آیة الله الخامنئی یتذکر أبعاد شخصیة الإمام الخمینی | ||
آیة الله الخامنئی یتذکر أبعاد شخصیة الإمام الخمینی
صحیح ان تلامیذ الإمام و معارفه کانوا یحبونه إلى أقصى حدّ، إلاّ ان ما قیل فیه لم یکن نابعاً من المحبّة، بل کان نابعاً ممّا یتصف به الإمام من خصائص. و الشیء الآخر هو انه لم یکن یتکلّف أو یتعجل اظهار ما فی شخصیته من محاسن و جوانب مشرقة، و انما کان یتکشّف بُعد من تلک الأبعاد حیثما اضطره التکلیف الشرعی إلى اتخاذ موقف ما أو القیام بعملٍ ما. أبدأ بحدیثی منذ عام 1958 م، و هی السنة التی ذهبت فیها إلى قم و رأیت الإمام الخمینی هنالک عن قرب للمرة الأولى. و کنّا من قبل ذلک قد سمعنا و نحن فی مشهد عن وجود أستاذ کبیر فی قم یحبّ الشباب، و من الطبیعی ان طالب العلوم الدینیة حینما یرد إلى قم یبدأ بالبحث عن أستاذ یدرس على یده؛ ففی الحوزات العلمیة لیس ثمة إلزام فی اختیار الأستاذ، و إنّما یختار کل طالب الأستاذ الذی یرغب فیه وفقاً لمرامه. و کان الأستاذ الذی یجتذب الیه الطلبة الشباب المتعطشین منذ الوهلة الاولى هو الشخص الذی کان معروفاً بین تلامیذه فی تلک الایام باسم “السیدروح اللّه”. و کان الشباب الافاضل المثابرین المتحمّسین مجتمعین فی حلقة درسه. و فی مثل هذا الجوّ کان دخولنا إلى قم. الامام الخمینی و التجدید العلمی کان الإمام الخمینی مظهراً للتجدید العلمی و التبحرّ فی الفقه و الأصول. و کنت قد شاهدت من قبله أستاذاً بارعاً فی مشهد، و هو المرحوم آیة اللّه المیلانی، الذی کان من الفقهاء البارزین. و کان زعیم الحوزة العلمیة فی قم آنذاک هو المرحوم آیة اللّه العظمى البروجردی الذی کان أستاذاً للامام الخمینی. و کان هنالک أیضاً أساتذة کبار آخرون. إلاّ ان الوسط الدراسی الذی کان یجتذب الیه القلوب الشابّة المتلهفة الدؤوبة المتحفّزة نحو تفعیل الطاقات، هو درس الفقه و الأصول الذی کان یلقیه الامام. و أخذنا نسمع تدریجاً من الطلبة الأقدم منّا بأنّ هذا الرجل فیلسوف کبیر أیضاً، و کانت دروسه الفلسفیة أوّل دروس فلسفیة فی قم، غیر أنه یرجح فی الوقت الحاضر تدریس الفقه. و سمعنا کذلک ان هذا الرجل کان معلّماً للأخلاق، و کان هنالک اشخاص یحضرون دروسه فی الاخلاق، و قد أبدى اهتماماً جادّاً بتقویة الفضائل الاخلاقیة لدى الشباب، و هذا ما لمسناه عن کثب أثناء دروسه عبر سنوات طویلة. و إلى هذا الحد کانت شخصیة هذا الرجل ـ الذی یزخر باطنه بالخصائص المجهولة ـ معروفة بالنسبة إلى اکثر الناس آنذاک بصفته أستاذاً عالماً و مربیاً فاضلاً و مهذّباً لأخلاق الطلبة و التلامیذ. الامام الخمینی معلم الاخلاق فی عام1961م توفی آیة اللّه البروجردی الذی کان مرجع التقلید فی عهده، و طرحت أسماء مجتهدین کبار من قبل اصدقائهم للتصدی لأمر المرجعیة، و تبیّن فی تلک الاثناء ان الدروس الاخلاقیة التی کان یلقیها الإمام لم تکن مجرد کلام أو محض معلومات یلقیها على أسماع الآخرین، بل انه أوّل من یعمل بتلک الدروس التی یراد منها تهذیب الأنفس، و ثبت للجمیع ان هذا الرجل زاهد بالمنصب و الرئاسة، حتى و ان کانت تلک الرئاسة مرجعیة أو زعامة روحیة و معنویة، و انه لایسعى من أجل المقام و المنصب و الجاه، بل و یحاول ما استطاع منع الآخرین من السعی لأجل هذه الغایة. الامام الواعی الغیور بدأت إرهاصات النهضة الإسلامیة بعد سنة و نصف من وفاة المرحوم آیة اللّه البروجردی. و فی النصف الثانی من عام 1962م تجلّى بعد آخر من أبعاد هذه الشخصیة، تجسد فی وعیه و شدّة ذکائه و تفطّنه لأمور لم یکن غالباً یُفطن لها، هذا من جهة، و غیرته الدینیة من جهة أخرى. فالکثیر قد سمعوا حینذاک قرار الحکومة بإلغاء شرط الإسلام و القسم بالقرآن عن النواب المنتخبین لعضویة المجلس الوطنی، إلاّ ان الکثیرین لم یلتفتوا إلى مدى خطورة هذا الأمر، لکنه فی الواقع کان على جانب کبیر من الاهمیة و الخطورة؛ ففی الوقت الذی کان فیه المجلس الوطنی آنذاک مجلساً صوریاً، و السلطة هی التی کانت تشکله، و لم یدخله إلاّ المرشّحون من قبلها، و کانت العملیة کلها عملیة تنصیب و لیست عملیة انتخابات شعبیة، و لکن مع کل ذلک لم یکن النظام لیتجرّأ على طرح القرارات المتعلقة بالنقابات، و قرار اسقاط شرط الإسلام حینما کان المجلس قائماً، لأنه کان یخشى ردود فعل المجلس فعمد إلى حلّه، و اتخذ تلک القرارات وراء الکوالیس. و هذا ما یدل على ان وراء هذه القضیة کلاماً کثیراً و غایات خطیرة. و لم یلتفت أحد حینـــها إلى هذا الأمر، إلاّ ان الإمام الخمینی أدرکه و تصدى له، و دفعــته غیرته الدینیة إلى الأخذ بزمام المبادرة فی هذه القضیة و الشروع بمجابهة هذه المشاریع المناهضة للإسلام، حتّى و ان بدت قلیلة الأهمیة. و هذا ما قام به فعلاً. توجـد هـاهنا قضـیة مـهمة، و هی ان الامام الخـمینی لم یـکن راغباً بحیازة قصب السبق حتّى فی میدان الجهاد، حیث نقل لنا بنفسه انه کان یتحدث ذات مرّة فی دار المرحوم آیة اللّه الحائری مع أحد المراجع المعروفین و کان زمیلاً له فی الدراسة، فقال له: کن فی المقدمة و نحن نسیر وراءک. و کانت غایة الامام ان یتمّ أداء التکلیف، اذ کان المهم بالنسبة له هو أداء الفریضة التی کان یشعر بأنها ملقاة على عاتقه، و لم تکن قضیة التصدّی و التقدّم ذات أهمیة بالنسبة له. من الطبیعی ان الآخرین لم یکن لدیهم من الجرأة و الإقدام على الدخول فی هذا المعترک مثلما کان لدى الامام، و قد أخذ هو بزمام الأمور فی هذا المیدان بشکل تلقائی و بدأ بمجابهة النظام اعتماداً على الجماهیر. لم یکن أحد من أکابر الحوزة العلمیة و المراجع یظن ان الحرکة الدینیة سوف تستطیع، سیما فی ظروف الکبت الرهیبة تلک، ان تحصل على مثل هذا الدعم الجماهیری، إلاّ ان الامام صرّح منذ ذلک الیوم بأنّه یتحرک بمساندة الشعب، و انه سیدعو الشعب اذا ما اقتضت الضرورة إلى التحشّد فی البراری القریبة من قم، و کان واثقاً انه لو دعا الشعب لاجتمعت له کل إیران، و لحصل اجتماع جماهیری هائل تعجز الحکومة الفاسدة، فی ذلک الحین، من معالجته. الامام الخمینی القائد الشجاع تجلّى وقتئذٍ بُعد جدید من شخصیة هذا الرجل على الصعید العملی تمثّل فی مقدرته القیادیة، و شجاعته السیاسیة، و معرفته بدقائق الاسالیب التی یتّبعها العدو، و وعیه بأهداف العدو. و عندما حلَّ عام 1963م، و هو العام الثانی من أعوام النهضة، و اتّسم بالمذابح و القسوة و کثرة الضغوط، أشرق الامام الخمینی کالشمس فی سماء آمال الشعب الإیرانی، فکان برکاناً من الفداء اجتمعت فیه کل الخصال اللازمة للرجل الوطنی و للرجل الإسلامی و للرجل العالمی، و کان یتحلّى بالشجاعة و الصراحة و القدرة على تعبئة الجماهیر، سواء فی بدایة عام 1963 حین هجمت القوات الخاصة على المدرسة الفیضیة و على الحوزة العلمیة فی قم، أم فی الخامس من حزیران 1963 حین تجسدت عظمة الامام، اذ شعر الشعب الإیرانی من ساعته ان له سنداً و ملاذاً، و ان هناک قمّة شامخة یمکنه ان یتطلع الیها و یبنی آماله علیها. و على هذا النحو ظهر الامام على الساحة فی الخامس من حزیران. الامام و معالم الایثار و الفداء و بعد تلک الاحداث سادت حالة شدیدة من الضغط و الکبت صاحبتها أحکام بالسجن و النفی على الکثیر من الناس. و لم یکن دخول السجن و ما یرافقه من مصاعب مشکلة عصیبة بالنسبة لنا نحن الذین کنا حینها فی مرحلة شبابنا؛ اذ کان السجن لنا أشبه ما یکون بالتسلیة. أمّا بالنسبة للامام فقد کان حینها فی حوالی الثالثة و الستین من عمره، و لکن مع ذلک کان قادراً على استنهاض الأمة بمشاعره الجیّاشة، إلاّ ان دخول السجن أو النفی بالنسبة لشخص فی مثل هذه السن لم یکن بالأمر الهیّن. و مع کل ذلک تجلّت فیه معالم الایثار و الفداء و تحدّی المخاطر. و کان هذا ایضاً بعد آخر من أبعاد شخصیته؛ بمعنى انه لم یکن هنالک مانع یستطیع الحیلولة بینه و بین مُثُله العلیا أو سعیه لأداء تکلیفه الشرعی. و انتهت أحداث عامی 1963و1964 إلى نفی الامام لمدّة اربع عشرة سنة، فی البدایة إلى ترکیا ثم إلى العراق. و فی فترة النفی ظهرت أبعاد جدیدة من شخصیة هذا الرجل الفرید، الذی قلّما تجد له نظیراً فی عصرنا، و هی أبعاد نادراً ما یلاحظ المرء بعضها فی حیاة الشخصیات الکبیر، و هی: الامام المنظّر أوّلاً: طرح نفسه کمنظّر فکری نهض بمهمّة التخطیط و التنظیر لحکومة و لنظام و لإرساء أسس بناء و کیان جدید، دون ان یکون أمام عینیه نموذج سابق ملموس، لکی یخطط على ضوئه. و ذلک لأن التخـطیط لبناء إســلامی، یأخـذ متطلبات الحیـاة العصریة و القضــایا المطروحة فی عالم الیوم بنظـر الاعتبار، یعدّ بحدّ ذاته تنظیراً لنظام جدید. الامام و البعد القیادی ثانیاً: على الرغم من عدم وجوده فی إیران خلال مدّة أربع عشرة سنة عاشها فی المنفى، إلاّ انه کان یقود و یوجّه أحداث الثورة الإسلامیة عن بعد. فعلى امتداد فترة الأربع عشرة سنة هذه کان الضغط و الکبت على أشدّه، و خاصة فی السنوات الاخیرة منها، أی من عامی 1970 و 1971 و حتى عامی 1975 و 1976م، حیث کانت تظهر إلى الوجود أحزاب و جماعات سیاسیة و غیر سیاسیة، و لکنها کانت تضمحل و تتلاشى تحت وطأة الضغوط التی یمارسها النظام، أو انها کانت تفقد مزایاها و خواصّها، و بعضها الآخر یحظى بدعم سیاسی دولی بسبب ارتباطه بالشرق أو بالغرب، و خاصة بالشرق، حیث کان یحصل على الدعم و التوجیه من هناک. أمّا نهضة الامام الخمینی فلم تکن تعتمد على تشکیلات حزبیة داخل البلاد، بل کان للإمام تلامیذ و أصدقاء و معارف یحملون أفکاره فی أوساط الجماهیر. و هو حینما کان یصدر بیاناته لم یتوجه بالخطاب إلى أولئک التلامیذ و الاصدقاء على وجه الخصوص، إنّما کان یخاطب و یوجّه عموم الجماهیر، و استطاع طوال فترة الأربع عشرة سنة تلک ان یزرع فی الاذهان بذور النهضة الإسلامیة أولاً، و ان یوسّع مداها على صعید الشعب ثانیاً، حیث کسب الیها قلوب و أفکار و إیمان الشباب لکی یهیّئ الارضیة لقیام تلک الثورة الکبرى. و ان الکثیرین قدّموا أعمالاً کبرى و تضحیات جسام، و لکن لولا مرکزیة الامام لما تحقق أیّ من هذه الانجازات، و لحبطت جمیع الجهود، و لسرى الیأس الى النفوس. و الشخص الوحید الذی لم یصبه الإعیاء أو الیأس هو الامام الخمینی الذی کان الآخرون یستقون القوّة و العزم من قوّته و عزمه. ثمّ تلا ذلک توجیه تلک الحرکة الثوریة و النهضة الکبرى طوال مدّة أربع عشرة سنة، و بفضل قائدها الکبیر تمّ اجتیاز کل العراقیل و الموانع التی واجهتها، إلى درجة اندحرت معها الافکار المعادیة للإسلام و نُحیّت جانباً. و أثبت الفکر الإسلامی یوماً بعد آخر تفوّقه على الأفکار الأخرى، و کان وجود الإمام ملموساً فی کل الاحداث المهمّة. و فی عام 1968 طرح الامام حینما کان فی النجف ـ مرکز الفقاهةـ فکرة ولایة الفقیه استناداً إلى ثوابت فقهیة راسخة. من الطبیعی ان “ولایة الفقیه” من مسلّمات الفقه الشیعی . و أمّا ما یقوله بعض أنصاف المتعلمین من ان الامام الخمینی ابتکر فکرة ولایة الفقیه من عنده و لم یقرّها سائر العلماء، فهو ناجم عن الجهل بهذا الموضوع. و المطلع على آراء الفقهاء یدرک ان ولایة الفقیه من الواضحات فی الفقه الشیعی، و کل ما فعله الامام هو انه استطاع صیاغة هذه الفکرة على أسس رصینة و أدلة متقنة و تقدیمها بشکل مقبول و مفهوم لکل صاحب رأی و مطلع على المذاهب السیاسیة و على القضایا السیاسیة فی عالمنا المعاصر. الامام و العظمة الروحیة و تجلّى فی حادثة وفاة نجله بعد آخر من أبعاد شخصیته الکبرى؛ هناک بطبیعة الحال علماء و أکابر و شجعان کثیرون، إلاّ ان الاشخاص الذین امتدّت و تجذّرت هذه المثل العظمى فی أعماق مشاعرهم و فی سویداء قلوبهم لیسوا کثیرین. و هذا الرجل الذی شارف على الثمانین من عمره فی ذلک الوقت، نقل عنه انه قال عند وفاة نجله الفاضل ـ حیث کان نجله فی الواقع عالماً ممتازاً و رجلاً بارعاً و أملاً للمستقبل ـ جملة واحدة، و هی “ان وفاة مصطفى من الالطاف الإلهیة الخفیة”، معتبراً وفاته رحمة إلهیة خفیة! بمعنى انه نظر إلى تلک الحادثة و کأنها لطف من اللّه به. فالشدائد و المصائب التی نزلت بهذا الرجل فی عهد الثورة و تحمّلها کالطود الشامخ تکمن جذورها فی هذه العظمة الروحیة التی جعلته ینظر إلى وفاة نجله بمثل هذه النظرة. ثم تلت ذلک هجرته من العراق و سفره إلى الکویت ثمّ إلى فرنسا، اذ قال حینها اذا لم یسمحوا لی بالإقامة فی بلد سأظل أتنقّل من مطار إلى مطار و سأوصل صوتی إلى أسماع العالم کلّه. و هناک ایضاً انعکست تلک الشجاعة و ذلک الثبات و سعة الصدر و تلک المقدرة القیادیة الإلهیة التی قلّما تجد لها نظیراً فی التاریخ. ثم أعقب ذلک مجیئه إلى إیران و تعامله مع الأحداث و تأسیسه للحکومة الإسلامیة. آفاق شخصیة الامام بعد تأسیس الحکومة الإسلامیة أما ما تجلّى من أبعاد شخصیته من بعد تأسیس الحکومة الإسلامیة، فکان أهم و أعظم مما شوهد منها من ذی قبل؛ حیث انعکست شخصیته الفذة على أفقین: الأول أفق القائد و المتصدی لزمام الامور، و الثانی أفق الزاهد و العارف؛ لأن مزج هاتین الصفتین مع بعضهما عمل لا یتسنى للإنسان مشاهدته إلاّ لدى الأنبیاء مثل داود و سلیمان (ع) و مثل خاتم الأنبیاء (صلى اللّه علیه و آله و سلّم). و هذه حقائق لمسها الشعب الإیرانی طوال سنوات متمادیة، و شهدناها نحن عن قرب. هکذا تکون التربیة الإسلامیة و القرآنیة، و إلى مثل هذا دعا الامامُ الجمیع، و أراد نظاماً إسلامیّاً لتربیة أناس من هذا القبیل، مثلما کان هو مظهراً بارزاً له. البعد القیادی و الحکومی تجلّت شخصیة الامام الخمینی فی مقام القیادة و الحکومة کرجلٍ واعٍ و مدبّر و شهم و بارع و جریء، و کانت العواصف العاتیة لیست ذا بالٍ بالنسبة له، و لم تکن هناک من حادثة قادرة على إلحاق الهزیمة به أو إرغامه على الانحناء لها؛ فکان أکبر من کل الاحداث المریرة و العصیبة التی وقعت على مدى عشر سنوات من زعامته. و لم تتمکن أیّ من وقائع الحرب أو الهجمة الامریکیة أو مؤامرات الانقلاب العسکری و حوادث الاغتیالات الرهیبة و الحصار الاقتصادی و الممارسات العدوانیة التی اتخذت أبعاداً و صوراً شتّى، من أن تفتّ عضده أو تشعره بالوهن و الضعف، بل خرج منها أصلب عوداً و أشد شکیمة؛ لأنه کان یؤمن بالشعب ویثق برأی الشعب. و کان یحبّ الشعب من أعماق قلبه. لقد اجتمعت فی شخص الامام أغلب المزایا و المواصفات التی امتاز بها القادة العالمیون على حدّ ما تقصّیت و ما توصلت إلیه؛ فقد کان عاقلاً و بعید النظر و نبهاً و عارفاً بطبیعة الأعداء و کثیر الثقة بأصدقائه، و کانت ضرباته لأعدائه قاصمة، فقد توفرت فیه کافة الصفات الواجب توفّرها لدى الإنسان من أجل ان یکون قادراً على تبوّؤ مثل هذا الموقع الحساس، و إرضاء ربّه و ضمیره. الامام الخمینی و الثقة بالشعب کان الإمام الخمینی شدید الثقة بالشعب؛ فبعدما انتصرت الثورة کان بمیسوره الاعلان عن ان نظامنا نظام جمهوری إسلامی، دون الرجوع إلى آراء الشعب، و لم یکن هناک من یعترض على مثل هذا الموقف، إلاّ انه لم یفعل ذلک، و إنّما أجرى استفتاءً حول أصل النظام و کیفیته و أدلى أبناء الشعب بأصواتهم لصالح إقامة نظام جمهوری إسلامی. و فی ما یخص الدستور کان بإمکانه ان یقدّم دستوراً، غیر ان الامام لم یفعل شیئاً من ذلک، و إنّما أمر بإجراء انتخابات مجلس الخبراء و أکد ضرورة إجرائها بأسرع ما یمکن. من المعروف فی الثورات التی تقع فی العالم ـ و هی غالباً ما تکون انقلابات عسکریة و لا یصدق علیها اسم الثورة ـ ان الذین یمسکون بزمام الأمور یعطون أنفسهم فرصة سنة أو سنتین و یقولون یجب ان تمضی هذه المدّة حتّى تتوفر الأجواء المناسبة لإجراء الانتخابات، و لکنهم غالباً ما یرجئونها إلى موعد آخر. بینما بادر الإمام الخمینی بعد شهرین من انتصار الثورة إلى إجراء أول انتخابات؛ و تلک هی الاستفتاء على دستور الجمهوریة الإسلامیة، و أجریت من بعدها بشهر أو شهرین انتخابات خبراء الدستور، و بعدها ببضعة أشهر انتخابات رئاسة الجمهوریة، و من بعدها بعدة أشهر أجرى انتخابات مجلس الشورى. و معنى هذا ان الامام رجع فی عام واحد، هو عام (1979) إلى آراء الشعب أربع مرّات فیما یتعلق بقضایا مختلفة من قضایا البلد و هی: انتخابات النظام الاساسی، ثم انتخابات الدستور ـ التی جرت مرتین: الاولى لانتخاب خبراء تدوین الدستور، و الثانیة للتصویت على الدستور نفسه ـ، ثم انتخابات رئاسة الجمهوریة، و أعقبتها انتخابات مجلس الشورى. کان الامام یؤمن إیماناً حقیقیاً برأی الشعب، أی ما یریده الشعب و ما یستقرّ علیه رأیه، و لم یفوّض زمام الأمور قطّ فی مثل هذه الشؤون إلى أصحاب الألاعیب السیاسیة؛ فالشعب غیر ذوی الألاعیب، و غیر مدّعی السیاسیة، و غیر مدّعی مناصرة الشعب. فالإمام کان یثق بالشعب. کانت هناک الکثیر من الاحزاب و الفئات السیاسیة و المدّعین لنصرة الشعب و أصحاب الألاعیب السیاسیة، إلاّ ان الامام لم یعوّل على أیٍّ منها، و لم یفسح لها المجال للمطالبة بمزید من الامتیازات و التحدث باسم الشعب و اتخاذ القرارات نیابة عن أبناء الشعب، غیر انه فی الوقت ذاته کان یحترم آراء الشعب. و بعدما اندلعت الحرب ظهر بدور القائد العام للقوات المسلّحة. و حینما فُرض علینا الحصار الاقتصادی کان الامام الخمینی بمثابة سند روحی کامل للأجهزة الحکومیة. و فی بدایة الثورة أصدر الامام قرارات کثیرة بشأن الکثیر من القضایا و من أجل حمایة المستضعفین و المحرومین، و اتُّخذت اجراءات لا یستهان بها فی هذا المجال و تم تشکیل مؤسسات من قبیل مؤسسة جهاد البناء، و مؤسسة الإسکان، و لجنة الاغاثة، و مؤسسة المستضعفین و المعوّقین، و مؤسسة الخامس عشر من خرداد، لتقدیم العون لأبناء الشعب. و هذه هی القضایا التی کانت تحظى باهتمام الامام فی مجال إدارة شؤون البلاد. هذا البعد القیادی و الحکومی فی شخصیة الامام تجسد فیه بکونه انساناً مقتدراً و ذا إرادة؛ إنساناً قادراً على اتخاذ القرار الصائب فی حـالة الحرب، و اتخــاذ القرار الصائب فی حالة السلم، و اتّخاذ القرار المناسب فی إدارة دفة شؤون البلاد و مجابهة الأعداء. الامام الخمینی الزاهد العارف هذا الإنسان نفسه حینما ینظر الیه المرء فی اطار حیاته الخاصّة، یراه شخصاً زاهداً عارفاً منقطعاً عن الدنیا، و المراد طبعاً من الدنیا هی الدنیا الذمیمة التی وصفها بقوله ان الدنیا القبیحة هی ما فی ذات الإنسان، و إلاّ فانّ ظواهر الطبیعة من أرض و أشجار و سماء و اختراعات و ما شابه ذلک لیست قبیحة، و إنّما هی نعم إلهیة یجب الاهتمام بها. الدنیا القبیحة هی المشاعر الأنانیة و الطمع و الأهواء الموجودة فی ذات الإنسان. و هذه هی الدنیا التی کان الامام منقطعاً عنها کلّیاً. لم یکن الامام یرید شیئاً لذاته، و حتّى إنه لم یشترِ أثناء وجوده على رأس السلطة و لو داراً لنجله الوحید المرحوم الحاج السید أحمد الذی کان أعزّ إنسان إلى قلبه، و هذا ما سمعناه منه مرّات عدیدة حیث أکد ان أعز الناس بالنسبة له هو السید أحمد. و قدذهبنا مرّات عدیدة و رأینا أعزّ إنسان على قلب الامام یعیش فی غرفتین أو ثلاث فی الحدیقة الواقعة خلف الحسینیة التی کان فیها بیت الامام. لم یکن ذلک الامام العظیم راغباً فی کل زخارف الدنیا و زبرجها و أطماعها؛ لقد کانت تصله هدایا کثیرة، إلاّ انّه کان یقدّمها فی سبیل اللّه، حتى انه کان یدفع أمواله الخاصة إلى بیت المال. هذا الشخص الذی لم یکن على استعداد لشراء دار مناسبة لنجله و لو بقیمة عشرة ملایین أو خمسة عشر ملیون تومان من أمواله الخاصّة، کان ینفق مئات الملایین من تلک الأمواله على شؤون الإعمار و إعانة الفقراء و مساعدة المتضررین بالسیول فی نقاط مختلفة من البلاد. کنّا على اطلاع بأنه کان یعطی من أمواله الخاصّة التی تقدم له کهدایا من محبّیه و أنصاره و أصدقائه، إلى بعض الاشخاص لإنفاقها فی مظانّها. الامام ،الانسان الرقیق الرؤوف کان الامام الخمینی من أهل الخلوة و أهل العبادة و التضرع و الدعاء و البکاء فی منتصف اللیل، و کان من أهل الشعر و القیم و المعانی الروحیة و العرفان و التعلّق باللّه. هذا الشخص الذی بثّ الرعب فی أوصال أعداء الشعب الإیرانی و هذا السدّ المنیع و الجبل الشامخ، حینما تعرض له مواقف عاطفیة و إنسانیة تراه انساناً رقیقاً و رؤوفاً. و سبق لی ان نقلت موقفاً عرض لی فی إحدى جولاتی، و هو ان امرأة تقدمت إلیّ و قالت أبلغ الامام نیابة عنّی ان ابنی أسر فی الحرب و قدوصلنی فی الآونة الاخیرة خبر مقتله، إلاّ ان مقتل ابنی لیس مهمّاً عندی و إنّما المهم هو سلامتکم. لقد تحدثت إلیّ تلک المرأة بمشاعر جیّاشة. و عندما جئت إلى الامام و دخلت علیه وجدته واقفاً، و نقلـت لـه ذلـک الموقـــف، فرأیت ذلـک الجبل الراسخ انحنى بغتةً کشجرة باسقة هوت بها الریح، و غاص مستغرقاً فی ذاته، متأثراً روحیاً و جسدیاً بما نقلته له من کلام أمّ الشهـید، و اغــرورقت عیناه بالدمـــوع. و فی أحد اللقاءات الخاصّة کنّا جالسین لیلاً مع بعض الاصدقاء فی دار المرحوم السیدأحمد الخمینی، و کان سماحة الامام موجوداً أیضاً. فبادر أحدنا بالقول: سیّدنا، ان لکم مکانة معنویة و عرفانیة رفیعة، فیاحبّذا لو قدّمتم لنا بعض النصائح و الارشادات. لقد کان لهذا الثناء المقتضــب من ذلک التلمیذ إزاء أستاذه ـ حیث کنّا جمیعاً نتصرف ازاءه کتلامیذ أمام أستاذهم و کأبناء إزاء أبیهم ـ وقعاً مؤثراً انعکس على شکل حیاء و تواضـــع ظهر على محیّاه و على سلوکه و على کیفیة جلسته. شعرنا بالإحراج من هذا الکلام الذی تسبب فی استحیاء الامام. کان لهذا الرجل الشجاع، و بما یملکه من طاقة هائلة، مثل هذا التواضع و الحیاء فی مثل هذه المواقف العاطفیة و المعنویة.
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,871 |
||