ثورة الحسین (ع) هزّة ضمیر وحیاة رسالة | ||
ثورة الحسین (ع) هزّة ضمیر وحیاة رسالة الکاتب : السید الراحل محمد باقر الحکیم
◄یمثّل المقال جزءاً من محاولة لتکوین تصور نظری عامٍ لثورة الإمام الحسین (ع) وبیان الإطار الفکری والشرعی والسیاسی والأخلاقی لهذه الملحمة التأریخیة وأسبابها ونتائجها اعتماداً على مجموعة من الظواهر التأریخیة والحقائق الثابتة دون الخوض فی جانب السرد التأریخی.
نظریات فی تفسیر ثورة الحسین (ع): اختلف أهل الهدى وأهل الضلالة فی تفسیر ثورة الحسین (ع) وأهدافها ودوافعها الحقیقیة اختلافاً بیّناً وکبیراً، وإن کان هناک إجماع من عامة المسلمین على قبولها وتأییدها وإدانة الحکم الأموی بسببها؛ فالأعداء حاولوا أن یفسّروها بتفسیر معیّن، ومن آمن بالحسین وبإمامته (ع) فسّرها بتفسیر آخر، ومن لم یؤمن به حاول أن یفسّرها بتفسیر ثالث قد لا یکون تفسیراً عدائیاً، ولکنّه انطلق من وجهة نظره الضیّقة وفهمه للحیاة الإنسانیة ولدور الحسین (ع) فی هذه الحیاة. ونرید هنا أن نستعرض بشکل إجمالی بعض هذه النظریات فی تفسیر قضیة الحسین وثورته، لنتعرّف التفسیر الصحیح لها، ونستکشف النظریة التی قامت الثورة على أساسها، ثمّ نتعرف الدرس العملی الذی أراده الحسین (ع) من وراء هذه الثورة.
التفسیر الأوّل: ثورة الحسین (ع) صراع قبلی: هناک تفسیر یقول بأنّ حرکة الحسین کانت حرکة قبلیة (عشائریة) تعبّر عن الصراع المحتدم بین قبیلتین قرشیتین کانتا تتصارعان على السلطة والهیمنة قبل الإسلام، واستمر هذا الصراع بینهما إلى ما بعد الإسلام، ذلک هو الصراع بین بنی هاشم وبنی اُمیة. هذا التفسیر تبناه أعداء الحسین (ع) ولعلهم انطلقوا من دوافع یزید (قاتل الحسین) عندما قال معبّراً عن رأیه فی هذا المجال:
لیت أشیاخی ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل لأهلوا واستهلّوا فرحاً ثمّ قالوا یا یزید لا تُشل لعبت هاشم بالملک فلاخبر جاء ولا وحی نزل
وبعد ذلک سار على طریق یزید فی هذا التفسیر بعض المؤرِّخین الحاقدین، حتى انتهى الأمر إلى أولئک المستشرقین الذین حاولوا أن یفسّروا تأریخنا وأن یرغمونا بشکل أو بآخر على قبول هذا التفسیر بأسالیبهم وبحیلهم وبأضالیلهم، فقد حاول بعض منهم أن یفسر القضیة على أساس صراع بین قبیلتین، وفسّر الصراع بین رسول الله (ص) وبین أبی سفیان على أنّه امتداد لذلک الصراع القبلی والعشائری، لأنّ هؤلاء المستشرقین الذین یحاولون أن یظهروا أنّهم حیادیون تجاه هذا الصراع لا یؤمنون بالنبوة والوحی والرسالة الإسلامیة، ومن ثمّ فهم لیسوا حیادیین تجاه الإسلام ورسالته.
الحقائق الثابتة ترفض هذا التفسیر: ولا یمکن أن ینجسم هذا التفسیر مع الحقائق التأریخیة، حیث إنّه إذا أردنا أن ندرس قضیة الحسین (ع) من خلال مجموعة من الظواهر الثابتة تأریخیاً – ونأخذ منها على سبیل المثال ظاهرة واحدة وهی ظاهرة أصحاب الحسین (ع) – نجد أنّ قضیة الحسین لا یمکن أن تکون صراعاً بین عشیرتین أو قبیلتین، لأنّ أصحاب الحسین – سواء کانوا من حیث الانتماء القبلی أو من حیث الانتماء القومی أو من حیث الانتماء لمستوى الثقافة أو مستوى الوضع الاجتماعی، بل وحتى من حیث الانتماء المذهبی – یمثلون نماذج وعیّنات متعددة ومختلفة، حیث نلاحظ أنّ هناک اختلافاً عظیماً بینهم ولا یمکن أن تجمع کل هؤلاء أو توحدهم قضیة الصراع القبلی. فإنّ قضیة الصراع القبلی لا یمکن أن توحّد بین (جون) العبد الأسود وبین حبیب بن مظاهر سیّد العشیرة العربی، کما أنّه لا یمکن أن توحّد بین أولئک الذین کانوا بالأمس أعداءً للحسین، کالحر بن یزید الریاحی وزهیر بن القین وغیرهما من الأشخاص الآخرین الذین انضموا إلى الحسین أثناء المعرکة عندما سمعوا حدیثه أو استغاثته، وبین من کان موالیاً للحسین منذ الیوم الأوّل. ثمّ ما هو الشیء الذی جعل زهیر بن القین یتحوّل عن (عثمانیته) وعن اعتقاده بخط العثمانیة؟ الخط الذی أسّسه معاویة لتعلیل موقفه المعارض لعلیّ (ع) والذی کان یدّعی أنّ عثمان قُتل مظلوماً وأنّه لابدّ من الأخذ بثأره، وأنّ وراء قتله کان علیّ بن أبی طالب (ع)، هذا الخط العثمانی الذی کان یتبنّى مثل هذه الفکرة، وکان زهیر بن القین – إلى حین لقاء الحسین (ع) به فی الطریق إلى کربلاء – یتبنى هذا الخط. لا یمکن أن نفترض أنّ زهیر بن القین (وهو أحد زعماء هذا الخط) تحوّل من هذا الاعتقاد الذی یمثل القطب المعارض تماماً لخط أهل البیت – علیهم السلام – إلى جانب الحسین (ع) باعتبار أنّ الصراع کان صراعاً بین قبیلتین، بین بنی هاشم وبین بنی اُمیة، مع أنّ زهیر بن القین کان فی جانب بنی اُمیة ومن خط بنی اُمیة. وکذلک موقف الحرّ بن یزید الریاحی الذی کان إلى آخر لحظات المواجهة قائداً عسکریاً کبیراً یقود ربع جیش عمر بن سعد، ثمّ تحوّل إلى جانب الحسین (ع) لیستشهد معه لأنّه کان یخیّر نفسه بین الجنة والنار، فاختار الجنّة فی اللحظة الأخیرة. إنّ ظاهرة أصحاب الحسین (ع) إذا درسناها بتأمل نجدها ترفض بشکل قاطع هذه النظریة، خصوصاً إذا عرفنا أنّ أصحاب الحسین (ع) أنفسهم کانوا یعیشون الحقیقة بعقولهم کما کانوا یعیشونها بوجدانهم وضمیرهم، وأنّهم کانوا یعیشون الأوضاع السیاسیة والاجتماعیة بکل ظروفها وبکل مواصفاتها وجزئیاتها لأنهم قریبون منها، وبعضهم کان یعیش قریباً من النظام الأموی ومن الإمام الحسین (ع). ولیس حالهم حالنا، حال من ینظر إلى التأریخ من خلال هذا الفاصل الزمنی بیننا وبین الحسین (ع) وقضیته، فهذه النظریة فی الحقیقة (مرفوضة) ولا یمکن أن نأخذ بها، بل هی نظریة معادیة بالأصل کما أشرنا. هذه ظاهرة من ظواهر کثیرة لا مجال لشرحها الآن، وانما نرید أن نشیر إلى بعضها من أجل أن نتبیّن الموقف من مثل هذا التفسیر.
التفسیر الثانی: حرکة الحسین (ع) کانت من أجل الوصول إلى السلطة: هناک تفسیر آخر یقدّم لحرکة الحسین (ع) یول: إنّ الحسین (ع) باعتباره إماماً معصوماً مفروض الطاعة ومنصوباً من قبل الله سبحانه وتعالى فهو أحق بالحکم من غیره، والإمام الحسین (ع) وجد أنّ یزیداً إنسان ضعیف فی الحکم بعد موت معاویة لا یملک القاعدة السیاسیة التی کان یملکها أبوه بدهائه وخبرته، وباعتبار أنّ یزیداً کان معروفاً بمجونه وتمرده على الإسلام وبفسقه، بل وکان معلناً الفسق ومتجاهراً به، فهو إنسان معزول عن المجتمع الإسلامی ومرفوض من قبله، والإمام الحسین (ع) رأى من واجبه أن یسعى إلى السلطة من أجل أن یقیم حکم الإسلام العادل ویرجع الحقّ إلى نصابه. إذن فهناک صراع بین الإمام الحسین (ع) وبین یزید على السلطة، ولکن لا من أجل الهیمنة والسیطرة فحسب – کما یقول التفسیر السابق – وانما من أجل إحقاق الحقّ وإقامة العدل الإلهی، ولکن الحسین لم تؤاته الظروف رغم أنّ أهل الکوفة أرسلوا له آلاف الکتب ووعدوه بالنصرة والوقوف إلى جانبه، ولکنهم خذلوه فی اللحظة الأخیرة ولم یتخذوا الموقف المناصر له، وإذا به یجد نفسه وحیداً فریداً غریباً وفی وضع مأساوی، الأمر الذی أدّى إلى هذه النهایة المأساویة. هذا تفسیر یذکره الکثیر من المؤرِّخین وهو یتبادر إلى أذهان أکثر الناس؛ فالحسین (ع) باعتباره الأحق بهذا المنصب وهو الأحق بالخلافة – کما صرح بذلک فی عدة مواضع من نهضته –، إذن فمن الطبیعی أن یسعى إلى هذا المنصب باعتبار المسؤولیة التی یشعر بها تجاه إقامة الحکم الإلهی، وقد سعى بجد ونشاط وبتخطیط لتحقیق هذا الهدف السامی لا حبّاً بالسلطان، وإنما لإقامة العدل الإلهی، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر والإصلاح فی أُمّة جدّه رسول الله (ص)، کما أعلن عن ذلک فی وصیته لأخیه محمد بن الحنفیة، غیر أنّ الإمام الحسین (ع) لم یتمکن من الوصول إلى هذا الهدف لا لضعف فی قیادته وانما نتیجة لتخاذل الناس عنه، کما حدث بالنسبة إلى أمیر المؤمنین (ع)؛ إذ سعى إلى هذا الأمر واستلم الخلافة، ولکنه لم یستمر فیها لاستشهاده على ید ابن ملجم، والإمام الحسین (ع) أیضاً سعى إلى الخلافة وانتهى دوره باستشهاد مأساوی فجیع بسبب طغیان عبید الله بن زیاد، ویزید بن معاویة.
الأحداث ترفض هذا التفسیر أیضاً: هذا التفسیر لا نقبله أیضاً، ولا نؤمن به لأنّنا نرى أنّ هدف الحسین (ع) من وراء هذه الحرکة لم یکن الوصول إلى السلطة لا بسبب أنّ السعی إلى الخلافة أو السلطة وإلى الحکم الإسلامی وإقامة العدل والقسط بین الناس سعی غیر مشروع، أو أنّ الحسین (ع) لم یکن مسؤولاً عن ذلک، بل إنّ هذا السعی کان واجباً إلهیاً مشروعاً، وأنّ الحسین (ع) وکلّ إنسان سائر على خطه (ع) یجب علیه أن یسیر فی هذا الطریق، وأن یعمل من أجل إقامة حکومة الله وتحقیق العدل الإلهی، والحسین (ع) مسؤول عن هذا الأمر بطبیعة الحال إذا تحققت شروطه الموضوعیة، وهذه مسألة واضحة ولیست مورد نقاش وشک. ومع ذلک فلم یکن هدف الحسین (ع) من وراء هذه الحرکة تحقیق هذا الشیء، لأنّه کان یعرف أنّه لا یصل إلیه بسبب إدراکه لطبیعة الظروف السیاسیة والنفسیة والاجتماعیة للأُمّة، وکانت هذه النتیجة واضحة بالنسبة للحسین (ع). ونحن انما نرفض هذه النظریة: (نظریة أن یکون هدف الحسین (ع) من ثورته هو الوصول إلى السلطة فحسب ولکن لم یتمکن من ذلک) بحیث تفترض بأنّ الحسین (ع) لو کان یعرف النتائج وأنّه لا یصل إلى السلطة ولا إلى الحکم لجلس فی بیته، کما جلس أخوه الحسن (ع) بعد الهدنة مع معاویة، أو کما جلس أبوه علیّ بن أبی طالب (ع) بعد وفاة رسول الله (ص)، إنما نرفض هذه النظریة لأننا نقول: إنّ الحسین (ع) کان یعرف منذ البدایة النتائج التی حصلت له، وأنّه لا یتمکن من الوصول إلى السلطة، ومع ذلک تحرک فی مواجهة حکم یزید، إذن فهذا التحرک لم یکن بهدف الوصول إلى السلطة مع أنّه – کما قلت وأُؤکد – هدف مشروع وصحیح ویجب العمل أیضاً من أجله، عند توفر الظروف والشروط الموضوعیة لنجاحه. وانّما نرفض هذه الفکرة لأننا – کما قلنا – نعرف بأنّ الحسین (ع) کان على معرفة بالنتائج، ذلک لأنّ الظروف الموضوعیة للنجاح فی تحقیق هذا الهدف الخاص لم تکن متوفرة، وکان الإمام الحسین (ع) یدرک عدم توفر هذه الظروف منذ البدایة، ومع معرفة الحسین (ع) بذلک لا یمکن أن نفترض أنّ الهدف هو الوصول إلى السلطة لأنّ معنى ذلک انّ الحسین کان یسعى إلى هدف غیر واقعی ویکون عمله مجرد عمل انتحاری، وهذا لا ینسجم مع شخصیة الحسین وتجاربه ومع فرضیة إمامته وأنّه الأحق بالخلافة. ویمکننا أن نعرف هذه الحقیقة من خلال عدة أمور یعرفها الإنسان عند مطالعته ومراجعته لتأریخ حرکة الحسین (ع) بشکل واضح: الأمر الأوّل: هو أنّ العقلاء من خلّص أصحاب الحسین (ع) أو من غیرهم من أصحاب الرأی وممن لهم معرفة بالأوضاع السیاسیة فی ذلک الزمان کلّهم کانوا متفقین على أنّ هذا الهدف لا یمکن أن یتحقق للحسین (ع). فمثلاً عبدالله بن عباس (الذی کان یعتبر من حکماء العرب بحیث إنّ أمیر المؤمنین (ع) اختاره مندوباً عنه فی قضیة الحکمین، لکنّ المنافقین والجهلاء من أصحاب علیّ (ع) رفضوا ذلک)، کان ینصح الحسین (ع) بعدم التوجه إلى الکوفة لأنّ أهلها سوف یخذلونه فی النهایة، وهکذا کان موقف کلّ من محمد بن الحنفیة (أخ الحسین لأبیه) وعبدالله بن جعفر (ابن عمّ الحسین) وأم سلمة وجماعة أخرى ممن یحبّون الحسین ویخلصون له، کان رأیهم هو أنّ الحسین (ع) لن یصل إلى هذا الهدف، وحذّروه من الموقف العام لأهل الکوفة وغیرهم من المسلمین الذین طلبوا منه القیام والنهوض وما یمکن أن یتحقق من خذلانهم له، وأنّهم صنعوا بأبیه وبأخیه فی السابق ما صنعوا من تخاذل ونفاق وعدوان، وغیر ذلک من التحذیرات التی یُعثر علیها فی الکتب التأریخیة. وقد جاءت نهایة المأساة متطابقة أیضاً مع ما قاله هؤلاء المخلصون للحسین (ع)، وکان ما ذکروه یمثّل الحقیقة بعینها. ونحن ازاء ذلک لا یمکن أن نفترض أنّ الحسین (ع) (الذی هو وریث محمد (ص) ووریث الإمام علیّ والإمام الحسن (ع) وعاش مختلف الظروف والتجارب والتحولات والتغییرات التأریخیة والسیاسیة) لا یمکن أن یکون غیر مدرک للحقیقة التی أدرکها هؤلاء المستشارون وهؤلاء المخلصون الذین کانوا إلى جانب الحسین (ع) وأکدوا له النتائج التی وقعت، وذکروا له أنّه لا یمکن فی مثل هذه الظروف السیاسیة أن یتحقق هذا الانتصار والوصول إلى الحکم، فهل من المعقول أن یکون هؤلاء قد توصلوا إلى هذه الحقیقة وأدرکوا هذا الأمر وبقی ذلک بعیداً عن حسابات الحسین (ع) وتوقعاته؟ ثمّ هل کان الحسین (ع) یتصور – نتیجة لرسائل أهل الکوفة ولاصرارهم وإلحاحهم علیه بالثورة – أنّه یتمکن أن یصل إلى هذا الهدف الخاص، مع أنّ کل هؤلاء أجمعوا على أنّ هذا الهدف لا یمکن أن یتحقق؟ الأمر الثانی: موقف الحسین وإصراره على المضی فی طریقه بعد أن تدهور الوضع السیاسی فی الکوفة بمقتل مسلم بن عقیل ورسوله مسهر بن قیس الصیداوی وغیرهما وتوارد الانباء علیه بهذه الحقائق وتقدیم النصائح له ومع ذلک کان یصرّ على الاستمرار فی الحرکة ویترک للآخرین أن یختاروا مصاحبته أو ترکهم له. الأمر الثالث: وهو أوضح من الأوّلین فی رفض هذا التفسیر وهو النصوص التی وردت عن الحسین (ع) وأهل البیت الکرام والنبیّ (ص) والتی تؤکد أنّ الحسین وأهل البیت کانوا مطّلعین على هذه المأساة وتفاصیلها، فمن ذلک ما ورد على لسان الحسین (ع) خلال مسیرته نحو کربلاء فی عدة مواضع من أنّ مصیره هو القتل حتماً هو وأهل بیته وأطفاله وعیاله، ومن ذلک رؤیاه لرسول الله (ص) فی الحرم المدنی عند الوداع، ثمّ بعد ذلک خطبة الحسین (ع) عندما خرج من مکة متوجهاً إلى الکوفة قبل أن یکشف أهل الکوفة موقفهم الحقیقی، وکانت الکتب والرسائل تتوارد علیه بالمئات فی ذلک الوقت وأکّدها سفیره ورسوله وابن عمه مسلم بن عقیل (ع)؛ فقد خطب الحسین (ع) فی ذلک یقول: "... خُط الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جید الفتاة..." "وکأنی بأوصالی هذه تقطعها عسلان الفلوات بین النواویس وکربلاء". إضافة إلى أنّ هناک الروایات الکثیرة التی وردت عن الرسول (ص)، وعن أمیر المؤمنین (ع)، وعن فاطمة الزهراء – علیهما السلام – تؤکد وقوع هذه المأساة للحسین (ع) وإخبارهم عنها. ومع ملاحظة موقف الحسین ومسیرته نرى أنّه کان متأکداً من هذه النهایة، ومَن یتأکد من هذه النتیجة لا یمکن أن یخطر بباله أنّه سوف یصل إلى الحکم، أو سوف یصل إلى تحقیق العدل الإلهی من وراء هذه الحرکة التی قام بها. إذن لم یکن الهدف الخاص للحسین (ع) فی حرکته هو الوصول إلى السلطة الأمر الذی تفترضه هذه النظریة، بحیث نفترض أنّ الحسین فشل فی تحقیق هدفه أو أنّه لم یکن قادراً على التحلیل الصحیح للظروف والأوضاع السیاسیة أو تعرّض لخدعة کبیرة، نعم تعرض لخیانة کبیرة، ولکن الفرق بین الخیانة والخدعة واضح. إذن فهذه النظریة مرفوضة أیضاً.
التفسیر الثالث: حرکة الحسین (ع) کانت بهدف أخلاقی: یعتمد هذا التفسیر على افتراض أنّ تحرک الحسین (ع) ونهضته کان بدوافع أخلاقیة ذاتیة تنطلق من العوامل النفسیة والأخلاق الإسلامیة العربیة التی کان یتصف بها (ع)، ویقال بأنّ الحسین (ع) کان إنساناً شریفاً وعزیزاً وکریماً یأبى الضیم، وهو ابن بنت رسول الله (ص)، ابن علیّ بن أبی طالب (ع)، ابن هذا البیت المجید... هذا الإنسان الشریف لا یمکن أن یخضع لإنسان وضیع، ملحد، فاسق، فاجر، إلى غیر ذلک من الصفات التی کان یتصف بها یزید الأموی؛ إذن فهذا الإنسان باعتبار أخلاقیاته وصفاته النفسیة العالیة لا یمکن أن یبایع یزید وأن یضع یده بید یزید، وقد عبّر عن ذلک فی قوله (ع): "والله لا اُعطیکم بیدی إعطاء الذلیل ولا أفرّ فرار العبید". أو قوله لوالی المدینة (الولید): "أیها الأمیر إنّا أهل بیت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائکة بنا فتح الله وبنا یختم، ویزید رجل شارب الخمور وقاتل النفس المحرمة ومعلن بالفسق ومثلی لا یبایع مثله". هذا التفسیر الذی یفسّر حرکة الحسین (ع) یفترض أنّ المسألة أخلاق وإباء للضیم، وعزّة، وکرامة؛ فالإنسان عندما یکون عزیزاً أبیاً لا یمکن أن یخضع للذل، والحسین (ع) تعرّض لمحاولات الإذلال والامتهان فأبت نفسه الزکیة الأبیة الذل والخضوع، ومن ثمّ انتهت الأمور إلى أن تقع مأساة قتل الحسین (ع) وأهل بیته وأصحابه وسبی عیالاته إلى غیر ذلک من المآسی المعروفة فی واقعة کربلاء... هذا تفسیر آخر یُقدّم للهدف من حرکة الحسین (ع). وتوجد عشرات الآلاف من (الأدبیات) الحسینیة تتحدث ع هذا التفسیر وهذه الأخلاق، کما توجد ملامح لهذا التفسیر فی بعض خطب الحسین (ع) وفی بعض کلماته التی ذکرنا بعضها، وکلمات أخرى عدیدة، نحو: "ألا وأنّ الداعی ابن الدعی قدر رکز بین اثنتین، بین الذلّة والسلة، وهیهات منّا الذلّة یأبى الله لنا ذلک ورسوله والمؤمنون... ونفوس أبیة...". فما هو موقفنا من هذا التفسیر؟
الجواب یترک للقارئ الکریم
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,619 |
||