واقعة الطف.. بین التشابیه والمسرح والسینما | ||
واقعة الطف.. بین التشابیه والمسرح والسینما کم من الناس یتسلقون قمم الخلود والسمو وکم من هؤلاء الذین یغیرون قوانین الزمان والمکان لیکونوا ملکاً للانسانیة . أولئک هم عظماء الحیاة، وأبطال الإنسانیة، ولذلک ستبقى مسیرة الحیاة تحث الخطى نحوهم، وما أروع الشموخ إذا کان صنعه الایمان بالله، وصاغته عقیدة السماء. الحسین بن علی (علیه السلام) قمة من قمم الإنسانیة الشامخة، وبیرق من بیارق البطولة والفداء. کل الاشیاء تقف صامتة فی حضرة الحسین وترکع لتنهل من اساطیر التضحیة والفداء. الفکر یتشتت وتخرس الالسن أمام وجود هائل من التألق، کوجود الحسین... وأمام إیمان، کإیمان الحسین... وأمام سمو شامخ عملاق کسمو الحسین... وأمام حیاة زاهرة بالفیض والعطاء کحیاة الحسین.. لایمکن ان نلج هذا العالم الرحب عالم السمو والشهادة . ولایمکننا ان نسبر اغوار هذه الملحمة الانسانیة الرائعة.. من یرید ان یعی ملحمه الحسین علیه اولا ان یفهم الحسین وان یذوب فی بودقة الحسین ویسیر على هدى الحسین .الحسین فکرة تجلت باروع المعانی الانسانیة واکتسحت کل المفاهیم الدنیویة.. کیف یمکن ان نوصل فکرة الحسین بصورة بهیة بعیدا عن المغالاة... التشابیه الحسینیة صورة من صور الایصال بطریقة فنیة ممسرحة اخذت طابعا فنیا عفویا.. إن التشابیه الحسینیة التی تقدم فی أیام محرم ضمن الشعائر الدینیة التی تقام فی مثل هذه الإیام تعمق ذکرى النهضة الحسینیة ومبادئها فی نفوس المشاهدین لها وتبقى صورة الحادثة ماثلة أمام الناس. فمعرکة الطف من خلال هذه التشابیه تمسرح بشکل أحتفالی ضخم یصل أحیانا إلى تجسید المأساة بکل تفاصیلها. فهنالک ساحة القتال والفریقان المتحاربان، فی جانب الإمام الحسین والجانب الآخر جنود یزید . وعلى محیط ساحة الحدث تحتشد الجماهیر لتجد التاثیر والحزن على وجوه الحاضرین. ویلبس المؤدون لهذه الأدوار ملابس خاصة بهم وهو یمتطون الخیول ویحملون الرایات والسیوف ویلبسون لباس الحرب ویسیرون فی موکب عزائی ترافقهم الطبول والأبواق حتى ینتهی هذا العزاء بذکر مصاب هذه الشخصیة التی یؤدون دورها على مسامع الحاضرین لینتهی الموکب بعزاء اللطم وذکر الأشعار التی تؤبن هذه الشخصیة المقدسة.لم تاخذ هذه التشابیه البعد المسرحی الکامل ای انه لم یقدم حتى الان عملا مسرحیا یتناول واقعة الطف بشکل مفصل . طبعا واقعة الطف تلک المرجعیة العظیمة عملت واشتغل علیها فی معظم مسارح البلدان المجاورة للعراق ولکن علینا ان ننتبه فی هذا الوقت تحدیدا إلى کیفیة الافادة من هذه التجربة والمرجعیة الکبیرة فی تقدیمها بعرض مسرحی خصوصا ان هذه الواقعة قدمت شعبیا ما یسمى بـ(التشابیه) التی هی شکل من اشکال العرض المسرحی الذی یعتمد فقط على الهواة وتقدیم الملحمة بشکل فوتوغرافی. الفن موضوع آخر ممکن ان یستخرج من واقعة الطف آلاف القصص والرؤى على ان لا تخرج من المتن الحقیقی للواقعة وضرورتها وایضا تأثیرها فی المجتمع الاسلامی ، واذا اراد الفن ان یستخرج من الواقعة ما یمکن ان یؤسس لمنظومة عرض مسرحی جمالی متطور علیه ان لا یأخذ من الواقعة شکلها والمتن الحکائی السردی المتعارف علیه الذی اصبح معروفا حتى لدى الاطفال والجانب الوجدانی العاطفی هو الوحید المتمسک بمثل هکذا عروض (التشابیه) وحتى العاملون فی مثل هذه العروض یکون عندهم التأثیر فی الناس هو معیار نجاحهم، قضیة کربلاء فی السینما حول بروز قضیة کربلاء فی السینما کانت قضیة الإمام الحسین (ع) من أهم المواضیع التی تم طرحها فی السینما العربیة والإسلامیة على أکثر من صعید. فهناک العدید من التجارب العربیه لاسیما السوریه ، فضلاً عن استعداد للمخرج العراقی (قاسم حول) الذی لم تسعفه المادة والدعم لعمل ذلک الفیلم، حیث کان من المقرر إخراجه فی العراق وخصوصاً فی کربلاء. وأما فی التجربة الإیرانیة فقد احتلت قضیة الإمام الحسین (ع) جانبا هاماٌ من نشاطها و هناک تجارب عدیده لعل ابرزها تجربة فیلم (الواقعة) بصورة مباشرة، وفیلم عبدالله الأنصاری بصورة غیر مباشرة. اما أبرز المعوقات التی تمنع ظهور الفیلم الحسینی تتمثل فی عدم ترکیز الجهود على الرؤیة التاریخیة والإخراجیة الکفیلة بإخراج الفیلم أو بسبیل یوصل الرسالة بطریقة إبداعیة ومؤثرة، فإذا کانت قصة کربلاء تثیر الشجن عند قراءتها فما عساک تتخیل عند مشاهدتها. فضلاً عن نقص الدعم المالی، إذ أن عقلیة الدعم للأفلام الرسالیة لم تترسخ بعد، وهذا یستدعی توجهاً مدروساً من أصحاب الخطاب الدینی الملتزم من جهة، وتقدیم دراسات اجتماعیة واقتصادیة متخصصة من جهة أخرى.أما بخصوص الموقف المطلوب من قبل التجار أو الحوزات الدینیة فهو توضیح الجدوى الاقتصادیة فی حال تبنی المشروع والقیام به، وتبیان الأهمیة الدینیة کمصداق لدعم القضیة الحسینیة وإحیاء الشعائر. فضلاٌ عن العمل على البحث من النواحی الشرعیة للأمور المتعلقة بشؤون السینما والفن، ونشره للمهتمین، وإقامة ندوات مفتوحة لمناقشة مثل هذه المشاریع أو إقامة ندوات متخصصة تجمع التجار وعلماء الدین وأولی الاختصاص تحت مظلة واحدة. اختلاف الرؤى حول النص التاریخی وبخصوص إمکانیة وجود نصوص إسلامیة متفق علیها أدبیاً وتاریخیاً لتقدیم مأساة کربلاء بصورة ترضیّ جمیع الطوائف الإسلامیة فمثل هذا یفترض حالة مثالیة نأمل الوصول إلیها، بینما دونها الکثیر من التفاصیل التاریخیة التی یعتمدها أهل الطوائف والمؤرخون على اختلاف مشاربهم. وأن کنت لا أبحث أبداً عن نص واحد للحادثة، فلکل حدث تاریخی الزاویة التی یمکن للمؤرخ أن یرصدها برؤیة خاصة. کما أنه لکل عدسة مخرج یسلط عدسته على الحدث الذی یرید تقدیمه وصیاغة رؤیته من خلاله، فاختلاف الرؤى فی الأحداث التاریخیة کفیل بتولید أفلام ونصوص متعددة للحدث الواحد . لیس صعبا ان تقوم هولیوود بانتاج فیلم عن واقعة الطف إذا توفرت إرادة قویة بهذا الاتجاه، فسوف تتیح السینما العالمیة لنا نقل صورة من صور کربلاء، بحیث یستلهم الناس من خلالها أداة عالمیة حدیثة قادرة على التواصل فیما بینهم وإیصال رؤیة واضحة بخصوص واقعة کربلاء. وتوجد مشاریع صغیرة ینبغی نقدها وتشجیعها حتى تستطیع أن تثبت أقدامها، وتمتلک أدوات الفعل الفنی والإبداعی لترتقی فی مجال تقدیم الصورة الفنیة والإبداعیة لشخصیة الإمام الحسین (ع) . ** لیس صعبا ان تقوم هولیوود بانتاج فیلم عن واقعة الطف إذا توفرت إرادة قویة بهذا الاتجاه، فسوف تتیح السینما العالمیة لنا نقل صورة من صور کربلاء، بحیث یستلهم الناس من خلالها أداة عالمیة حدیثة قادرة على التواصل فیما بینهم وإیصال رؤیة واضحة بخصوص واقعة کربلاء. ** إن التشابیه الحسینیة التی تقدم فی أیام محرم ضمن الشعائر الدینیة التی تقام فی مثل هذه الإیام تعمق ذکرى النهضة الحسینیة ومبادئها فی نفوس المشاهدین لها وتبقى صورة الحادثة ماثلة أمام الناس.
عاشوراء مدرسة الاحرار وتبقى لنا فی کلّ سنة عاشوراء، ونتطلّع إلى کلّ الرّحلة التی قطعتها فی مدى الزمن لنراقب، ثم لنعتبر، ثم لنتحرّک.
انطلقت عاشوراء فی معنى الذکرى، فی وعی أکثر من جیل من أجیالنا التی سبقتنا، دموعاً تستذکر المأساة، وتعی مأساة کلّ أوضاعها من خلال ما تنفتح به على مأساة کربلاء، وربما کان الکثیرون من النّاس ینزفون دموعهم الکربلائیّة لتلتقی بدموعهم الذاتیّة أو المجتمعیّة، فی ساحات لا یملک فیها الکثیرون من هؤلاء النّاس أیّة فرصة لتغییر الواقع، وکانت کلّ قضیّتهم کیف یمکن أن یتفادوا شرور هذا الواقع وحصاره، ولذلک کانت الدّموع تعبیراً عن الإحساس بالمأساة الّتی تضیف إلى تلک الأجیال أکثر من مأساة جدیدة یستحضرون فیها الحکم المنحرف فی الواقع الإسلامی الّذی کان سرّ حرکة عاشوراء، وکانوا یتطلّعون إلیه فی الواقع الّذی یعیشون فیه. وهکذا تحرّکت عاشوراء وکانت وعیاً، إلى أن تحوّلت تقلیداً، وأصبحت تلک الدموع الاحتجاجیة أشبه بدموع تقلیدیة باردة، نعتصرها لأننا لا نعیش حرارتها، ونحن جمیعاً نعرف أن أیة قضیة عندما تتحول إلى تقلید من تقالید الناس فإنها تجمد. ولذلک أصبح الشّعراء عندما ینظمون الشعر فی عاشوراء، یتحرّکون فی استغراق باکٍ فی المأساة، ویحاولون أن یتخیّلوا من خلال ظروفهم البدویّة، لیحرّکوا زینب(ع) فی أحادیث عاشوراء على أساس تقالید نساء البدو، فتتصوّر وأنت تقرأ الشّعر القریض أو الشعر الشعبی، أنّک تلتقی ببدویّة تعرف کیف تبکی وکیف تسقط أمام المأساة، وتواجه عشیرتها لتستثیرهم، کأنّ المسألة قضیّة ذاتٍ تستنفر العشیرة، لا قضیّة بطلة تستنفر الأمّة. ولذلک، فقد أصبحت زینب(ع) فی الذهنیّة الشعبیّة، وربما فی المستوى الأعلى من الذهنیة الشعبیة، رمزاً للمأساة أکثر مما هی رمزٌ للقضیّة، لأن الذین کتبوا المأساة من خیالاتهم، أو الذین صوّروا المأساة فی أشعارهم ونثرهم، أرادوا لأبطال کربلاء أن یتحوّلوا إلى شیء یبکی لا إلى قوّة تتحدّى، وحتى عندما یتحدّثون عن القوّة وعن کلمات القوّة، فإنهم یحدّثونک عنها بطریقة بکائیّة؛ هل یمکن لک أن تبکی وأنت تسمع الحسین(ع) یقول: “لا والله لا أعطیکم بیدی إعطاء الذّلیل، ولا أقرّ لکم إقرار العبید”؟ هل یمکن لک أن تبکی أو أن تستحضر أیّة دمعة من الدّموع، وأنت تسمع الحسین(ع) یقول: “ألا وإنّ الدعیّ ابن الدعیّ قد رکز بین اثنتین؛ بین السلّة والذلّة، وهیهات منّا الذلّة!”. ومع ذلک، یریدون لک أن تبکی معها، حتّى تأکل المأساة الموسیقیّة فی اللّحن العزائی، کلّ معنى للقوّة فی الکلمات. وأصبحت لنا الشخصیّة البکائیّة الّتی تبکی حتى وهی تفرح، وقد قال قائلهم: یفرح هذا الورى بعیدهم ونحن أعیـادنـا مآتمن وهکذا أدمنت عاشوراء البکاء وأدمنت المأساة، حتى أصبح الکثیرون من الناس ممن یقومون بعاشوراء عزاءً أو موکباً ، ینکرون علیک أن تُدخل فی عاشوراء شیئاً إسلامیاً یتحدّى، أو تدخل فیها موقفاً سیاسیاً یهزّ حاضرک ویتحدّى وجودک، لتستلهم عاشوراء التحدّی وعاشوراء الانفتاح والثّورة. حتّى وهم یقرأون ما قیل عن لسان الحسین(ع) إن کان دین محمد لم یستقم إلا بقتلی فیا سیوف خذینی فهم لا یحاولون أن ینفذوا إلى عمق الکلمة لیعرفوا ما هی مسألة استقامة دین النبیّ(ص) بهذه الدّماء، وماذا کانت تطلب هذه الدمّاء؛ هل کانت تطلب تغییراً جزئیاً بأن یترک یزید شرب الخمر ولعب القمار وقتل النفس المحترمة، لیعترف بشرعیّته ویبقى الحاکم، لأنّ المسألة هی قضیّة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، ولیست هی قضیّة حکم یُطلب ویغیّر ویُسقط لیستبدل به حکم آخر یملک الشرعیّة فی العمق والامتداد والحرکة؟! هناک عنوان من العناوین الکربلائیّة التی أطلقناها منذ أکثر من أربعین سنة ونحن فی الخط الإسلامی الحرکی، والتی فجّرها الإمام الخمینی(رض) فی ثورته، أنّ أیّة حرکة إسلامیّة تنطلق بها جهة شرعیّة، لا بدّ من أن تضع فی عنوانها لتغییر المجتمع أن تحکم، والحرکة الّتی لا تضع فی استراتیجیتها أن تحکم، وأن تجعل الواقع على صورة فکرها وشریعتها وسیاستها واقتصادها، هی لیست حرکة فکریّة سیاسیّة، بل هی مجرّد جمعیّة إصلاحیّة تأمر بمفردات المعروف الشخصیّة، وتنهى عن مفردات المنکر الشخصیّة. نحن نعتبر أنّ مسألة الصّراع الّتی لا تزال تتحرک فی خلاف المسلمین فی مدرستی الإمامة والخلافة، هی: من الذی یملک شرعیة الحکم؛ علیّ(ع) أو الآخرون؟ وعلی(ع) عندما تحدّث عن حقّه، انطلق على أساس أن یحکم، ولیس المقصود من أنّ الإنسان یرید الحکم أنّه یریده لشهوة. صاحب القضیة یجب علیه أن یطالب بالحکم، لا من خلال شخصه، ولکن من خلال القضیّة، وهذا ما عبّر عنه أمیر المؤمنین(ع) عندما کان یناجی ربّه وهو یشیر إلى هذا الصّراع الّذی کان یدور بینه وبین الآخرین: “اللّهمّ إنّک تعلم أنّه لم یکن الّذی کان منّا منافسةً فی سلطان، ولا التماس شیء من فضول الحطام، ولکن لنرد المعالم من دینک، ونُظهر الإصلاح فی بلادک، فیأمن المظلومون من عبادک، وتُقام المعطَّلة من حدودک”. فهل یمکن أن یتحقّق کلّ ذلک بدون أن یحکم؟ هل یمکن أن یقیم المعطّلة من الحدود، أو أن یؤمن المظلومین من العباد؟! أم کیف یمکن أن یرد المعالم من دینه، وأن ینشرها ویوضّحها وینثرها فی الواقع کله، بدون أن تکون له سلطة أن یحرّک هذه المعالم فی الواقع؟! وکیف یمکن أن یُصلح الواقع؟! وإصلاح الواقع لیس مجرّد کلمة تقولها، بل هی خطّة تتّصل بالاقتصاد والسیاسة والاجتماع وغیر ذلک. وعلى هذا، کان الحسین(ع) طالب حکم، لأنّه کان هو الشرعیة، ولا یملک الحسین(ع) إذا تهیّأت له الظّروف ـ ومن خلال عصمته وهو المعصوم ـ ومن خلال شرعیّته وهو الإمام ـ لا یملک إلا أن یطالب بالحکم. کان أوّل بیان سیاسیّ للإمام الحسین(ع) کما تروی السّیرة، یتحدّث عن الجانب القیادیّ فی الإسلام فی حرکته فی الواقع الإسلامیّ فی کلّ ما یعیشه المسلمون: “أیها النّاس، إنّ رسول الله قال: مَن رأى منکم سلطاناً جائراً ـ والسّلطان الجائر کان فی ذاک الوقت عنوان الدّولة ـ مستحلاً لحرم الله ـ فی کلّ ما حرّمه الله فی عباده وبلاده واقتصاد النّاس وسیاستهم وغیر ذلک ـ ناکثاً بعهده ـ عهد الإخلاص لله عزّ وجلّ، وللأمّة عندما یحکم ـ مخالفاً لسنّة رسول الله ـ فی حرکته فی السّیر القانونیّ والتّطبیقیّ ـ یعمل فی عباد الله بالإثم والعدوان، فلم یغیّر علیه بفعل ولا قول، کان حقّاً على الله أن یدخله مدخله”.. وهذا الخطّ الّذی یحرّک الحسین(ع) فیه الشرعیّة لحرکته وثورته، یرید أن یبیّن للنّاس أنّه ینطلق من کلام رسول الله(ص) فی مواجهة الواقع والثّورة علیه. ثم یبدأ(ع) فی تصویر الواقع: “ألا وإنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشّیطان، وترکوا طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفیء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غیّر، قد أتتنی کتبکم، وقدمت علیّ رسلکم ببیعتکم أنّکم لا تسلموننی ولا تخذلوننی، فإن وفیتم لی ببیعتکم، فقد أصبتم حظّکم ورشدکم”. کیف یغیّر الحسین؛ هل یقول لیزید: اتّق الله، ولا تشرب الخمر ولا تلعب القمار وابق خلیفة على المسلمین؟! لا یملک الحسین إذا سقط الحکم وکان متمکّناً، من خلال شرعیّته ومن خلال عصمته، إلا أن یکون هو الحاکم، لأنّ قضیّة إمامته فیما نعتقد، لیست قضیّة تنطلق من أصوات الجماهیر، ولکنّها قضیة تنطلق من الله سبحانه وتعالى بنصّ رسول الله(ص): “الحسن والحسین إمامان قاما أو قعدا”، ولذلک فإنّ الإمام لا یستطیع أن یتخلّى عن معنى الإمامة فی حرکته فی الحیاة. نعم، قد یجمد حرکته لأنّ الظّروف لا تسمح له بذلک، ولکن لا یمکن أن یُلغی إمامته لیقبل بإمامة أخرى. حتّى إنّ الإمام الحسین(ع) قال لوالی المدینة عندما عرض علیه أن یبایع یزید: “إنّا أهل بیت النبوّة، ومعدن الرّسالة، ومختلف الملائکة... بنا فتح الله وبنا ختم، ویزید رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل النّفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلی لا یبایع مثله، ولکن نصبح وتصبحون، وننتظر وتنتظرون، أیّنا أحقّ بالخلافة والبیعة”.. فهل کان الإمام(ع) یرید أن یقول فقط إنّه لا یبایع، أو أنّه کان یرید أن یقول: نحن الّذین نملک البیعة لأنّنا أهل بیت النبوّة؟... وفی قوله(ع): “خرجت لطلب الإصلاح فی أمَّة جدّی”، نفهم أنّ أیّ إصلاح لا یمکن أن یکون جزئیّاً، ولا سیَّما إذا کان الإصلاح فی الأمّة، وخصوصاً مع ملاحظة تتمّة قوله هذا بقوله: “وأسیر بسیرة جدّی وأبی”. ولذلک فالحسین(ع) تحرّک بعد أن قامت علیه الحجّة، عندما أرسل إلیه القوم أن أقدم على جنود لک مجنَّدة، فهل کان ذلک لیأتی الحسین(ع) إلیهم لیعظهم ویرشدهم، أو أنهم طلبوه لیحکم فیهم؟ کانت قصّة الحکم هی قصّة الواقع.. ولو عرف یزید أن الحسین(ع) یتحرّک لمجرّد أن یأمره بترک شرب الخمر ولعب القمار وما إلى ذلک، لاستقبله وتحدّث معه بکلّ هدوء، لکنّ المسألة کانت هی أنّه خاف على حکمه وشعر بالتّهدید فی واقعه.
حدیث الإمام السجاد (ع) مع الشبلی روی عن الإمام زین العابدین علی بن الحسین بن على أبی طالب (ع) انه لما رجع من الحج استقبله أحد الحجاج (الشبلی)، فقال له الإمام (ع) حججت یا شبلی؟. قال: نعم یا ابن رسول الله، فقال (ع): أنزلت المیقات وتجردت عن مخیط الثیاب واغتسلت؟!.. قال: نعم. قال (ع): فحین نزلت المیقات نویت أنک خلعت ثیاب المعصیة، ولبست ثوب الطاعة؟ قال: لا. قال (ع): فحین تجردت عن مخیط ثیابک نویت أنک تجردت عن الریاء والنفاق والدخول فی الشبهات؟ قال: لا.. قال (ع): فحین اغتسلت نویت أنک اغتسلت من الخطایا والذنوب؟ قال: لا.. قال (ع): فما نزلت المیقات، ولا تجردت عن مخیط الثیاب، ولا اغتسلت. ثم قال (ع): حین تنظفت وأحرمت، وعقدت الحج نویت أنک تنظفت بنور التوبة الخالصة لله تعالى؟ قال: لا. قال (ع): فحین أحرمت نویت أنک حرّمت على نفسک کل محرّم حرّمه الله عزوجل قال: لا. قال (ع): فحین عقدت الحج نویت أنک قد حللت کل عقد لغیر الله؟ قال: لا. قال له (ع): ما تنظفت، ولا أحرمت ولا عقدت الحج. ثم قال (ع) له: أدخلت المیقات وصلیت رکعتی الإحرام ولبیت؟؟ قال: نعم قال (ع) فحین دخلت المیقات نویت أنک بنیة الزیارة؟ قال: لا. قال (ع): فحین صلیت الرکعتین نویت أنک تقربت إلى الله بخیر الأعمال من الصلاة، وأکبر حسنات العباد؟. قال: لا. قال له (ع): ما دخلت المیقات ولا لبیت، ثم قال (ع) له: أدخلت الحرم، ورأیت الکعبة وصلیت؟. قال: نعم. قال (ع): فحین دخلت الحرم نویت أنک حرّمت على نفسک کل غیبة تستغیبها المسلمین من أهل ملة الإسلام؟ قال: لا. قال (ع): فحین وصلت مکة نویت بقلبک أنک قصدت الله؟ قال: لا. قال (ع) : فما دخلت الحرم، ولا رأیت الکعبة، ولا صلیت... ثم قال (ع): طفت بالبیت، ومسست الأرکان وسعیت؟ قال، نعم، قال (ع): فحین سعیت نویت أنک هربت إلى الله، وعرف ذلک منک علام الغیوب؟ قال: لا. قال (ع): فما طفت بالبیت، ولا مسست الأرکان، ولا سعیت. ثم قال (ع) له: صافحت الحجر ووقفت بمقام إبراهیم (ع)، وصلیت به رکعتین: قال: نعم، فصاح (ع) صیحة کاد یفارق الدنیا بها ثم قال (ع) آه. آه. وقال (ع): من صافح الحجر الأسود فقد صافح الله تعالى، فانظر یا مسکین ، ولا تضیّع أجر ما عظم حرمته، وتنقض المصافحة بالمخالفة وقبض الحرام، نظیر أهل الآثام. ثم قال (ع): نویت حین وقفت عند مقام إبراهیم (ع) أنک وقفت على کل طاعة. وتخلّفت عن کل معصیة؟ قال: لا. قال (ع): فحین صلیت رکعتین نویت أنک بصلاة إبراهیم (ع)، وأرغمت بصوتک أنف الشیطان؟: قال: لا قال (ع): فما صافحت الحجر الأسود، ولا وقفت عند المقام، ولا صلیت فیه الرکعتین. ثم قال (ع) له: أأشرفت على بئر زمزم، وشربت من مائها؟ قال (ع): نعم. قال (ع): نویت أنک أشرفت على الطاعة، وغضضت طرفک عن المعصیة؟ قال: لا. قال (ع): فما أشرفت علیها، ولا شربت مائها. قال: أسعیت بین الصفا والمروة، ومشیت وترددت بینهما؟ قال: نعم. قال (ع): نویت أنک بین الرجاء والخوف؟ قال: لا. قال (ع): فما سعیت ولا مشیت، ولا ترددت بین الصفا والمروة. ثم قال (ع): خرجت إلى منى؟ قال نعم. قال (ع): نویت أنک أمنت الناس من لسانک وقلبک ویدک؟ قال: لا. قال (ع): فما خرجت إلى منى. ثم قال (ع) له: أوقفت الوقفة بعرفة؟.. وطلعت جبل الرحمة وعرفت وادی نمرة، ودعوت الله سبحانه عند المیل والحجرات؟.. قال: نعم. قال (ع): هل عرفت بموقفک بعرفة معرفة الله سبحانه، أمر المعارف والعلوم، وعرفت قبض الله على صحیفتک، واطلاعه على سریرتک وقلبک؟.. قال: لا، قال (ع): نویت بطلوعک جبل الرحمة أن الله یرحم کل مؤمن ومؤمنة، ویتولى کل مسلم ومسلمة؟ قال: لا. قال (ع): فنویت عند النمرة أنک لا تأمر حتى تأتمر، ولا تزجر حتى تنزجر، قال: لا.قال (ع): فعندما وقفت عند العلم نویت أنها شاهدة لک على الطاعات، حافظة لک مع الحفظة بأمر رب السماوات؟. قال: لا. قال (ع): فما وقفت بعرفة، ولا طلعت جبل الرحمة، ولا عرفت نمرة، ولا دعوت، ولا وقفت عند النمرات، ثم قال: مررت بین العلمین وصلیت قبل مرورک رکعتین، ومشیت بمزدلفة، ولقطت فیها الحصى، ومررت بالمشعر الحرام؟ قال: نعم، قال (ع): فحین صلیت رکعتین نویت أنها صلاة شکر فی لیلة عشر تنفی کل عسر، وتیسر کل یسر؟ قال: لا. قال (ع): فعندما مشیت بین العلمین، ولم تعدل عنهما یمیناً ولا شمالاً، نویت أن لا تعدل عن دین الحق یمیناً وشمالاً، ولا بقلبک، ولا بلسانک، ولا بجوارحک؟ قال: لا. قال (ع): فعندما مشیت بمزدلفة ولقطت منها الحصى نویت أنک رفعت عنک کل معصیة وجهل، وثبت کل علم وعمل؟ قال: لا. قال (ع): فعندما مررت بالمشعر الحرام نویت أنک أشعرت قلبک اشعار أهل التقوى والخوف لله عزوجل؟ قال: لا. قال (ع): فما مررت بالعلمین، ولا صلیت رکعتین، ولا مشیت بالمزدلفة، ولا رفعت منها الحصى، ولا مررت بالمشعر الحرام. ثم قال (ع): وصلت منى ورمیت الجمرة، وحلقت رأسک، وذبحت هدیک، وصلیت فی مسجد الخیف، ورجعت إلى مکة، وطفت طواف الأفاضة؟ قال: نعم. قال (ع): فنویت عندما وصلت منى، ورمیت الجمار أنک بلغت أنک رمیت عدوک إبلیس، وعصیته بتمام حجک النفیس؟ قال: لا. قال (ع): فعندما حلقت رأسک نویت أنک تطهّرت من الأدناس، ومن تبعة بنی آدم، وخرجت من الذنوب کما ولدتک أمک؟ قال: لا. قال (ع): أفعندما صلیت فی مسجد الخیف نویت أنک لا تخاف الا الله عزوجل وذنبک، ولا ترجو إلا رحمة الله تعالى؟ قال: لا. قال (ع): فعندما ذبحت هدیک نویت أنک ذبحت حنجرة الطمع بما تمسکت بحقیقة الورع، وأنک اتبعت سنة إبراهیم (ع) بذبح ولده وثمرة فؤاده وریحانة قلبه وحاجة سنته لمن بعده، وقربه إلى الله تعالى لمن خلفه؟: قال: لا. قال (ع): فعندما رجعت إلى مکة، وطفت طوف الافاضة نویت أنک أفضت من رحمة الله تعالى، ورجعت إلى طاعته، وتمسکت بوده، وأدیت فرائضه، وتقربت إلى الله تعالى؟ قال: لا. قال له: زین العابدین (ع): فما وصلت منى، ولا رمیت الجمار، ولا حلقت رأسک، ولا ذبحت، ولا أدیت نسکک، ولا صلیت فی مسجد الخیف، ولا طفت طواف الافاضة، ولا تقربت، ارجع فانک لم تحج. فطفق (الشبلی) یبکی على ما فرط فی حجه، وما زال یتعلم حتى حج من قابل بمعرفة ویقین .
لمحات فنیة من آیات الحج أنّ النصّ القرآنی الکریم یعتمد ثلاثة أنماط من التعبیر: التعبیر العلمی. التعبیر الفنّی. التعبیر الذی یلفّق بینهما...وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ التعبیر العلمی یتناول المعرفة الإنسانیة والطبیعیة البحتة، بما أنّها حقائق تعتمد الملاحظة والعرض والاستدلال العقلی (أی: اللغة التی تعتمد المنطق والأرقام، التی لا تتدخل فیها عناصر الخیال أو العاطفة) حینئذ فإنّ التعبیر الفنّی یظلّ على عکسه تماماً حیث یعتمد اللغة التخیلیة والعاطفیة... هذا فی نطاق التجربة البشریة... وأمّا فی نطاق النصّ الشرعی (کالقرآن الکریم ونصوص المعصومین(علیهم السلام)) فإنّ اللغات الثلاث (اللغة العلمیة، اللغة الفنّیة، اللغة الجامعة بینهما) تجد سبیلها فی النصّ المشار إلیه. وبمقدورنا ملاحظة ذلک فی الظواهر التی یتناولها القرآن الکریم، حیث یتناول الظواهر الفیزیائیة أو الکیمیائیة وغیرهما من المعرفة (الطبیعیة) بلغة (الفن) فی بعض النصوص، والأمر کذلک حیث یتناول الظواهر العقائدیة أو الأخلاقیة أو التاریخیة. والأمر کذلک حین نتّجه إلى نصوص المعصومین(علیهم السلام)، حیث نجد أن الإمام علیّاً(علیه السلام) مثلاً، یتناول ظواهر علمیة تتصل بنشأة الکون وفق لغة فنّیة تعتمد عناصر إیقاعیة (کالسجع أو التجنیس أو توازن العبارة...) وعناصر صوریة (کالتشبیه أو الاستعارة أو الرمز...)... طبیعیاً، السیاق هو الذی یحدّد فیما إذا کانت اللغة العلمیة أو الفنّیة أو اللغة الملفّقة بینهما، هی اللغة الأشدّ تأثیراً فی المتلقی، وهو أثر لا یفسح لنا المجال الآن بتفصیل الکلام عنه، بقدر ما تجدر الإشارة إلیه فحسب.. * * * فی ضوء هذه الحقائق یمکننا أن نتّجه إلى بعض النصوص القرآنیة الکریمة"بالنسبة إلى إحدى الممارسات العبادیة، وهی الحجّ" لملاحظة (اللغة الفنّیة) التی یستخدمها النصّ فی هذا المیدان. ومن البین أنّ اللغة الفنّیة تعتمد جملة عناصر لفظیة وإیقاعیة وصوریة وبنائیة...، إلاّ أننا نکتفی بأحد العناصر وهو عنصر"الصورة "...أی: العبارة المرکّبة التی ترصد العلاقة بین ظاهرتین; لاستخلاص ظاهرة ثالثة، وهذا کالتشبیه والاستعارة والتمثیل والرمز.... ونقف أوّلاً مع: قوله تعالى: ﴿الحجُّ أشهر معلومات فَمن فرضَ فیهن الحجَّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فی الحجّ وما تفعلوا من خیر یعلمه الله وتزودوا فإنّ خیر الزاد التقوى واتقون یا أُولی الألباب﴾( 1 ) ﴿فإذا قضیتُم مناسککم فاذکروا الله کذکرکم آباءَکم أو أشدّ ذکراً...﴾( 2) ﴿حُنفاء لله غیرَ مشرکین به ومَن یُشرک بالله فکأنّما خرّ من السماء فَتَخطَفُهُ الطیرُ أو تهوی به الریحُ فی مکان سحیق﴾( 3 ) النصوص المتقدّمة تتضمّن مجموعة من (الصور): الاُولى منها نطلق علیها (الصورة التمثیلیة) وأمّا الاُخریان فیتضمنان صورتین (تشبیهیتین) الاُولى منهما قد اعتمدت أداة التشبیه (الکاف) والاُخرى قد اعتمدت أداةً تشبیهیة اُخرى هی (کأنّ). المهم: نقف عند الصورة (التمثیلیة) أوّلا، وهی: * قال تعالى: ﴿وتزوّدوا فإنّ خیر الزاد التقوى﴾. النصّ المتقدّم ینطوی على صورة مألوفة کلّ الإلفة، حیث نعرف تماماً بأن الصور قد تکون مضبّبة یحتاج المتلقّی خلالها إلى بذل جهد فکری وعصبی; لیدرک العلاقة بین طرفی الصورة وبین الدلالة المستخلصة منها، وبعضها یتّسم بالضبابیة الخفیفة والممتعة بحیث تتطلّب جهداً بسیطاً; لإدراک العلاقة ودلالتها، وبعضها یتّسم بالطرافة، وبعضها یتّسم بالإلفة; کما هو الملاحظ بالنسبة إلى الصورة التی نحن فی صددها... طبیعیاً، یستخدم القرآن الکریم جمیع الأنماط التی أشرنا إلیها ما عدا النمط الأوّل (المضبّب تماماً) لأنّ ذلک یستتلی جهداً مضنیاً یتنافى مع هدف (توصیل) الدلالة إلى المتلقّی، ومن ثم، فإنّ السیاق هو الذی یحدّد ما إذا کان الأمر یتطلّب الصورة المضبّبة الممتعة، أو الطریفة، أو المألوفة... الصورة المألوفة التی نواجهها، تنطوی على دلالة عمیقة بطبیعة الحال، إنّها تتحدّث عن (التقوى) فیما تجسّد التقوى هدفاً ما بعده من هدف بالنسبة إلى ممارسة الإنسان لمهمّته العبادیة فی الحیاة، بصفة أن الله تعالى ما خلق الجنّ والإنس إلاّ لیعبدوه، والعبادة المطلوبة لیس هی مجرّد أدائها، بل بلوغ الدرجة الأعلى منها، تبعاً لما تقرّره الآیة الکریمة: ﴿لیبلوکم أیّکم أحسنُ عملاً...﴾( 4)، أی : إنّ المطلوب من الممارسة العبادیة هی (الأجود) ولیس (الجیّد) فحسب، وهذا ما استهدفه النصّ القرآنی الکریم فی الصورة التمثیلیة، حیث تجسّد (التقوى) ـ کما هو بیّن ـ (أحسن) العمل أو القمّة منه، فانتخب ظاهرة (الزاد) لیربط بینها وبین (التقوى)... ونتساءل : لماذا (الزاد) دون غیره من الظواهر؟ واضح، أن (الزاد) هو المادة التی تمدّ الإنسان بالحیاة، وهو ممّا یفتقر إلیه باستمرار، ولیس فی أوقات أو مراحل أو حالات خاصّة... وإذا کانت المهمّة العبادیة للإنسان هی: مهمّة (استمراریة) منذ أن یقع علیه التکلیف إلى آخر عمره، حینئذ فإنّ انتخاب ظاهرة استمراریة (الزاد) تتناسب مع إبراز مفهوم (التقوى) تماماً. فالتقوى مطلوبة فی الحالات والأزمنة جمیعاً (کالغذاء الذی نحتاجه فی الحالات والأزمنة جمیعاً). من زاویة اُخرى : نلاحظ أنّ (الزاد) لا ینحصر أثره هنا فی الحیاة الدنیا، بل ینسحب على الحیاة الأخرویة، أی: بقدر مایتزوّد الإنسان بالتقوى: یترک أثره على الحیاة المقبلة وهذا هو الجدید والطریف فی الصورة... فالنصّ لم یعتمد (الزاد) من حیث کونه مادّة تمدّ الإنسان بالعطاء الدنیوی فحسب، بصفة أنّ مَن یتّق الله تعالى یجعل له مخرجاً، ویرزقه من حیث لایحتسب دنیویاً، بل تجاوزه إلى العطاء الأخروی، حیث تمدّه (التقوى) باستمراریة حیاته الأخرویة من أعلى درجات الإشباع. وهذا ما یفسّر لنا انتخاب ظاهرة (الزاد) دون غیرها من الظواهر (کالأکل) مثلاً، حیث إنّ الأکل أو الشرب یمدّان الإنسان بالحیاة، إلاّ أنّ ذلک ینحصر فی الحیاة الدنیا. أما الزاد فبالرغم من کونه یتناول ظاهرتی (الأکل والشرب) إلاّ أنّه ـ من جانب آخر ـ وهذا هو المهمّ فی الصورة: یجسّد مفهوماً آخر لظاهرة تناول الغذاء، ألا وهی (تهیئته) فکما أنّ المسافر مثلاً یحتاج إلى (الراحلة والزاد) للإفادة منهما فی رحلته لاحقاً، ولیس آنیاً فحسب... کذلک (الزاد) بالنسبة إلى ممارسة (التقوى) حیث یستهدف النصّ لفت النظر إلى (تهیئة) الزاد للإفادة منه آنیاً ولاحقاً بالنحو الذی أوضحناه. إذن: أمکننا أن ندرک ـ ولو سریعاً ـ أهمّیة هذه الصورة (التمثیلیة) المتّسمة بالبساطة، إلاّ أنّها اکتسبت دلالات عمیقة کما لاحظنا. * * * * قال تعالى: ﴿فإذا قضیتم مناسککم فاذکروا الله کذکرکم آباءکم أو أشدّ ذکراً...﴾ الصورة التی نواجهها الآن، تنتسب ـ کما قلنا ـ إلى (التشبیه) ، ... والتشبیه نمطان: مجازی وواقعی، ویُقصد بالأول ما تُرصد به العلاقة بین طرفین لا واقع لهما کتشبیه السفن بالجبال فی قوله تعالى: ﴿وله الجوار المنشآت فی البحر کالأعلام﴾( 5) حیث لا علاقة واقعیة بینهما، وهذا بعکس التشبیه الواقعی وهو التشبیه الذی نحن فی صدده ﴿فاذکروا الله کذکرکم آباءکم...﴾ حیث إنّ استحضار دلالة ما (کذکر الله تعالى) فی الذهن وممارسة ذلک لفظیاً، أو استحضار (ذکر الآباء) فی الذهن وممارسته لفظیاً أمرٌ واقعی، لم تُستحدَث علاقة مجازیة بینهما... من زاویة اُخرى، ینشطر التشبیه إلى نمطین: التشبیه المتکافئ وهو ما یتکافأ طرفاه فی الدلالة على شیء ما، کالتشبیه الذی لاحظناه بالنسبة إلى السفن والجبال، أو تشبیه (ذکر الله تعالى) بذکر الآباء، حیث یتماثل أو یتساوى طرفا التشبیه دون تفاوت بینهما... وأمّا النمط الآخر من التشبیه فیمکن تسمیته بـ (التشبیه المتفاوت) وهو ما یشیر إلى (الأعلى) أو (الأدنى) من الطرف الآخر، وهو قوله تعالى)أو أشدّ ذکراً(، حیث أشار النصّ إلى أن یذکر الله تعالى بنحو (أشدّ) من ذکر الآباء، أی: أعلى درجة منه... المهم: أنّ الآیة الکریمة ﴿فاذکروا الله کذکرکم آباءکم أو أشدّ ذکراً﴾ تنطوی على نمطی التشبیه: المتکافئ والمتفاوت، ومن ثم فإنّ الأهمّ من ذلک هو ملاحظة الأسرار الفنیة وراء النصّ التشبیهی المذکور... تقول النصوص المفسّرة بما مؤدّاه: إنّ الناس کانوا إذا فرغوا من الحج، ذکروا آباءهم ومفاخرهم; لذلک أمرهم الله تعالى بأن یذکروا الله تعالى على نحو ذِکرهم لآبائهم أو أشدّ ذکراً... سرّ ذلک، أن الحاجة إلى (تأکید الذات) من جانب، والحاجة إلى (الانتماء الاجتماعی) من جانب آخر، مضافاً إلى الأعراف الاجتماعیة التی تغذّی الحاجتین المذکورتین، حیث إنّ (الذات) تتسع لتشمل کلَّ ما یتصل بها من قریب أو بعید، ومنه: المجد النسبی (ذکر الآباء والأجداد)، وحیث إنّ (الانتماء الاجتماعی) یتسع لیشمل کلّ فرد أو مؤسسة یرتبط بها الشخص: الآباء، الاُسرة، القرابة، القبیلة... نقول: إنّ الحاجتین المذکورتین تفسّران لنا سرّ التشبیه المشار إلیه من حیث کونه قد انتخب (ذکر الآباء) دون أنماط الذکر الاُخرى; نظراً لإلحاحهما بالنسبة إلى دوافع الإنسان المتنوّعة... لکن: بما أنّ ذکر الله تعالى لا یمکن أن یقاس بذکر الآباء خاصّة لمن یمتلک وعیاً عبادیاً جادّاً، حینئذ فإنّ النصّ التشبیهی المذکور أردف التشبیه المتکافئ بالتشبیه المتفاوت، فقال ﴿أو أشدّ ذکراً﴾ بصفة أن عظمة الله تعالى ونعمه التی لا تحصى لا یمکن أن تُقاس بمجد الآباء وفضلهم... * * * * قال تعالى: ﴿حُنفاء لله غیرَ مشرکین به ومَن یُشرک بالله فکأنّما خرّ من السماء فَتخطَفُهُ الطیرُ أو تهوی به الریحُ فی مکان سحیق﴾. تشیر النصوص المفسّرة إلى أن التشبیه المذکور، یومئ إلى أنّ المشرک لا یملک لنفسه حیلة فهو هالک لا محالة، أو أن بُعده عن الحقّ کبعد الساقط من السماء... ومع أن هذا النمط من التذوّق الفنّی للصورة ینطوی (من حیث الحصیلة النهائیة للشرک) على الصواب، إلاّ أنّ الأسرار الفنّیة الکامنة وراء هذا التشبیه لا تزال مجهولة لم یهتد الأقدمون ولا المعاصرون إلى استکناه دلالاته الفنّیة، فالملاحظ أنّ قسماً من النصوص الفنّیة وسواها قد اهتدى الأقدمون إلى کشف أسرارها، والبعض الآخر لم تسمح الثقافة الموروثة آنئذ بالکشف عنها; نظراً لمحدودیة المناخ الثقافی آنئذ (کما هو ملاحظ مثلاً فی سکوت الأقدمین عن الحدیث عن الأسرار الفنّیة لقصص القرآن) والقسم الآخر من النصوص الفنّیة قد اهتدى المعاصرون إلى کشفها بالنسبة إلى الجیل السابق منهم، والقسم الآخر قد اهتدى الجیل الحالی إلى کشفه، مما یعنی أنّ قسماً آخر لا یزال ینتظر جیلاً جدیداً یمتلک أدوات فنّیة جدیدة; لیکتشف بها أسرار الفن... والمهم هو: أن نشیر إلى جملة نقاط، منها: ـ أن ننتبه إلى أنّ التشبیه الذی نحن فی صدده قد اعتمد أداة (کأن)، ولابد من أن یکون انتخاب النصّ لهذه الأداة دون غیرها منطویاً على سرّ فنّی، فالملاحظ (وهذا ما رصدناه فی استخدام القرآن الکریم لأدوات التشبیه) أنّ أدوات التشبیه الثلاث المعروفة (الکاف) (مِثْل) (کأنّ) تضطلع کلّ منها بوظیفة خاصة، فإذا کان طرفا التشبیه یتماثلان فی السمات المشترکة بینهما إلى درجة کبیرة تتجاوز المتوسط، حینئذ فإنّ الأداة (مِثْل) هی التی تستخدم فی هذا المجال، وهذا ما نجده فی الصورة التشبیهیة التی رسمها القرآن الکریم بالنسبة إلى أحد ابنی آدم(علیه السلام) عندما قتل أخاه وجهل کیفیة مواراته، حیث شاهد غراباً ﴿یبحث فی الأرض﴾( 6) فقال: ﴿یا ویلتى أَعجزتُ أن أکون (مثل) هذا الغراب..﴾( 7) فالملاحظ هنا أن طرفی الصورة یتماثلان إلى درجة کبیرة تتجاوز المتوسط، حیث إنّ الإنسان والطائر متماثلان جنساً، ومواراتهما فی الأرض یتماثلان، وهکذا; لذلک استخدمت أداة التشبیه (مثل)، وأمّا إذا کانت درجة التشابه متوسطة المدى کما هو الغالب فی التشبیهات القرآنیّة، استخدم أداة (الکاف) . وأمّا إذا کانت دون درجة الوسط، فإنّ الأداة (کأنّ) هی تضطلع برسم الصورة، وهذا ما نجده فی التشبیه الذی نحن فی صدده. فالشرک بالله عملیة (فکریة)، وأمّا السقوط من الجو، وخطف الطیر، وإلقاء الریح إیّاه فی مکان سحیق، فظواهر (مادیة) کما هو بیّن; لذلک استُخدمت الأداة (کأنّ) نظراً للسمات المتفاوتة بین الطرفین... طبیعیاً، أن السیاق هو الذی یحدّد استخدام هذه الأداة أو تلک، وأمّا نسبة السمات المشترکة کثرت أو ضؤلت لا دخل لها فی جعل التشبیه متمیّزاً عن التشبیه الآخر; لأنّ المهم هو: اقتناص أحد وجوه الشبه والترکیز علیه، حتّى إنّه لیمکن القول: إنّ التشبیه قد یصل إلى ذروة قیمته الفنّیة (فی تجارب البشر) من خلال اقتناص سمة واحدة، إلاّ أنّها ذات إثارة وطرافة... وأیّاً کان الأمر، فإنّ النصّ الصوری قد تحدّث عن الشرک بالله تعالى فی سیاق المطالبة بأن یکون الحُجّاج ﴿حنفاء لله غیر مشرکین به﴾، سواء أکان المقصود من ذلک (وفقاً للنصوص المفسّرة) الإشراک فی تلبیة الحجّ، أو مطلق الشرک، وسواء أکان ذلک فی نطاق الشرک الاصطلاحی أو الشرک الخفی کالریاء ونحوه.. ففی الحالات جمیعاً، فإنّ إشراک (الآخر) مع الله تعالى فی مطلق الممارسات، یعنی: إکساب (الآخر) فاعلیةً ما، مع أنّ الحقیقة أنّ الفاعلیة هی لله تعالى وحده، وحینئذ من الممکن أن یکون النصّ قد استهدف الإشارة إلى أنّ من أشرک أحداً مع الله سوف یسقط من (حساب) الله تعالى حتماً، ویخسر کلّ شیء، وعندها سیکون مَثَلُه مَثلَ مَن سقط من الجوّ (والسقوط وحده کاف فی إلغاء الشخص من الحساب) وفی حالة سقوطه سوف لن یستنقذه أحدٌ ممّن أشرکه مع الله تعالى، فإمّا أن تخطفه الطیر فتنهش لحمه دون أن یستنقذه الطرف المذکور، وإمّا أن تهوی به الریح فی مکان بعید لا یصل إلیه أحد لیستنقذه من الموت، إن کان به رمق ـ على سبیل المثال.... المهم، یظلّ التشبیه المذکور ـ کما قلنا ـ واحداً من الصور الفنّیة، التی تنتظر مَن یستکنه أسراره لاحقاً، مادمنا نعرف تماماً بأنّ النصّ القرآنی الکریم نصٌّ (معجزٌ) فنّیاً، وأنّ الاستخلاصات المتعدّدة بعدد قرّاء النصّ، تظلّ إحدى سماته الفنّیة المدهشة حیث یترک المتلقی ـ کلاً بحسب مرجعیته الثقافیة والتذوقیة ـ یستخلص دلالة تفترق أو تتماثل أو تتفاوت مع الآخر، بالنحو الذی أوضحناه.
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,793 |
||