الثورة الحسینیة واستمراریة صراع القیم | ||
الثورة الحسینیة واستمراریة صراع القیم الکاتب : عبدالله الفریجی
ساهمت الظروف السیاسیة التی سبقت تولی الإمام علیّ (ع) لقیادة الأُمّة فی تقلیص مساحة التناسب بین القیادة والأُمّة ذلک أنها أثقلت کاهل النظام الإسلامی بالعدید من المشاکل والاضطرابات الأمر الذی أضعف کثیراً قدرة جماهیر الأُمّة ونخبها على استشراف المخاطر المستقبلیة وحصر همّ بعض الفئات بالبحث عن المکاسب وفرص الثراء والحیاة الوادعة وفی النهایة العجز عن تفهم إصرار الإمام (ع) على مواصلة الصراع مهما طالت مدته أو کثرت التضحیات فیه. وقد نجم عن کلِّ ذلک إساءة الفهم وکثرة التذمر من حروب الإمام وبرامجه الإصلاحیة الرامیة لإعادة النظام والعلاقات فی المجتمع إلى الصورة التی کانت علیها فی عهد رسول الله (ص) إذ أنّه اجهد نفسه فی إعادة السیادة للقانون (الشرع) إلى الدرجة التی لا یکون فیها أحد مهما بلغت منزلته فوق القانون وأنّ الجمیع خاضعون له وهذا الأمر سیبدو موضع تردد عند البعض وخصوصاً حینما یقف خلیفة رسول الله (ص) ورئیس واحد من أقوى دول تلک الحقبة أمام القاضی لیرد على إدعاء وجهه إلیه أحد رعایاه من (أهل الذمة) وهذا المصطلح صار یتجه عبر الممارسة لتکریس معنى (المواطن من الدرجة الثانیة) وهو أمر رفضه الإمام وحاول أن یبیّن أنّ موقف الإسلام من أهل الذمة لا یمیز بین المواطنین من جهة الحقوق ولذلک فإنّه وجه نقداً لاذعاً للمسلمین کأمة وکسلطة لأنّه شاهد أحد أبناء الذمة متسولاً بسبب الفقر والشیخوخة وأعطاه ما یعیله ویحفظ کرامته من بیت المال بناءاً على أنّ هذا العطاء حقّ قانونی ولیس هبة یتکرم بها الخلیفة، إذ إنّ الإمام معروف بسیرته بالنسبة للتعامل مع بیت مال المسلمین وقصة الإمام (ع) مع أخیه عقیل مشهورة وذائعة. من جهة أخرى نلاحظ أنّ الإمام عمد إلى فئات من المسلمین وصار یلاحقها لإلغاء الامتیازات الطبقیة وحالات الإثراء غیر المشروع وجعل ذلک جزءاً من برنامجه السیاسی منذ اللحظات الأولى لتولیه منصب الخلافة والقیادة. غیر أنّ أکثر ما صار عرضة لسوء الفهم هو احترام الإمام (ع) للحریات وتثبیت الحقوق حیث سمح للخوارج بالإعلان عن موقفهم واعتبره سلوکاً غیر مناقض للقانون ویندرج ضمن حالات الاختلاف فی الرأی وأنّ هذا لا یمنح السلطة الحقّ فی محاسبتهم ما لم یقوموا بالاعتداء على حریات وحقوق الآخرین فمن (الثابت أنّ دولة القانون بمفهومها العصری قد تحققت فعلاً فی عهد الخلیفة الرابع، وأنّ سیادة القانون أو سیادة الشرع قد أصبحت شعار الدولة)[1]. ولهذا فإنّ معاویة حین أمسى رئیساً للدولة بعد شهادة الإمام علیّ (ع) استغرب من وضع العراقیین وعدّ سلوکیاتهم من التطاول والجرأة على الحاکم. وفی هذا السیاق یأتی إصرار الإمام (ع) على ضرورة القضاء على الحالة الأمویة التی کان یرى فیها خطراً داهماً یستحق أن تبذل فی سبیل درئه تضحیات جسام وأنّ تقدیم تضحیات فی هذا السبیل لا یرتب للمضحی امتیازات وهذا کان من جوانب سوء الفهم التی أشاعها النموذج الأموی فی التعامل إذ أنّه کان یشتری الولاء بالمال والمناصب. وبناءً على هذا فإنّ الأُمة کانت أمام مأزق تاریخی حیث أنّ الإمام بین نار القضاء على فتنة الأمویین والتی یحتاج فیها إلى دعم الوجهاء والناس، وبین مطالبة بعض الوجهاء بالمکاسب فی مقابل دعم نهج الإمام (ع) الإصلاحی وما کان (ع) لیتسامح من أجل دعم الإصلاح مع بعض الراغبین بالحصول على امتیازات فی مقابل الدعم ولا کان مستعداً للتضحیة بالإصلاح من أجل درء خطر نظام معاویة غیر القانونی فکلا النارین خطر على مستقبل الأمة ولابدّ من التعامل معهما بنفس الحزم ولذلک فإنّ الإمام (ع) صار یحاول لفت أنظار الناس إلى خطورة الوضع مؤکداً: "ظلم بنی أمیة واستبدادهم واستئثارهم بالسلطة وضربهم لکلِّ ألوان العدل والمساواة واختفاء أیّ أثر للمفاهیم الإنسانیة فی زمانهم (لا یتخذ بعضکم بعضاً أرباباً من دون الله) – أو مقولة (لن تقدس أمة حتى یؤخذ للضعیف حقه) وکذلک (لا یکون انتصار أحدکم منهم إلا کانتصار العبد من ربه) وهو ما حدث لأهل المدینة عندما جاء مسلم بن عقبة یطالبهم بالبیعة لیزید وما رافقها من انتفاضة أهل المدینة فی وقعة الحرة وبهذا تکون نبوءات مولى المؤمنین هنا قد تحققت"[2]. ویمکن أن نفسر هذه التحذیرات على أنها فی مجملها حددت معالم التوجه الأموی وأسس نظامهم المزمع فرضه على الأُمة فی حال نجاحهم بالسیطرة على الخلافة وتتمثل هذه الأسس بما یلی: 1- حالة العبودیة أی استعباد السلطة للشعب. 2- عدم الاکتراث لحقوق الطبقات الضعیفة فی المجتمع. 3- عدم قدرة الشعب على استعادة أی من حقوقه إذا ما تم استلابها من قبل الحکام أما إذا أرید لهذه الحقوق أن تسترد فهذا یعنی الاحتکام إلى القوة ولیس القانون. إنّ هذه المعالم هی معالم الأوضاع الجاهلیة التی جاء الإسلام لإلغائها وأنّ عودتها تعنی تحویل المجتمع المسلم إلى جاهلیة من حیث الجوهر مع الإبقاء على المظاهر والأشکال التوحیدیة، والإمام حینما حذر کان یطالب بالقضاء على هذا الخطر قبل بلوغه أطواراً یصعب معها القضاء علیه حتى لو بذلت التضحیات، لأنها عندئذ ستکون أضعف أثراً بل إنّ الخطر الأکبر یتمثل بالاستکانة والرکون إلى الباطل وهو أمر کاد أن یقع إثر ضغط الترهیب والترغیب الأموی، وبلغ الأمر أقصاه عند أخذ البیعة لیزید لولا موقف الإمام الحسین (ع) الذی کشف عن عدم شرعیة بیعة یزید لافتاً النظر إلى الدرک الذی ساق الأمویون إلیه الأُمة. فالخطر الأموی کان خطراً مستقبلیاً أکده الوحی على لسان رسوله الکریم (ص) وعلى لسان فاطمة (ع) عندما حذرت من خطورة إقصاء الإمام علیّ (ع) من الخلافة وجاء هذا التحذیر على لسان الإمام علیّ (ع) تفصیلیاً لأنّ الخطر کانت بدایاته قائمة فعلاً، فلیس الأمر مجرد نبوءة أو استشراف للمستقبل ولقد أکد الإمام الحسین (ع) هذه التحذیرات جمیعاً. فموقف الأئمة إنما کان موقفاً یرمی إلى حمایة مستقبل الأُمّة وهذا واضح ومؤکد فی عدد کبیر من النصوص لکن ذلک قوبل بغفلة الأُمّة وعجزها عن إدراک مدى الترابط بین الحدث الآتی وأبعاده المستقبلیة، وضعف الاستشراف الذی أصیب به وعی الأُمّة عائد إلى ما أشرنا إلیه من الظروف السیاسیة التی سبقت وصول الإمام علیّ (ع) إلى السلطة بحیث کان من المؤکد فی حال تولیه الخلافة مواصلة المنهاج التربوی للأُمّة من حیث الموازنة بین الاهتمام باللحظة الحاضرة والأحداث المعاشة وبین کون هذه الأحداث تأسیسیة قادرة على فرز آثار مستقبلیة ستطبع المستقبل بطابعها وإلى فترات بعیدة.
عامل الاستقطاب التاریخی: إنّ تناول الثورة الحسینیة رغم وجود الفاصلة الزمنیة الکبیرة بینها وبین الحاضر المعاش یأتی لأنها کانت عامل استقطاب تاریخی طبع التاریخ من بعدها بطابعه إذا أنها أسست لتیار المعارضة الذی ظل فی وضع مواجهة دائمة مع السلطات الجائرة. ذلک أنها کانت حدثاً ذا قابلیة على إنتاج ذاته بصورة متکررة فی مقابل تواصل محاولات الثورة المضادة للاستئثار بالواقع والتحکم بمسارب الحرکة بحیث تخلق انسجاماً اجتماعیاً فی إطار القیم المنحرفة التی أشرنا إلیها والتی حذّر الإمام علیّ (ع) منها، وهذا یعنی فرض حالة تبریریة لجمیع أنواع الانحراف، لکن الثورة الحسینیة عطلت هذه العملیة لأنها وضعت قبالها قیماً أصیلة ومضادة. صحیح أنّ هذا التضاد أسفر عن ازدواجیة الواقع ثمّ عن حاله من التنوع إلا أنّه ترک فسحة للوعی یستطیع من خلالها ولو قلة من الواعین الوصول إلى صورة الإسلام بعد التنقیب فی رکام التیارات والمذاهب وهو ما حصل فعلاً واستمر الدین ولو من خلال ملامح کلیة – على صعید الواقع الخارجی – بدلاً عن محوه کاملاً. فثورة الحسین ثورة نظرت إلى المستقبل لأنها وجهت المخزون الثقافی من خلال توجیه مکونات (اللاشعور المعرفی). (وإذا کان من الجائز بل من المفید استعمال مفهوم (اللاشعور المعرفی) عند دراسة عقل الفرد الواحد من البشر، کما فعل عالم النفس الکبیر جان بیارجیه، فلعله من الجائز وعندئذ سیکون من المفید استخدام نفس المفهوم بالنسبة للجماعات والشعوب)[3]. وبناءً على هذا المعنى فإنّ الشعوب ترث ملامح ثقافیة محددة ومعها معاییر وقیم یتسلط تأثیرها – فی النهایة – فی توجیه السلوک وعلى أساس کلّ ذلک تترتب العلاقات وأوضاع الحضارة. ولهذا فإنّه لیس من المبالغة أو الخطل فی التفکیر، عملیة البحث عن جذور التردی الحضاری والثقافی المعاصر للأُمّة فی تلک الحقب المغرقة فی القدم، وهذا الأمر بالنسبة للأُمة الإسلامیة مورد إجماع ذلک أننا نلاحظ أنّ أغلب المفکرین یجمعون على أنّ المسلمین قد وضعوا أقدامهم على خط التراجع عندما استحوذ الأمویون على السلطة. فالجابری محمد عابد ذهب إلى أنّ الأُمّة ابتلیت بعرض مرضی سماه بـ(تداخل الأزمنة) فیقول: (نعبر هنا بـ"تداخل الأزمنة الثقافیة" وذلک على الصعیدین المعرفی والأیدیولوجی؛ فعلى الصعید المعرفی ما زال المثقف العربی کما کان منذ العصر الأموی، یستهلک معارف قدیمة على أنها جدیدة سواء کان مصدرها عربیاً خالصاً أو کانت من الدخیل الوافد تلک کانت حالته بالأمس وتلک هی حالته الیوم.. وأما على الصعید الأیدیولوجی فإنّ المثقف کان منذ العصر الأموی، کذلک وما یزال إلى الیوم یعیش فی وعیه الماضی متداخلاً مع أنواع الصراعات الأخرى التی یشهدها حاضره)[4]. فإذن نحن أمام ظاهرة توقف معرفیة وظاهرة توقف أیدیولوجیة بدأت فی العصر الأموی واستمرت إلى اللحظة الحاضرة ذلک أنّ الأُمة لم تستطع أن تعبر لا الصراعات ولا السلوکیات إلى آفاق جدیدة. فهذه الظاهرة واضحة فی الحاضر، إذ أننا نستطیع أن نرى بوضوح أنّ الصراع الفئوی القدیم لا یزال حیاً یلقی إفرازاته فی الواقع المعاصر وکأنّه ینتمی إلى اللحظة الحاضرة، بل أنّ الأُمّة تنسى الکثیر من الصراعات التی مرت لکنها لا تستطیع نسیان هذا الصراع، لأنّه أحد ثوابت الوعی وأنّه یشکل الشعور واللاشعور معاً للأمة، والنتیجة التی لابد من الإقرار بها أنّ لحظة التوقف الأمویة أعاقت الحرکة التی بدأها الإسلام فی مساره العالمی واصطنعت له آلیات الجمود عند تلک اللحظة.
تداخل الأزمنة: تداخل الأزمنة هو أحد أوجه التخلف والتوقف والعجز عن الانتقال من الماضی إلى الحاضر وهو ببساطة (تداخل بین العصور الثقافیة فی الفکر العربی.. منذ الجاهلیة إلى الیوم مما یجعل منها زمناً ثقافیاً واحداً یعیشه المثقف العربی والسمة البارزة فی هذا الزمن الثقافی العربی الواحد هو حضور القدیم لا فی جوف الجدید یغنیه ویوصله بل حضوره معه جنباً إلى جنب ینافسه ویکبله)[5]. فالجاهلیة التی انتقلت کانت بفعل الأمویین لأنهم نقلوها من الإطار القبلی الضیق الذی کان سائداً فی البیئة العربیة قبل الإسلام وأزالوا منها ما لم یعد ملائماً للتحولات الکبرى التی قادها الإسلام فی زمان الرسول (ص) وزمن الإمام علیّ (ع) ثم جمدت الأمة بعد ذلک على شکل واحد واستمر إلى الزمن الحاضر وإنّ (الجدید أو المطلوب والمثیر والمغایر) هو الوافد من الحضارات الغازیة التی داهمت الأُمة وهی فی أعمق حالات سکونها لتطرح خیاراً هو (إما الحرکة أو الزوال) الأمر الذی أطلق آفاق البحث عن الخطوة التالیة التی هی کیفیة عبور المأزق التاریخی – مأزق التوقف والعجز عن مواصلة التقدم – ذلک أنّ کلَّ التحولات التی شکلت التاریخ الرسمی الذی أسسه الحکام کانت تحولات فی الأشکال والمظاهر وأنها کانت سیراً تراجعیاً ضمن الأسس الواحدة؛ فقد تغیرت الأسر الحاکمة لکن الفکر وأنظمة الحکم والقیم الاجتماعیة ظلت ثابتة ما بین العصر الأموی وعصر الغزو الأوروبی وهو عصر اللحظة الراهنة.
بین الماضی والحاضر: مما لا شک فیه أنّ الإسلام – کحالة تغییریة – مختلف عن سواه ذلک أنّه جاء فی الأصل مهتماً بالمستقبل ناظراً إلیه ولهذا فإننا نلاحظ العدد الکبیر من النصوص التی تحدثت عن المستقبل وأمراضه وحالاته الإیجابیة وما إلى ذلک مما ینتمی إلى مستقبل بعید، بعضه لم یأت لحد الآن فضلاً عن أنّ الإسلام قد عین القیادات المستقبلیة وهم اثنا عشر خلیفة ثمّ العلماء الذین هم ورثة الأنبیاء. وکلّ هذا یدل على أنّ الإسلام کان یرى المستقبل فی الحاضر وهذا یدل على انّه قاصد أصلاً نوعاً من حصر التحولات وهو شبیه بما أشار إلیه الجابری. ومن جهة أخرى فإنّه لا یعقل أن یکون الإسلام وهو الذی أحدث أکبر ثورة فی التاریخ قاصداً تحقیق حالة التوقف بالصورة التی أشار إلیها لأننا وبلا کثیر جدل نرى أنّ الإنسانیة مدینة للإسلام منذ ظهوره ولحد الآن بکل الإنجازات والحضارة وحالات التقدم والتحرر والعودة إلى الإنسانیة والمشاعر النظیفة والأخلاق الحمیدة سواء کانت فی الشرق أو الغرب وهذا معترف به من قبل علماء غربیین وشرقیین ولا یحتاج إلى إثبات وعلیه فکیف یقصد الإسلام حالة التوقف الحاصلة فعلاً فی الواقع والتاریخ وأنواع المآسی مع أنّه مسؤول أیضاً عن کل هذا الخیر والأوضاع المناقضة لتلک المدعیات العریضة ثم أننا إذا کنا نعترف بأنّ الإسلام هو رسالة السماء وأنها صادرة عن علیم حکیم فلا یعقل أن یکون هذا الشر الحاصل فی التاریخ صادراً عن الحکیم ولکنه بلا شک صادر عن طرف متخبط وغیر حکیم وبالتالی فإننا لابدّ أن نستنتج أنّ هذا التعدد والتنوع ناتج عن تنوع المصادر والمنابع وهو ما حدث فعلاً وکالآتی.
الازدواجیة: حینما انبثق فجر الإسلام فی الجزیرة العربیة إنما اتخذ منها بؤرة ومرکز تفجیر للواقع العالمی بحیث أنّه حاول من خلال قیادة التحولات الکبرى فی تلک النقطة أن یقود الحاضر الإنسانی والمستقبل ولذلک فهو مشروع (إنسانی عالمی) وهذا مثبت فی الأطر النظریة وفی أسلوب التطبیق مما یعنی أنّه توخى السیطرة على التطورات فی الواقع العربی (المرکز) والواقع الإنسانی فی الزمان الممتد بین البعثة والقیامة أی انّه یتابع کلّ أجیال الإنسان فی هذه الدائرة الواسعة من الزمان وأنّه أیضاً مکانیاً کان یخاطب کلّ أصقاع المعمورة بلا أی استثناء ولهذا فإنّه بدءاً قصد حصول الحرکة الثقافیة والتطورات ضمن فضاءاته الخاصة وبمعنى توجیه الحرکة تصاعدیاً ولهذا فإنّه عین قیادات تستمر لمدة اثنی عشر جیلاً تصل الإنسانیة خلال هذه الأجیال إلى حالة من النضج والأهلیة ثم لتتابع تطورها بقیادة العلماء الذین تمت تهیئة ظروف ولادتهم ولادة سلیمة خلال هذه الفترة الطویلة.
ثورة الإمام (ع) أفرزت القیم الأصیلة: فما حصل إذن حالة من التقابل فی القیم ناتج عن انقلاب فی الأوضاع إذ إنّ البرنامج الإلهی المتمثل فی القرآن الکریم والذی عمل على تنفیذه الرسول الأکرم (ص) کان برنامجاً متکاملاً والتکامل صفة طبیعیة بالنسبة لشیء یصدر عن الله وأنّه أیضاً عهد به إلى رسول متکامل وکان من المفترض أن یبقى هذا التکامل متواصلاً لمدة اثنی عشر خلیفة یقودون الأُمّة ویطاردون رواسب الجاهلیة فی المجتمع إذ لا یعقل أن تنتهی جاهلیة استمرت آلاف السنین خلال الفترة التی عاشها الرسول الأکرم (ص) بل أنّ القضیة تتلاحق للقضاء علیها کأفکار وسلوکیات عبر إنتاج الکیفیات العالیة من المسلمین بواسطة التربیة التی یواصلها الإمام المعصوم (ع) وبعض المسلمین من ذوی القدرة على مواکبة هذا التکامل. وما کان لهذا البرنامج أن یسیر بتلک الصورة دون امتلاک السلطة فالرسول (ص) أشار إلى أهمیة السلطة لأنها هی التی تمتلک أدوات الردع والتوجیه وکان المجتمع یحتاج إلى جهود مضنیة لا یمکن لها النجاح بدون امتلاک زمام السلطة لتطارد المنافقین والمخربین وأصحاب المصالح بلا هوادة لتحصرهم فی الزاویة المیتة وتسحب تأثیرهم من الواقع الاجتماعی المعاصر فضلاً عن تأثیرهم على الأجیال. وبدلاً عن ذلک، فإنّ الوضع صار مقلوباً، إذ إنّ المطاردة صارت للعناصر النظیفة وتم حصرهم فی زاویة، وکانت التصفیة هی السلاح الذی یوجه للمتأثرین بهم من دعاة الخیر والإصلاح، فهناک أبو ذر الغفاری (رض) الذی فرضت علیه حالة الجوع والنفی ثمّ الموت بطریقة مأساویة، وهناک الإمام الحسن بن علیّ (ع) عندما حوصر واغتیل بالسم. ثمّ نصل إلى الأسلوب الذی حوصر به الإمام الحسین (ع) لفرض البیعة علیه بطریقة مذلة لا تلیق إلا بالمتزلفین والضعفاء والله یأبى له ذلک. وهکذا تقابلت قیم الإسلام مع قیم الجاهلیة التی سربها الأمویون إلى المجتمع المسلم هذا فی حین کان المفروض أن تکون السلطة ممثلة بالإسلام النظیف السماوی وأن تکون المعارضة للقیم غیر الإسلامیة بالمعنى العام للجاهلیة سواء کانت عربیة أو جاهلیة أمم أخرى لکی تصل فی النهایة إلى تحول هذه القیم المنحرفة إلى حالة من الضآلة وضعف التأثیر. بینما حدث العکس فی زمن معاویة واستمر هذا الأمر فی الفترات اللاحقة فقد قام الأمویون بتسریب الجاهلیة العربیة ولکن فی العهد العباسی تم تسریب أنواع الجاهلیات الأخرى فبعض الشعوب التی أسلمت نقلت موروثاتها وصارت تحقن به المجتمع الجدید لأنّ الإشراف الثقافی کان معدوماً وکانت السلطة تهتم بالشأن السیاسی والاقتصادی بل إنها ساهمت فی إدخال التراث الهندی والیونانی وهو تراث ساهم فی تعمیق الفتنة وأسالیب الصراع العقائدی بین التیارات التی تذرعت جمیعاً بالانتماء إلى الإسلام. وبهذا فإنّ السابقة الأمویة کانت سابقة خطیرة؛ إذ إنّ الإسلام آنذاک تحول إلى إسلام معارض ومقاوم لأنّه محاصر ولکنه ظل یفرز آثاره ویزیح أوهام التیارات المزیفة.
الثورة الحسینیة والإسلام النظیف: فبدون الثورة الحسینیة کان یمکن تخیل صور المجتمعات الإسلامیة، إذ کان العصر الأموی سیتحول إلى عملیة نقل بأوسع صوره للتراث الثقافی الجاهلی ثم تحدث عملیة نقل الموروثات الجاهلیة الأخرى بصورة أسرع وأوسع أیضاً، لکن الإمام طرح نمط القیم المقابلة وحرک الوعی الخامل لتنشأ عملیة صراع بین هذا التیار الذی أسسه الإمام وطرحه على الأُمّة بشکله الواسع محدداً الأسالیب والغایات لتقوم أسرة آل النبی (ص) بإیصال الثورة إلى أبعادها بعد استشهاد الإمام حیث أُعید آل البیت إلى المدینة لیبدأ الإمام السجاد (ع) إکمال المسیرة ومن بعده بقیة الائمة (ع). فالإمام الحسین (ع) عمل من خلال ثورته على إیقاظ الوعی لدى الأُمّة بصورة عامة ولفت نظرها إلى المؤامرة الأمویة ثم أسس لنقطة البدایة لتیار معارض صار یطرح الإسلام الأصیل فی مقابل التیار المزیف وهذا أجبر الأمویین على تقلیص دائرة المنقول من التراث العربی الجاهلی والاکتفاء بما یحفظ شکلاً إسلامیاً ظاهریاً. وفی النهایة فإنّ الثورة الحسینیة حدّت من التداعی وأبطأت مساره، فضلاً عن أنها أسست لتیار مقابل ظل یتسع تدریجیاً ویستفید من السقطات التی تمارسها السلطة وهذا التیار سیظل فی توسعه حتى ینتصر فی النهایة. ولعلنا نستطیع أن نؤثر على اللحظة الراهنة حیث تعمق الوعی لدى الإنسان المسلم وحیث یؤدی الضغط الذی یواجهه إلى اکتشاف سریع للتیارات المزیفة التی تمثل امتداداً لتیار الأمویین سواء أعلنت ذلک أم لم تعلن وسواء علمت بانتمائها هذا أم لم تعلم. فقد جاء الغزو الغربی من جانبه السلبی لیفرض مراجعة التراث وفی جانبه الإیجابی لیشاهد المسلم نماذج التحرر الإنسانی – وإن کانت محدودة – الذی یعیشه إنسان الحضارة الغازیة ثمّ یعود فی النهایة لیکشف الخیط الذی یربط حالة التحرر هذه بأصلها الإسلامی. ولذلک جاءت عملیات النقد وانطلق عدد کبیر من المفکرین المسلمین یؤکدون على أنّ (فی المجتمعات الإسلامیة کانت الفتنة المزمنة وحتى الآن قائمة على الرهبة أکثر مما أسست بالمحبة ولأنّها بنیت على العبودیة أکثر مما أقیمت على الحریة وهذا ما یبدو لنا مناقضاً للوحدانیة ویوحی بمفهومنا على أنّها الحریة وهذا مخالف للإسلام)[16]. وعلى هذا الأساس وقف المجتمع الإسلامی عند هذه النقطة لأنّ المجتمع لم یستطع عبور هذه المعضلة لکی یتمکن من التقدم إذ أنّه من المعلوم أنّ الإنسان وبحکم فطرته میال للحریة والعدالة والانعتاق وبالتالی فهو یقبل لا بالقیم المناقضة التی کرستها السلطة الأمویة وحاولت جعلها قیماً وحیدة للأُمّة لکن الثورة الحسینیة وضعت إلى جانبها القیم الإسلامیة المبعدة لکی تتقابل باستمرار إذا إنّ السلطات المتعاقبة کانت تعمل بالقیم الحسینیة قبل الوصول إلى السلطة، لکنها لم تلبث أن تعمل بالقیم الیزیدیة بعد الوصول إلیها وحیث أنّ الثقافة الإسلامیة ثقافة لیست وحیدة البؤرة فإنها سرعان ما تفرز تیار المقاومة من جدید.. وهکذا فإنّ البؤرتین تفرزان إفرازاتهما فی کلِّ جیل. على أنّنا یجب أن نشیر إلى أنّ الصراع جُسّم فی الحقب المعاصرة من خلال هجوم الثقافات الأجنبیة لتتکشف لنا (الهوّة الشاسعة بین حقیقة الله وحقیقة الوحدانیة وحقیقة الإسلام کحریة، وواقع المسلمین کعبودیة.. والمسلمون معرضون الیوم لأشکال مزدوجة من العبودیة؛ الأشکال التقلیدیة التی عانوها فی فترة انحطاطهم، والأشکال الجدیدة التی تطالعهم بها أزمة الحضارة العصریة)[17]. على أنّنا أیضاً نستطیع أن نعید أشکال العبودیة إلى جذر واحد فإذا کانت الآراء منفقة على أنّ النهضة الغربیة تعود إلى النموذج الإسلامی الذی نقله المسلمون إلى الأندلس فهو طبعاً نموذج تم استنساخه عن النسخة الأمویة وأنها کانت نسخة متفوقة على الواقع الغربی من جهات عدة إلا أنها حملت النموذج الحضاری ومعالم المدنیة الإسلامیة دون أن تحمل القیم الحقیقیة للإسلام، وعندما تراجع النموذج العربی خلّف مکانه الحضارة الغربیة بجذورها المعروفة المزدوجة وهی تحمل وجهاً إیجابیاً یتمثل بالعلم والمعرفة ووجهاً آخراً یحمل طابع العدوان والرغبة فی الاستئثار والسلوکیات الفردیة غیر المنضبطة أخلاقیاً وبالتالی نزعة قویة لاستعباد الآخرین. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,732 |
||