ولایة العهد للإمام الرضا (علیه السلام) .. الدوافع والغایات | ||
![]() | ||
ولایة العهد للإمام الرضا (علیه السلام) .. الدوافع والغایات محمد الصفّار
لو نظرنا برؤیة ولو موجزة الى تاریخ الخلفاء العباسیین- الذین سبقوا المأمون وصراعهم الدموی من أجل الحصول على کرسی الخلافة وتهالکهم علیه لوجدنا ان هناک اسباباً ودوافع خطیرة کانت تهدد عرش المأمون جعلته یعقد ولایة العهد لرجل وقف هو و أبوه وجده موقف المعارض لسیاسة العباسیین الجائرة منذ اندلاع شرارتها الاولى. فمن المعروف ان العباسیین وصلوا الى الخلافة عن طریق الدعوة لأهل البیت، علیهم السلام، والبیعة «للرضا من آل محمد»، واستغلوا تعاطف الناس مع مظلومیة الائمة المعصومین، من قبل الأمویین وخاصة واقعة الطف الدمویة، وغیرها من المجازر التی ارتکبها الامویون بحق العلویین، وقد بایع «السفاح» و «المنصور»، محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى، مرتین؛ مرة بالابواء وأخرى بالمدینة، فی جملة من بایعه، ولولا اعطاء دعوتهم صبغة الثأر لأهل البیت والقیام لهم، لما قامت للعباسیین قائمة. فلما آلت الخلافة الى السفاح (ابو العباس)، عمل کل ما بوسعه على استبعاد العلویین من کونهم هم «أهل البیت» و «العترة»، ولصق هذه الصفة بالعباسیین وسخّر لدعایته هذه الولاة والشعراء وغیرهم، ولم تفارق هذه السیاسة الخلفاء الذین جاؤوا بعده بل تعددت انشطتها وکثر محرفو الآیات من وعاظ السلاطین ومزیفو الحقائق من المؤرخین والشعراء وغیرهم. وهذه السیاسة لم تکن جدیدة فی تاریخ الخلافة فقد سبقهم الامویون الیها عندما حضر عشرة من أمراء الشام وحلفوا للسفاح انهم ما کانوا یعرفون أهل بیت للنبی، صلى الله علیه وآله، غیر بنی أمیة !! ولازال هذا الامر مستمراً حتى الآن بعد أن تعددت وسائل الاعلام السمعیة والمرئیة والتی کثف فیها أحفاد هؤلاء جهودهم وحاولوا ما بوسعهم تزییف الحقائق لإبعاد أقرب الناس الى الرسول الأکرم، صلى الله علیه وآله، وإلصاق البعید به، وهذا الحدیث یجرنا الى موضوع لسنا هنا بصدده فله جذور تاریخیة بدأت فی السقیفة. واتبعته الحکومات التی تلتها.
* تزییف الحقائق ثم التصفیة الجسدیة وقد سلک بنو العباس فی خلافتهم نفس السیاسة الأمویة عندما استقرت لهم الخلافة وابعدوا العلویین عنها لکنهم لم ینسوا ان یلجأوا الى العلویین کلما اضطرب عرشهم وتزعزع ملکهم، وهذا الاسلوب اتبعه المأمون فی عقد ولایة العهد للامام الرضا، علیه السلام، وهو أحد الاسباب فی ذلک کما ستأتی بقیة الأسباب الأخرى. فمنذ أن استولى العباسیون على زمام السلطة لم تفارقهم عقدة الحقد على العلویین فمارسوا أبشع الأسالیب القمعیة لإبادة العلویین عن بکرة أبیهم وفی عرض موجز لسیاسة کل خلیفة تجاه العلویین قبل المأمون تتضح السادیة التی جُبل علیها بنو العباس وشغفهم بسفک الدماء. فقد سلّط السفاح على العلویین جلاوزته لقتلهم، وکان یضع علیهم الجواسیس والعیون، أما المنصور فقد اتبع سیاسة هوجاء تجاه العلویین فکان یضعهم فی الاسطوانات ویبنیها علیهم ویسمرهم فی الحیطان ویترکهم یموتون جوعاً ثم یهدم المطبق على من تبقى منهم حیاً وهم فی أغلالهم الى الکثیر من الاسالیب البشعة وتعد سیاسة المنصور تجاه العلویین، من أقبح صفحات التاریخ العباسی ومن أقسى فترات العلویین فی عهدهم. أما المهدی فقد کان یتهم من یوالی أهل البیت بالإلحاد، وهی ذریعة للایقاع بهم وقتلهم، أما الهادی فقد عاش العلویون فی عصره عصر رعب وکان یتشدد فی طلبهم وقتلهم ، أما الرشید فلیس أدل من قول «الخوارزمی» فی وصف سیاسته القمعیة الدمویة تجاه العلویین حیث قال: «الذی حصد شجرة النبوة واقتلع غرس الامامة». ومن أراد التوسع فلیرجع الى کتاب «مقاتل الطالبیین» لأبی الفرج الاصفهانی، الذی نقل بعض جرائم العباسیین بحق العلویین لأن جرائمهم لا تعد ولا تحصى حتى قال الشاعر : تالله ما فعلت أمیة فیهم معشارمافعلتبنوالعباس وهذه الجرائم اعترف بها المأمون نفسه فی الکتاب الذی أرسله الى العباسیین حیث قال: «حتى قضى الله بالأمر إلینا فأخفناهم وضیّقنا علیهم وقتلناهم أکثر من قتل بنی أمیة إیاهم.. ویحکم ان بنی أمیة قتلوا من سلّ سیفاً وإنا معشر بنی العباس قتلناهم جملاً، فلتسألن أعظم هاشمیة بأی ذنب قتلت؟ ولتسألن نفوس ألقیت فی دجلة والفرات ونفوس دفنت ببغداد والکوفة أحیاء..» الى آخر الرسالة.. ولمیکنالمأمونبالذییتفطّرقلبهألماًعلىتلکالمآسیالتیحلّتبأهل البیت، علیهم السلام، وهو یصف ما فعل أسلافه من جرائم بحق العلویین انما اقتضت سیاسته أن ینتصر شکلیاً للعلویین لأسباب سنوضحها، فکانت رسالته تلک، کلمة حق یراد بها باطل، ولکن ما هی الاسباب التی دعت المأمون لأن یمالئ العلویین ویشید بفضلهم ویندد بالجرائم التی ارتکبت بحقهم، ومن ثم یعقد ولایة العهد للامام الرضا، علیه السلام؟ فلم یکن المأمون ذلک الزاهد بالخلافة وقد قتل من أجلها أخاه حتى یعقدها لألد خصومه، کما انه لم یکن أفضل ممن سبقه من الخلفاء العباسیین فی سیاسته القمعیة.
* عرش المأمون فی مهبّ الریح وفی استقرائنا للثورات العلویة وغیرها التی قامت ضد الخلافة العباسیة واشتدت وقویت شوکتها فی بدایة عهد المأمون تتوضح اکثر الصورة التی آلت الیها الخلافة العباسیة والتی کانت من جملة الاسباب التی دعت المأمون لعقد ولایة العهد للإمام الرضا، علیه السلام، لیحافظ على کرسی الخلافة. فمن الطبیعی ان تواجـــــــه سیاسة العباسیین القمعیة سخط الناس وقیام الثورات وفی مقدمتها الثورات العلویة، ففی عهد المنصور ثار «ابراهیم» قتیل «باخمرى» و أخوه «محمد ذو النفس الزکیة»، ثم خرج عیسى ابن زید بن علی الشهید وفی أیام الهادی خرج الحسین بن علی صاحب «فخ»، وفی عهد الرشید خرج یحیى قتیل «الجوزجان»، وکل هذه الثورات الى جانب الثورات غیر العلویة، زعزعت أرکان الخلافة العباسیة، وازداد سخط الناس على سیاستهم الجائرة فی الحکم حتى قال الشاعر
یا لیت ملک بنی مروان دام لنا ولیت ملک بنی العباس فی النار
وعندما تسنّم المأمون الحکم، کان عرش الخلافة فی مهب الریح تزعزعه الثورات والاضطرابات فثارت ثائرة الناس وسخطوا من المأمون بعد أن رأوا ظلمه وظلم عماله وجورهم ما یطول شرحه وکثرت الفتن وأصابت المجاعات الکثیر من البلاد الاسلامیة ووقع الموت فیها، ففی بغداد کان ابراهیم بن المهدی عم المأمون یرمی المأمون بأمه ویدعو العباسیین بالثورة علیه، وفی الکوفة خرج ابو السرایا بجیش کبیر وأعلن الثورة، وخرج زید بن موسى ومعه علی بن محمد بالبصرة، وفی مکة خرج محمد بن جعفر الملقّب بالدیباج، وفی الیمن، ابراهیم بن موسى بن جعفر، وخرج محمد ابن سلیمان العلوی فی المدینة، وخرج جعفر ابن محمد بن زید بن علی، والحسین بن ابراهیم بن الحسن بن علی فی واسط، وفی المدائن خرج محمد بن اسماعیل. فی تلک الاوضاع الخطرة والحرجة کان کرسی الخلافة العباسیة تتقاذفه الامواج فی مهب الریح ولکن المأمون الذی عرف بدهائه ومکره، لم یکن لیستسلم بهذه السهولة لهذه الثورات مهما بلغت ضراوتها ویترک الخلافة وقد قتل اخاه وخطط لسنوات طوال فی سبیل الوصول الیها، لذا فقد اقتضت السیاسة العباسیة أن تشرک العلویین ألد خصوم العباسیین فی الخلافة لإخماد الثورات العلویة وغیرها والحصول على شرعیة للخلافة واکتساب ثقة الناس وامتصاص نقمتهم وهکذا تحتم على سیاسة السیف والقمع والدم والتعذیب والتنکیل ان تخفی أسالیبها الوحشیة لفترة من الزمن لتحوک المؤامرات والدسائس للتخلص من مناوئیها بعد عجزها عن مقارعتهم فی میادین النزال، فرأى المأمون ان یعقد ولایة العهد للإمام الرضا، علیه السلام، لکی ینال تأیید الناس وترجع للخلافة قوتها ونفوذها کما أقام أسلافه خلافتهم بالدعایة للعلویین والبیعة «للرضا من آل محمد»، فهو یعلم ما للامام من قاعدة شعبیة واسعة وقویة، وما یحظى به من تقدیر واحترام من قبل مختلف شرائح المجتمع. یقول الدکتور الشیبی: «ان الرضا لم یکن بعد تولیه العهد، امام الشیعة وحدهم، وانما حتى أهل السنة والزیدیة وسائر الطوائف الشیعیة قد اجتمعت على امامته واتباعه والالتفاف حوله..». وهذا الکلام یؤکد مدى سخط الناس على سیاسة العباسیین ومیلهم للعلویین، وهذا ما کان یعیه المأمون کما یعرف التفاصیل الدقیقة عن حیاة الامام والتی کان ینقلها الیه العیون والجواسیس. واضافة الى الاهداف والمآرب التی ذکرناها والتی کان المأمون یسعى لتحقیقها من خلال تقلیده ولایة العهد للإمام الرضا، فقد کان یسعى لجعل الامام الرضا تحت المراقبة الشدیدة و ابعاده عن الناس والشیعة من أصحابه وخواصه وقطع صلاته معهم لیمهد بذلک الطریق الى التخلص من الامام.
* الإمام وإحباط اللعبة وقد ضیّق المأمون على الامام، فکان لا یصل الى الرضا من یقصده من موالیه. والهدف الاهم من ذلک هو محاولة تسقیط الامام اجتماعیاً وجعل الناس ینظرون الیه بأنه رجل دنیا بقبوله ولایة العهد وتشویه صورته التی ینظر بها الناس الیه. الى غیرها من الاهداف التی لم تکن خافیة على الامام الرضا، علیه السلام. فهو، علیه السلام، یعلم دخائل المأمون وما تنطوی علیه نفسه من الخبث بل لم تکن مآرب المأمون خافیة على أکثر العلویین فکان جواب الامام الرفض القاطع ولم تفلح کل محاولات المأمون لثنی الامام عن اصراره فی الرفض، وقد تنوعت وتعددت محاولاته، الا ان کل هذه المحاولات کانت تبوء بالفشل ورجع رسولاه الفضل والحسن، ابنا الربیع، وقد عجزا عن تنفیذ ما یطمح الیه ولما رأى المأمون ان الامام مصرٌ على الرفض لجأ الى اسلوب التهدید فأرسل رجاء بن أبی الضحاک لیأتی بالإمام من المدینة لیعقد له البیعة بالتهدید والاکراه وجرت بینهما محاورة کشف فیها الامام الرضا عما یضمره المأمون من عقد البیعة له فقال له : «انی لأعلم ما ترید»، فقال المأمون وما أرید؟ قال: علیه السلام: «ترید بذلک ان یقول الناس ان علی بن موسى الرضا لم یزهد فی الدنیا بل زهدت الدنیا فیه، ألا ترون کیف قبل ولایة العهد طمعا فی الخلافة..»؟! فغضب المأمون عندما واجهه الامام بهذه الحقیقة وقال: «بالله أقسم لئن قبلت بولایة العهد والا ضربت عنقک». فقال له الامام: «على شرط انی لا آمر ولا انهی ولا أقضی ولا أغیر شیئاً مما هو قائم على أصوله». فقبل المأمون بذلک. لقد وضع الامام هذه الشروط لکی لا یتحمل شیئا من تبعات الحکم العباسی کما أوضح موقفه، علیه السلام، من قبوله بقوله: «قد علم الله کراهیتی لذلک فلما خیرت بین قبول ذلک وبین القتل اخترت القبول على القتل.. أما علموا ان یوسف، علیه السلام، کان نبیاً ورسولاً فلما دفعته الضرورة الى تولی خزائن العزیز، ﴿قالاجعلنیعلىخزائنالارضانیحفیظعلیم﴾،ودفعتنیالضرورةالىقبولذلکعلىإکراهواجباربعداشرافعلىالهلاکعلى انی ما دخلت فی هذا الامر الا دخول الخارج منه». لقد کشف الامام الرضا فی الفقرة الاخیرة من قوله انه «خرج من العهد» بمجرد وضعه للشروط التی اشترطها والعمل بها یعنی انه لم یکن ضمن نظام السلطة الذی لا یمکن ان یتلاءم مع فکره وأخلاقه کما ان هناک نقطة أخرى لا تخفى على کل من یعرف سیاسة العباسیین القمعیة لم یصرح بها الامام حرصا على عدم کشفها للجانب الآخر وتحمل تبعات ذلک واکتفى بدلیل السوابق التاریخیة على ایضاح موقفه وهی ان الامام لو رفض ولایة العهد فبغض النظر عن القتل الذی ینتظره فانه سوف یفتح باباً للقتل على أتباعه وأهل بیته والامام أحرص الناس على حقن الدماء فکان ( ع ) یوازن بین النتائج والمعطیات المترتبة على القبول والرفض فآثر القبول. فعقدتولایةالعهدواقامالمأموناحتفالاکبیرابهذهالمناسبةذکرتتفاصیلهاغلبالمصادرولکنالمأمونسرعانماأدرکتبعاتمکرهوخبثهفلم یکن الامام ذلک الرجل الذی یستطیع المأمون ان یحتویه ویستغله لأغراضه فانقلب السحر على الساحر وباءت کل محاولات المأمون لإخضاع الامام أو التقلیل من شأنه بالفشل. ------------------ 1 - مقاتل الطالبیین ابو الفرج الاصفهانی 2 - حیاة الامام علی بن موسى الرضا الشیخ باقر شریف القرشی 3 - سیرة الائمة الاثنی عشر السید هاشم معروف الحسنی 4 - الحیاة السیاسیة للإمام الرضا السید جعفر مرتضى العاملی 5 - الامام الرضا تاریخ ودراسة محمد جواد فضل الله
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,494 |
||