إطلالةعلى ملامح من فکر الإمام الخمینی | ||
إطلالةعلى ملامح من فکر الإمام الخمینی
احمد سلیمان
لکل ثوره رموزها، ولکل مرحله تاریخیة سماتها وخصائصها التی قد تتشابه أو تتماثل مع سمات وخصائص مرحله تاریخیة أخرى بحکم المصادفات مرة، واستناداً إلى التقلید والمحاکاة مرة أخرى ورموز الثورة ـ أیة ثورة ـ غالباً ما یقع على عاتقهم تحدید الأطر العامة وتوجیه المسارات الهامة للمراحل التاریخیة التی تعد منعطفات حیویة یتطلب التعامل معها قدراً عالیاً من الیقظة والحذر والحکمة والدرایة. وإذا کان الإمام الخمینی (الراحل) قد مثل الرمز فی الثورة الإسلامیة التی تکللت بالانتصار الکبیر فی شباط 1979 انطلاقاً من الموقع القیادی الفاعل، اعتباراً من الخطوة الأولى المتمثلة بتوجیه الثورة بمسارها السلیم، وحتى قطف ثمار الانتصار فإنّ مرحلة ما بعد انتصار الثورة کانت تطبیقا عملیاً، لم یشوبه لبس أو غموض لمفاهیم الثورة ومفرداتها وأفکارها لیس فی السیاسة فحسب، بل إننا شهدنا هذا التلاقی والتجانس فی الاقتصاد والثقافة والعلاقات الاجتماعیة وحتى فی تحدید موقع الفرد داخل المجتمع وقیمة لا وفقا لما ینتجه، وإنما وفقا لقیمته الإنسانیة العلیا بل والأکثر من ذلک فإنّ ظلال المتغیرات الجدیدة راحت تمتد بعیدا فی أصقاع العالم الإسلامی لتمنح الثورة بعدا عالمیا ولتجعل من الإمام الخمینی مثالا عظیما للثائر والقائد السیاسی فی آن واحد.
الرحیل لا یعنی النهایة! وبعد عشرة أعوام من عمر الثورة رحل الإمام لیترک ثورة ودولة ومجتمع جدید وعالم أنظاره شاخصة إلى ما جرى وما یزال یجری بشکل یتغیر یوما بعد آخر، ولکن هل رحیله کان یعنی النهایة.؟ فی حقیقة الأمر ربما بدا للبعض انه کذلک. سیما وإن تحولات کبرى طرأت على أجزاء بالغة الأهمیة من خریطة العالم بدأت معالمها تظهر وتتجلی فی الأفق بعد الرحیل بفترة قصیرة ـ فضلا عن النتائج التی آلت إلیها أوضاع سیاسیة معینة کانت تعیشها المنطقة وتواجهها لسنین عدة. بید أنّ النظرة الموضوعیة والتعامل مع الوقائع بإطارها العام الشامل، وبعمق علمی تکشف لنا أنّ التأثیر الفعلی للإمام الخمینی فی مختلف مناحی الحیاة وجوانبها، ولیس فی إیران فحسب بقی کما کان قبل رحیله إن لم یکن قد اتخذ بعدا شمولیا واکبر. فالقضایا الرئیسیة محور اهتمامه والتی تمثلت أساساً بالعمل على تحقیق الاستقلال والوحدة الإسلامیة، وإقامة المجتمع الإسلامی الصالح، ومقارعة القوى الکبرى المعادیة للعالم الإسلامی والساعیة إلى مصادرة قیمه وثرواته، واستعباد شعوبه، هذه القضایا ما تزال تحتل الحیز الأوسع فی برامج العمل السیاسی والاجتماعی والفکری للقیادة الإیرانیة، لیس لان المرحلة الحالیة لم تختلف فی معالمها وملامحها عن المرحلة السابقة، بل لأنها ـ أی القضایا ـ تعد ثوابت أساسیة فی الفکر والمنهج الذی إرساه الإمام للثورة الإسلامیة.
موقعالثقافةفیفکرالإمامالخمینی لقد شکل الجانب الثقافی احد ابرز اهتمامات الإمام الخمینی الراحل إذ اعتبره مفصلاً مهماً جداً من مفاصل قوة الدولة الإسلامیة ومنعتها، وهی تواجه مخاطر ومؤامرات شتى تهدد وجودها واستمرارها ... فالذی حدث أبان الثورة الإسلامیة جسد قدرة الإسلام على مقاومة کل المخططات الرامیة إلى إبعاد الأمة عن ثقافتها الأصیلة، حیث أنّ الجماهیر المسلمة وقفت بوجه الإرهاب ورفضت رفضا قاطعاً مظاهر الفساد والتحلل الأخلاقی. وکان الإمام الراحل یری انه «بمقدور الجامعات ـ کأحد ابرز المعالم الثقافیة فی المجتمع ـ أن تغمر العالم بالنور إن قرنت التعلیم بالخلق الإنسانی وبمسایرة الفطرة الإنسانیة. وإذا فصلنا العلم والتخصص عن الأخلاق والتهذیب والوعی والالتزام فإنّ ذلک یؤدی إلى بروز مفاهیم وأفکار غریبة علینا تجتاحنا من الغرب والشرق وتنقض على قیمنا وعقائدنا وأفکارنا»[1]. وفی نفس السیاق فإنّ الإمام الخمینی «یدعو إلى توقف الجامعة التقلیدیة عن العمل، وتجمیع الطاقات نحو تأسیس جامعة إسلامیة جدیدة»[2]، وهی ذات الدعوة التی أطلقها قبل أکثر من مائة عام عبدالرحمن الکواکبی ومفکرون إسلامیون آخرون إلاّ أنّ الدعوة الجدیدة أخذت بعین الاعتبار طبیعة المرحلة التاریخیة المعاصرة وجوهر الصراعات القائمة والقوى المحرکة لتلک الصراعات والموجهة لها. وارتباطا بهذا الجانب فإنّ صیاغات جدیدة لواقع العلاقات الاجتماعیة فرضت نفسها على کافة البنى والهیاکل القائمة فضلاً عن المؤسسات التی لها دور فی عملیة التثقیف ونشر الوعی کمحطات التلفزیون والإذاعات والصحف والمجلات والمنتدیات الفکریة ذات الطابع الرسمی أو غیر الرسمی. وقد تکون أبعاد الغزو والاختراق الفکری ـ الثقافی اشد خطرا على المسلمین من الغزو العسکری والحصار الاقتصادی کما یشیر الإمام الخمینی بقوله «مأساة المسلمین الکبرى تتمثل فی هذه الثقافة الشائعة بین المسلمین والتی تجر شبابنا إلى هذا الجانب وذلک الجانب …ویتوجبعلىعلماءالإسلاموعلىالکتابوالخطباءأنینبهواالأمةالإسلامیةإلىمالدیهامنثقافةغنیةـثقافتناـوالکلامللإمامـاستطاعتأنتتجاوزحدودعالمناالإسلامی،ثقافةالمسلمینکانتأغنىالثقافاتولازالتکذلک لکن المسلمین لم یستفیدوا منها مع الأسف ... نحن لا نخشى المحاصرة الاقتصادیة، ولا نخشى الغزو العسکری، خوفنا من التبعیة الثقافیة ... خوفنا من الجامعة الاستعماریة، نخاف من جامعة تربی شبابنا بشکل تجعلهم فی خدمة الغرب، نحن نخاف من جامعة تربی شبابنا بشکل تجعلهم فی خدمة الشیوعیة»[3].
دولة الإسلام العالمیة وإذا کان اهتمام الإمام الخمینی بالجانب الثقافی کبیرا فإنّ اهتمامه بموضوع الدولة الإسلامیة العالمیة، والوحدة الإسلامیة لم یکن هامشیا أو عابرا، ولعل ذلک بدا واضحا فی طبیعة وجوهر ومضمون الخطاب السیاسی للثورة الإسلامیة الإیرانیة، فمفردات من قبیل محاربة الظلم، وتحقیق العدالة ونصرة الشعوب الإسلامیة المستضعفة، والتأکید على القیم الروحیة، بدلا من القیم المادیة تشیر فی الحقیقة إلى شمولیة المشروع، واتساع مساحة الاهتمام والتفکیر، سیما وان الشعوب الإسلامیة کانت أبان انتصار الثورة الإسلامیة بقیادة الإمام الخمینی تواجه تحدیات خطیرة، ربما کان أبرزها رجحان کفة الصراع العربی ـ الإسرائیلی فی فلسطین لصالح الکیان الصهیونی والغزو السوفیتی لأفغانستان أواخر عام 1979، فضلاً عن النزعة الدیکتاتوریة القمعیة ـ الإرهابیة لمعظم الأنظمة السیاسیة العلمانیة المتسلطة على مجتمعات المسلمین،فالإمام الراحل ینظر إلى تلک القضیة من زاویتین. الأولى: إقامة حکم الله والذی أساسه الإسلام، حیث یقول فی هذا الشأن «إن تمادی الحکومات فی غیها یعنی تعطیل نظام الإسلام وأحکامه. فی حین توجد نصوص کثیرة تصف کل نظام غیر إسلامی بأنه شرک، والحاکم ـ أو السلطة فیه ـ طاغوتا، ونحن مسؤولون عن إزالة آثار الشرک من مجتمعنا المسلم»[4]. هذه النظرة ترتبط عل ما یبدو بمفهوم الثورة باعتبار إنها الخطوة الأولى لعملیة التغییر المجتمعی الشامل من القمة إلى القاعدة، وهی تتطلب بالدرجة الأساسیة مساهمة الجمیع للوصول إلى الأهداف المرسومة ...
الثانیة: القضاء على الاستعمار کمفهوم سلبی، وتاریخ ممتد لفترات طویلة، ملیء بالاضطهاد والظلم ومصادرة ثروات الشعوب المسلمة، وترسیخ واقع التجزئة والتخلف والانحطاط وضمن هذا الإطار یقول الإمام الخمینی (رض) «لقد جزّأ الاستعمار وطننا، وحول المسلمین إلى شعوب مجزئة، وعند ظهور الدولة العثمانیة کدولة موحدة سعی المستعمرون إلى تفتیتها، لقد تحالف الروس والانجلیز وحلفاؤهم وحاربوا العثمانین، ثم تقاسموا الغنائم کما تعلمون، ونحن لا ننکر أنّ أکثر حکام الدولة العثمانیة کانت تنقصهم الکفاءة والجدارة والأهلیة، وبعضهم کان ملیئا بالفساد، وکثیر منهم کانوا یحکمون الناس حکماً ملکیاً مطلقاً، ومع ذلک کان المستعمرون یخشون أن یتسلم بعض ذوی الإصلاح والأهلیة من الناس وبمعونة الشعب قیادة الدولة العثمانیة على وحدتها وقدرتها وقوتها وثرواتها فیبدد کل آمال الاستعماریین وأحلامهم»[5]. ویضیف الإمام الخمینی الراحل فی معرض تحلیله ورؤیته لموضوعه الوحدة الإسلامیة «إننا لا نملک الوسیلة إلى توحید الأمة الإسلامیة وتحریر أراضیها من ید المستعمرین، وإسقاط الحکومات العمیلة لهم إلا أن نسعى إلى إقامة حکومتنا الإسلامیة، وهذه بدورها سوف تکلل أعمالها بالنجاح یوم تتمکن من تحطیم رؤوس الخیانة وتدمر الأوثان والأصنام البشریة والطواغیت التی تنشر الظلم والفساد فی الأرض ...»[6].
الحکومة الإسلامیة والوحدة الإسلامیة من هذا المنطلق فإنّ الحکومة الإسلامیة تعد احد المقومات الأساسیة ـ الرئیسیة ـ لتحقیق الوحدة الإسلامیة سواء على الصعید النظری أو العملی، فالکیان الإسلامی الموحد فی زمن الرسول الکریم (ص) وکذلک بعد وفاته حیث غدا هذا الکیان مترامی الأطراف ـ شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً ـ ذلک الکیان محکوما بسلطة مرکزیة ـ سیاسیة ـ دینیة توجه الأمور وتسیرها استناداً إلى آلیات عمل لا تختلف کثیراً من حیث إطارها العام عن شکل الحکومات والنظم القائمة حالیاً، رغم اختلاف الوظائف وطبیعة ممارستها ودرجة تعقیدها. وبهذا الشأن یؤکد الإمام الخمینی (رض) فی کتاب «الحکومة الإسلامیة» «إنّ حکومة الإسلام هی حکومة القانون، فالفقیه هو المتصدی لأمر الحکومة لا غیر، فهو ینهض بکل ما نهض به الرسول (ص) لا یزید ولا ینقص شیئا، فیقیم الحدود کما أقامها الرسول (ص) ویحکم بما انزل الله»[7]. ویضیف الإمام الخمینی الراحل فی کتابه المذکور بان «حکومة الإسلام هی حکومة القانون، والحاکم هو الله وحده، وهو المشرع وحده لا سواه وحکم الله نافذ فی جمیع الناس وفی الدولة نفسها»[8]. ماذا یعنی ذلک؟ بعبارة أخرى یعنی أنّ الحکومات أو الدول الإسلامیة رغم تعددها فهی تلتقی عند قواسم مشترکة عدیدة، أبرزها وأهمها هو وحدة مصدر التشریع، وتماثل القوانین، وبالتالی التناغم والانسجام بین النظریة والتطبیق عند مستوى معین من المستویات، والذی یقود بدوره إلى الاقتراب أکثر فأکثر من تحقیق الوحدة الإسلامیة بین شعوب ومجتمعات قد تختلف فیما بینها فی اللغة والثقافة والنظم الاجتماعیة وتفصل بینها مسافات شاسعة إلاّ أنّ نقطة التقائها هو الإسلام باعتباره المنظومة الأشمل والأکمل ـ والبوتقة التی ینصهر فیها الجمیع ـ وتستوعب الجمیع. الهوامش [1]ـ الاستقلال الثقافی: طریق الثورة نحو الأصالة الإسلامیة، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامی، إعداد محمد على حسین، 1402 ه ـ ص 14. [2]ـ المصدر السابق، ص 15. [3]ـ المصدر السابق، ص 35. [4]ـ الحکومة الإسلامیة: منشورات المکتبة الإسلامیة الکبرى، دروس فقهیة ألقاها الإمام الخمینی على طلبة العلوم الدینیة فی النجف الأشرف فی عام 1389 ه [5]ـ المصدر السابق، ص 34. [6]ـ المصدر السابق، ص 72. [8]ـ المصدر السابق، ص 42. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,874 |
||