على جنوح سعودی نحو تخریب بیئة الحل المفترضة. وفی الشق السیاسی، أظهر حلفاء السعودیة فی المعارضة السیاسیة السوریة تشدّداً غیر مسبوق حیال (جنیف 2). والرسالة واضحة أن رهان السعودیة کان ولا یزال هو مع الخیار العسکری، وإن فشله یعنی فشل الرهان بأکمله، وهذا ما ترید إبلاغه للحلفاء والخصوم على السواء. ولکن تبقى المشکلة: من هم على استعداد لخوض حرب معلومة النتائج المدمّرة؟ لقد خسرت السعودیة محیطاً إقلیمیاً کان قبل سنوات متصالحاً معها، ولم یبق أمامها سوى دول إما مصنّفة فی خانة الخصوم، أو تکاد تنال وصمة الدولة الفاشلة. وبرغم من إطاحتها حکومة مرسی إلا أن مصر الحالیة لم تستعد دورها القومی بعد، وفی تکوین الوعی الشعبی لا تبدو السعودیة فی المفضّلة المصرّیة، فالتاریخ القریب من التنافس على مناطق النفوذ التقلیدیة حیناً والنزاع غیر المباشر أحیاناً لا یخدم الأهداف المرسومة سعودیاً.. فمصر الیوم، کما یقول الرئیس السوری، هی أقرب الى سوریا منها فی عهد مبارک ومرسی على السواء. أما لبنان فهو لیس أولویة، لأن السعودیة لا تزال تنظر الیه باعتباره البوابة الخلفیة لسوریا، التی إن سقطت أمکن السیطرة علیهما معاً، ولذلک فإن محاولات صقور ( 14 آذار) لناحیة إیصال صرخات الاستغاثة المطرّزة بالعبارات المذهبیة (إنقاذ أهل السنّة فی لبنان) طمعاً فی أن تصل الى الریاض تتوارى على وجه السرعة فی دویّ القنابل والصورایخ فی الداخل السوری.. بل إن حلیفی السعودیة اللدودین الترکی والقطری أصبحا خصمین لها فی المیدان، وما المعارک الضاربة التی اندلعت على بوابات الحدود الترکیة سوى رأس الجلید النافر فی أزمة العلاقة السعودیة الترکیة. وفی النظرة الإجمالیة لخریطة التحالفات الإقلیمیة، لا تبدو السعودیة فی وضع مریح، ولا غرابة حین تسقط الجامعة العربیة من الحسابات السعودیة، لأن المنظمة هذه تظهیر أمین للشلل التام الذی أصاب النظام العربی. واللافت أیضاً، أن العقم الذی یعانی منه هذا النظام طال مرکز القیادة، فلأول مرة تبدو الأمة بلا رأس، إن صدقاً وإن کذبا. لا ریب أن الثورة المضادة بقیادة السعودیة حقّقت بعض أهدافها، بأن جعلت من الثورات العربیة مجرد وقائع محلیة غیر عابرة للحدود، وعملت إمبراطوریتها الإعلامیة على تصویر الربیع العربی على أنه مشروع إخوانی، وأعانت أخطاء نظام مرسی فی مصر على ترسیخ هذا الهاجس فی المناطق الأخرى (تونس بدرجة أساسیة). ولکن فی المقابل، لم تسلم السعودیة من الأعراض الجانبیة لثورتها المضادة، وهی أعراض خطیرة أیضاً، کما العلاج الکیمیائی، الذی أفقدها المناعة على المستوى القومی، ما ألجأها الى تسویر حدودها، خشیة تسرّب السلاح والأفراد الى داخل أراضیها الشاسعة والمعرّضة لأن تشهد فی حال تخلخل بنیانها الأمنی والسیاسی حرباً شعواء سوف تنتهی بتفکک الدولة . وفق هذه المتغیرات الإقلیمیة، لم تجد الدیبلوماسیة السعودیة بدّاً من عبور المحیطات، بحثاً عن حلفاء فی الساحات الاخرى، ولکن حتى هذه الساحات لها مشاکلها، وتحدیاتها، وأیضاً رهاناتها. أوروبیاً، تقلّصت الخیارات السعودیة حتى باتت باریس دون بقیة العواصم الأوروبیة قبلتها فی الشدائد، وفی إیصال الرسائل الى واشنطن، وحتى لندن التی کانت حلیفاً استراتیجیاً للریاض لم تعد کذلک منذ قرار مجلس العموم رفض المشارکة البریطانیة فی الحرب على سوریا، وترکت لغیرها قرار السیر فی حقل الالغام. مهما یکن، فإن المعطیات المتوافرة حول أداء الدیبلوماسیة السعودیة فی الآونة الأخیرة تشی بضیاع شبه کامل.. ولأنها لا تملک رؤیة استراتیجیة لما ترید أن تکون علیه سیاستها الخارجیة وعلاقاتها الدولیة، فإنها، فی ظل أحادیث عن تسویات کبرى فی المنطقة، تجنح لأن تتحوّل الى أداة تعطیل فاعلة، فلا حل فی سوریا، وتالیاً لا حکومة فی لبنان، ولا حل فی البحرین، وتالیاً لا حکومة منتخبة، ما یعنی بقاء رئیس الوزراء خلیفة بن سلمان فی منصبه، والأهم من ذلک کله توظیف کل إمکانیاتها المالیة وشبکة علاقاتها الاقلیمیة والدولیة لمنع التقارب الامیرکی الایرانی.. ولکن حین یأتی موعد الحصاد تبدو الدیبلوماسیة السعودیة فی حال بائسة.
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,498 |
||