الاستقامةوالثباتعندالإمام الخمینی | ||
![]() | ||
الاستقامةوالثباتعندالإمام الخمینی
تتمیز الشخصیة المتفردة ـ غالباً ـ بمجموعة من الارتباطات المکثفة، تشکل لها مصدراً ملهماً لمجمل سلوکیاتها. فلا تجد تمیّزاً واعیاً عند فرد ما، إلا تلحظ مدى کثافة المرجعیات الروحیة والمادیة لدیه. والشخصیة التی نحن بصدد الحدیث عنها، الإمام الخمینی (قده)، لدیها من الممیزات التی تحثنا على البحث عن مصدر نتاجها. وحینما نرصد نوعاً من أفعاله، نجد فی داخلها قوة هائلة جدیرة بالانتباه والتدبر، وملیئة بالعبر والمحمولات. وعندما قلنا: نوعاً من أفعاله؛ فإننا نقصد بذلک، تلک الأفعال التی ترسم شکلاً واضحاً من التحدی والمواجهة. التحدی والمواجهة یعکسان (ثباتاً) راسخاً وأصیلاً یصعدان بالشخصیة إلى عالم الرقی والتکامل من مختلف الجهات، واستقامة شدیدة تتجلى بقوة عند تزاحم الأهوال وتتالی المصائب. * الإیمان والاستقامة وإذا عدنا إلى مفهوم الاستقامة فی الأدبیات الإسلامیة، نجد أن مقام الأشخاص الذین وصلوا إلى هذا النوع من السلوک رفیع جداً، نتج عن سموهم وأسلوب تفکیرهم وسلوکهم وتنزههم عن الإصابة بآفة الخطأ فی تشخیص الموضوعات. فالمعرفة والإیمان والأخلاق، أمورٌ لا یمکن أن تسیر بشکلها السلیم إذا لم تکن تقع على أرضیة متماسکة، وذات ثبات راسخ. والإیمان بالله إذا لم یُفعّل بأشدّ الاستقامات، فإنه سینهار أمام أی اهتزازات عارضة. فقد ربط الله سبحانه وتعالى فی القرآن الکریم فکرة الإیمان بعملیة الاستقامة، حیث قال تعالى: (إن الذین قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل علیهم الملائکة). وإذا سرنا فی هذه الآیة الکریمة إلى نهایتها، سنجد المکانة الرفیعة التی سیحظى بها هؤلاء عند الله سبحانه، حیث استکمل الآیة بقوله: (ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التی کنتم توعدون) (فصلت: 30). والاستقامة عند هؤلاء الأشخاص لا تقف عند حدود الإثابة بمنزل رفیع، بل تتعداه إلى أمر فی غایة الأهمیة، وهو الدعم الذی سیولیه الله تعالى لهم فی الحیاة الدنیا، حیث إن الشخصیة التی سعت لتستکمل إیمانها باستقامة راسخة ستکون تحت رعایة الخالق المدبر (نحن أولیاؤکم فی الحیاة الدنیا وفی الآخرة) (فصلت: 31). فالشخصیة المستقیمة، إذاً، تتمیز أیضاً بأن مصادر إلهامها، لیس بشریاً فحسب، بل هو إلهی أیضاً. وعلى هذا الأساس، فالعلاقة الروحیة التی ربطت الإمام الخمینی بالله، لم تکن مجرد علاقة إیمان فحسب، بل وصلت إلى مستوى الاستقامة التی أمره الله بها (فاستقم کما أمرت ومن تاب معک ولا تطغوا إنه بما تعملون بصیر) (هود: 11). * الاستقامة قولاً وفعلاً ومن هنا، نأتی إلى ذکر مسألة هامة جعلت شخصیة الإمام الخمینی تتمیز بفرادة خاصة حتى عن الشخصیات المستقیمة المتعارفة عند الکثیرین منا. هذه المسألة ترتبط بالطاقة الروحیة التی لم تکن فی مستوى اعتیادی، بل فی لحظة تفجر تتوق إلى اکتشاف الهدف والوصول إلى المقصد بالقطع والیقین. وکان الطریق إلى ذلک یمر عبر مسلک العرفان. والعرفان لیس مجرد المعرفة، بل هو أبعد غوراً ومدى منها. إنه الفیض الذی یتجسد بالفعل، فیصل بالعارف إلى أقصى درجات الاستقامة والثبات التی تعطیه القوة اللازمة لتکوین حالة مجتمعیة تمثل ما یریده الله من الإنسان على الأرض. على هذا النحو، مقاربة الإمام الخمینی لمفهوم الاستقامة ما کانت تنطلق من أساس نظری وعلمی فقط، ولم یکن هو فی موقع یطرح من خلاله المسائل بعیداً عن حیثیاتها التطبیقیة على ذاته قبل الذهاب بها إلى الآخرین. لذلک لم یکن هو لیرضى بأن یربط علاقته بالله بحدودها القصوى، وهو لا یعکس هذا الارتباط بعمقه على حیاته وسلوکه الشخصیین. فبعد إحدى المجازر الوحشیة التی ارتکبها نظام الشاه فی عهده، قال بکل جرأة ووضوح: أنا مصمم على أن لا أقعد حتى أقضی على هذا النظام الفاسد وألتحق بالحق المقدس تعالى وأنا معذور. هذا الکلام نموذج من نمط الخطاب الخمینی. وخطاباته جمیعاً تعکس الروح ذاتها، فلیس ثمة تناقض فی کلماته أو تهافت أو ضعف. والسبب یعود إلى أن الروح المعنویة التی یعیشها الإمام ثابتة، باعتبار ارتباطها بما هو ثابت ومطلق (الله). ونقصد بعدم التهافت أو التناقض لیس فی الخطاب الواحد فحسب، بل فی جمیع خطاباته التی ما فتئت تبرز الجانب الراسخ فی قلب الإمام وضمیره. فالتضحیة والجهاد مثلاً، لیسا واجبین على الشعب، ومستحبین على غیره، والقائد لا یجعل نفسه متمیزاً عنهم فی نفسه، وهذه هی الفرادة بعینها، ولیست الفرادة بالاحتجاب وراء الناس، ووراء جهادهم وتضحیاتهم. وتأکیداً على ما قلناه، یؤسس الإمام لحقیقة جدیدة یکون فیها الشعب والقائد فی حالة اتحاد وتوحد، فی حالة انسجام وتآلف، کل فرد له دوره الخاص فی منظومة الجهاد والدفاع عن الإسلام، فنسمعه یردد فی مجال التعلم والتعلیم: یجب أن تخلقوا جواً جدیداً فی سائر أنحاء إیران بتطهیر التربیة والتعلیم من آثار الثقافة الاستعماریة، لتحولوا أطفالنا الأشبال إلى جبهة مساندة تقف دائماً خلف جبهة مقاومة أمریکا والصهیونیة وشر المعتدین من الشرق والغرب، واطمئنوا إلى أن الخمینی سوف یبقى معکم فی خندق المواجهة حتى اقتلاع جذور الاستعمار الشرقی والغربی. * الاستقامة فی جمیع المجالات وهنا، نقف على إشارة أخرى وهی أن الاستقامة والثبات لیسا صفتین تختصان بمستوى واحد ومجال واحد کما هو الحال عند الإشارة إلى المواجهة العسکریة، بل هناک مستویات ومجالات کثیرة کالمواجهة العلمیة والمواجهة الثقافیة. والمفارقة أننا نجد الکثیر ممن یتحلون بالروح الثوریة ضد الاستعمار والتدخل الأجنبی، ینسحقون ویسقطون أمام ثقافته بدعوى أهمیتها وضرورة الأخذ بأسباب القوة، إلا أن الإمام لم یکن لیرضى أن یُذلّ أو یأخذ الناس إلى شر التغرب وهو یدرک أثر هذه الثقافة وفسادها على المجتمع الإسلامی. ومما یتفرد به الإمام الخمینی فی نفس المضمار الذی نتحدث عنه مسائل تتعلق بوحدة الإسلام والمسلمین، فی الوقت الذی ینتمی فیه إلى مذهب التشیع. إلا أن ولاءه لم یمنعه من أن یکون أحد أبرز الداعین لتوحید المسلمین، حیث اعتبر هذه الوحدة بمثابة المقدس الذی لا یجوز مسه بشکل من الأشکال، فنجد القیم الراسخة والثبات والمصداقیة فی قوله وعمله، ولم یرض أن تمس المقدسات الإسلامیة، ولو کانت تحت سیطرة مذهب دون بقیة المذاهب، وکان همه الأساسی منصباً على محاربة الطغاة وأذنابهم، ولم یکن ینظر إلى الجزئیات والتفاصیل التی تتعلق بإشراف مذهب على هذا المقدس من المقدسات لدى المسلمین. ویقول بهذا المعنى: إذا ـ لا سمح الله ـ اختلفنا مع بعضنا ونسینا تلک الجهة الإلهیة التی أمرنا الله تبارک وتعالى بها وهی (واعتصموا بحبل الله)، فسیأتی وقت ترون فیه أن عنایة الله سوف تذهب عنا. * لا شیء مستحیل لقد عبّد الإمام رؤیته من منظورها الإلهی، فهو العارف الواصل الذی أدرک حقائق الأشیاء، ولم تعد تغریه القشور، من منصب أو مکسب. فالحق هو عنوانه الذی ما فتئ یبحث عنه. فقد التمس قول الإمام علی (ع) عن الدنیا: من نظر إلیها أعمته، ومن نظر فیها بصّرته. وفی هذا المجال یقول الإمام الخمینی: الحق منتصر، وما دمنا فی طریق الحق، فنحن منتصرون. والباطل مهزوم، وکل من یسیر فی طریق الباطل، فسوف یکون مهزوماً. ویخاطب الشعب الإیرانی بقوله: لقد کان الحق معکم حینما هتفتم: نحن نرید الإسلام ولا نرید الکفر والشرک ولا الغزاة ولا قول الزور. وأولئک کانوا مع الباطل حینما وقفوا بمواجهتکم وأرادوا المحافظة على ذلک النظام. کذلک القوى الداخلیة والقوى الخارجیة والعملاء الداخلیون، سواء کانوا من أهل القلم والبیان أم کانوا من أهل العمل والحیل والرایات الحربیة. ومع ذلک، فإن شعبنا بقدرة الله أکبر تغلب على هذه الحیل والرایات الحربیة الکبیرة وانتصر، والحق منتصر دائماً. هکذا، نرى أن لا شیء لدى الإمام مستحیل، ولا شیء یقف دون تحقیق غایاته المثلى. فقد ارتأى أن یعبد الله وحده ولا یشرک معه الطاغوت والجبت. ولم یکن مفهومه للطاغوت أنه مفهوم عرفانی فقط أی النفس الأمارة بالسوء، بل جمع فی رؤیته المفهوم المادی لها أیضاً، حیث اعتبر أن الحرب على الطغیان واجبة کما هی الحرب على النفس الأمارة التی تضل الإنسان عن طریق الهدى والحق. فما کان غیر مقدور علیه سابقاً أصبح ـ بفضل الشعلة الإلهیة المتوقدة لدیه ولدى شعبه ـ ممکناً بل ومتحققاً أیضاً. فما دامت الرهبة من الله وحده، فلا رهبة لأی مخلوق على وجه الکرة الأرضیة: حتى لو أتوا بجمیع سفنهم وطائراتهم إلى هنا، فالوضع الیوم غیر ما کان سابقاً، فنحن متکلون على الله. هذا هو الإمام وهذه منطلقاته: عزیمة راسخة وبنیان شامخ وقلب جسور لا یهاب الصعاب ولا تنطلی علیه ألعاب الکبار. ثابت فی حزمه، لم یُعر غیر الله جمجمته، ولم ینظر إلا إلى أقصى القوم، فقد زالت الجبال وهو لم یزل. ــــــــــــــــ * کل الاقتباسات الواردة فی النص مأخوذة من کتاب الاستقامة والثبات فی شخصیة الإمام الخمینی، ترجمة الشیخ کاظم یاسین. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,713 |
||