الخط السیاسی لثورة الإمام الحسین (ع) | ||
الخط السیاسی لثورة الإمام الحسین (ع) الکاتب : أحمد عبدالمجید حمود
لما استشهد الإمام الحسن (ع) تحرکت الجماهیر بالعراق وکتبوا إلى الإمام الحسین (ع) فی خلع معاویة والبیعة له فامتنع علیهم، ویرجع امتناع الإمام (ع) لعهد وعقد بینه وبین معاویة فإذا مات معاویة نظر فی ذلک. فلما مات معاویة، وذلک للنصف من رجب سنة 60هـ/ 680م کتب یزید إلى الولید بن عتبة ابن أبی سفیان وکان على المدینة من قبل معاویة أن یأخذ الحسین (ع) بالبیعة ولا یرخص له فی التأخر عن ذلک[1]. ویرفض الإمام الحسین (ع) البیعة لیزید رفضاً قطعیاً ویدعم هذا الرفض بأسباب وحقائق دامغة، فضح فیها شخصیة هذا الحاکم المتسلط على رقاب المسلمین بالقهر والغلبة بأنّه "ظالم، وشارب للخمر، وقاتل الأنفس البریئة، ومتمرد على حکم الله، ولا یخشى الله لا فی السر ولا فی العلانیة". قبل أن یخرج الإمام (ع) من مکة المکرمة، کتب وصیة وأعطاها إلى أخیه محمد ابن الحنفیة، یُبیّن فیها أسباب ثورته ودوافعها. ومن بین هذه الأسباب سببان عظیمان أساسان هما: السبب الأوّل: إصلاح هذه الأُمة. والسبب الثانی: الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر. ویبیّن لنا الإمام (ع) معنى الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فی خطبة ألقاها فی موسم الحج. "فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر – فریضة منه – لعلمه بأنها إذا أدیت وأقیمت استقامت الفرائض کلها، هیّنها وصعبها، ذلک أنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر دعاء إلى الإسلام مع رد المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفیء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها وضعها فی حقها...". ورسالة سلیمان بن صرد، والمسیب بن نجبة، ورفاعة بن شداد الجبلی، وحبیب بن مظاهر، والمسلمین من أهل الکوفة تکشف لنا وجهاً من الواقع الاجتماعی الذی کان یعیش فیه المسلمون فی ذلک العهد تحت حکومة ظالمة مستبدة، تراقب الإعلام الإسلامی مراقبة شدیدة، وتکبل الفکر الإسلامی وتلقیه فی غیاهب الجب، وتحرص حرصاً شدیداً على تتبع حرکات زعماء الأُمّة الإسلامیة وتمعن بهم قتلاً وتشریداً وتسیطر على فیء المسلمین وتقسمه على الظلمة وأعوانهم. "أما بعد، فالحمد لله الذی قصم عدوک الجبار العنید، الذی انتزى على هذه الأُمّة فابتزها أمرها، وغصبها فیئها، وتأمّر علیها بغیر رضى منها، ثمّ قتل خیارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بین جبابرتها وأغنیائها. فبُعداً له کما بعدت ثمود، إنّه لیس علینا إمام فأقبل لعل الله أن یجمعنا بک على الحق"[2]. من هنا، یتضح أنّ المؤمنین فی ذلک الوقت ما کانوا لیقدموا الولاء للحکومة الظالمة ولئن حدث ذلک فإنما یکون قسراً وجبراً، فصلح الإمام الحسن (ع) مع معاویة کان أمراً قهر علیه الإمام وذلک للأسباب التالیة: عندما بعث الإمام (ع) حِجر بن عدی لیستنفر الناس للجهاد بعد مسیر معاویة وبلوغه جسر منبج تثاقلت الناس للجهاد لکنهم استجابوا بعد ذلک. فالسؤال الذی یطرح نفسه هنا هو: أی الفئات هی التی استجابت، وما هی اتجاهاتها السیاسیة؟ فالجواب أنهم کانوا یمثلون خمس فئات من الناس: 1- فئة مناصرة له ولأبیه علیهما السلام. 2- فئة محکمة یؤثرون قتال معاویة بکلِّ حیلة. 3- فئة أصحاب فتن وطمع فی الغنائم. 4- فئة شکاک. 5- فئة أصحاب عصبیة اتبعوا رؤساء قبائلهم لا یرجعون إلى دین[3]. فکان رأی الإمام الحسن (ع) فی الصلح فی تلک الفترة من أعظم الآراء السیاسیة العالمیة الذی لم یجد الإمام بداً منه. وإلّا لو وجد الإمام الحسن (ع) أنصاراً لأعلن الحرب على تلک الحکومة الظالمة حتى یحکم الله بأمره وهو خیر الحاکمین. وفی خطبة الإمام الحسین (ع) بذی حسم نستشف واقع الحیاة المریر الذی وصلت إلیه الأُمّة الإسلامیة فی ذلک الوقت من تنکر الدنیا وتغیر أحوالها حتى بات الحق أسیراً مکبلاً وأصبح الباطل مهنة اجتماعیة وسیاسیة لا یتناهى عنه، فأقام هذا الواقع وهذه السیاسة المتبناة على الصعیدین الحکومی والاجتماعی یرسم الإمام (ع) للمؤمن الخط السیاسی والصراط المستقیم الذی یجب علیه أن ینتهجه إذا أراد أن یحیا حیاة کریمة عزیزة. فلابدّ من الخروج من هذه الحیاة، والخروج منها یجب أن یکون رغبة من المؤمن فی لقاء الله. فالمؤمن المحق لا یستطیع أن یعیش مع الظالمین أو أن یکیف دینه مع الحکومات الظالمة، فإذا قبل بها فإنما هی حیاة کلّها تعب ونکد وضنک. فالإمام (ع) کان یرى الشهادة شاخصة أمام عینیه وهذه الشهادة إنما هی رغبة للقاء الله. وإمامنا العظیم (ع) عندما لا یرى الموت إلّا سعادة ولا الحیاة مع الظالمین إلّا برما تستطیع أن تقرأ من خلال هذه الصورة، الصورة الحقیقیة لنفسیة هذه الأُمّة، والفساد الاجتماعی والانحطاط الخلقی والثقافی، والإعلام الإرهابی، وضیاع الشخصیة الإسلامیة "... وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائکم تفزعون، وذمة رسول الله محقورة، ... وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، کلّ ذلک مما أمرکم الله به من النهی والتناهی وأنتم عنه غافلون...". لقد خسرت الشخصیة الإسلامیة فی تلک الحقبة من التاریخ عزّتها بعد ما قطعت حبل عصمتها مع الله ورسوله، تلک العزّة التی بنى قواعدها وشید بنیانها طب القلوب ودواؤها، سید المرسلین، وإمام المتقین، أبو القاسم محمد (ص). فالإمام (ع) یُبیّن ضیاع هذه الشخصیة "... ألا ترون أنّ الحقّ لا یعمل به، وأنّ الباطل لا یتناهى عنه! لیرغب المؤمن فی لقاء الله محقاً، فإنی لا أرى الموت إلّا سعادة، ولا الحیاة مع الظالمین إلّا برما"[4]. وبالبیضة خطب الإمام (ع) أصحابه وأصحاب الحر بین یزید الریاحی – رضوان الله علیه – وکان أصحاب الحر فرقة من فرق الجیش التابع لحکومة یزید بن معاویة. فالشیء الذی یلفت الإنتباه هنا أنّ الإمام (ع) استفتح خطبته بقول رسول الله (ص) لأمرین: الأوّل: لإثارة إنتباه هذه الفرقة من الجیش بأنها تعطی الولاء والطاعة لحکومة ظالمة ولسلطان جائر. فعلیها أن تلتحق بأصحاب الإمام لأنّه هو ولی أمرهم وولی أمر الأُمّة الإسلامیة قاطبة وخلیفتهم وقائدهم، فإذا لم یستجیبوا فیکون الإمام قد أقام علیهم الحجة. الثانی: أنّ الحکم هنا حکم رسول الله (ص) فی رئیس الدولة المنحرف ومن یمده بالعون والمدد. "من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناکثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله (ص) یعمل فی عباد الله بالإثم والعدوان فلم یغیّر علیه بفعلٍ ولا قولٍ کان حقاً على الله أن یدخله مدخله"[5]. الخطاب هنا والکلمة لرسول الله (ص) والإمام (ع) یُبیّن لهذه الفرقة المسلمة صفات رئیس حکومتهم وأعوانه من حکام الجور "ألا وانّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشیطان وترکوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد، وعظلوا الحدود، واستأثروا بالفیء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله"[6].
أصدر الرسول (ص) حکمه فی السلطان الجائر لکن من استجاب لهذا الحکم من الأُمّة الإسلامیة فی ذلک العصر سوى الإمام الحسین (ع)؟ وبالأمس القریب ینادی رسول الله (ص) بالمدینة المنورة من ینزل إلى عمرو بن عبد ود العامری. الذی کان یمثل أعلى قمة الهرم فی الشِرک والإثم والعدوان بل کان فی قمة الاستعمار الجاهلی، فإذا بصوت یجلجل فی الآفاق مستجیباً لنداء رسول الله (ص) قائلاً: "أنا یا رسول الله" إنّه صوت الحق، صوت العدالة الإنسانیة، صوت أبی الحسن، أسد الله الغالب، علیّ بن أبی طالب (ع). ویستجیب لحکم رسول الله (ص) ابن رسول الله (ص) وابن إسماعیل (ع) وابن إبراهیم الخلیل (ع) الإمام الحسین (ع) قائلاً: "وأنا أحقّ من غیّر"[7]. وبعد أن ذکّر الإمام الحسین (ع) هؤلاء الناس بنکث بیعته وخیانتهم لعهد الله ومیثاقه قال (ع): "وسیغنی الله عنکم"[8]. ویقول ابن خلدون فی مقدمته: "وأما الحسین فإنّه لما ظهر فسق یزید عند الکافة من أهل عصره رأى انّ الخروج على یزید متعین من أجل فسقه"[9]. وقال: "فلا یجوز قتال الحسین مع یزید ولا لیزید بل هی من فعلاته المؤکدة لفسقه، والحسین فیها شهید مثاب وهو على حقٍّ واجتهاد". ورد ابن خلدون على القاضی أبی بکر بن العربی عندما أراد أن یسوغ قتل الإمام الحسین (ع) فی کتابه الذی سماه بالعواصم والقواصم: "بأنّه قد غلط وهو غلط حملته علیه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل، ومن أعدل من الحسین فی زمانه فی إمامته وعدالته فی قتال أهل الآراء"[10]. أما الحسن البصری المولود فی 12هـ والمتوفى فی 110هـ، فقد أعطى رأیه واضحاً وجلیّاً وبدون تردد عندما سُئل عن تنصیب یزید حاکماً على الأُمّة الإسلامیة[11]. أما عبد الرحمن بن أبی بکر ما أن سمع کتاب معاویة الذی قرأه مروان بن الحکم على الناس فی المسجد الذی یقول فیه إنّه عوّل على أخذ البیعة لابنه یزید حتى قال بعد ان هاجت الناس وماجت: "ما الخیار أردتم لأُمة محمد ولکنکم تریدون أن تجعلوها هرقلیة کلّما مات هرقل قام هرقل"[12]. أما الکاتب المصری عبدالقادر المازنی، وبعد حضوره ولأوّل مرة مجلس عزاء لأبی عبدالله (ع) فی بیت أحد العلماء الإیرانیین فی القاهرة عام 1936 ابتدأ یفکر فی مغزى ومقصد ثورة الإمام الحسین (ع) ضد یزید وحکومته وأخذ یتساءل بعد قراءته لمقال نشر فی جریدة English Review الذی یؤکد فیه کاتبه أنّ الإمام خاض هذه المعرکة مع یقینه وعلمه الحتمی بنتیجة المعرکة. فلماذا إذاً حمل الإمام الحسین (ع) عائلته معه فی هذه المرحلة الخطیرة بالذات؟ ویجاوب المازنی عن هذا السؤال بنفسه: بأنّ الإمام الحسین (ع) کان مخلصاً، مضحیاً بنفسه، نافذ البصیرة، وکان یدرک ضخامة قوة المعارضة التی ستواجهه والتی ستقف فی وجه حرکته الإصلاحیة، لکنه منذ أن کان یعتبر الحکومة الأمویة حکومة فاسدة، وکثائر شریف رأى أنّه مجبر على أن یعمل غایة ما یستطیع عمله.ولئن لم یستطع الإمام الإطاحة بالحکم فی ذلک الوقت، فإنّه فی النهایة نسف هذا الحکم وأطاح به. ولقد تبنّى یزید الغایة فی سیاسة العنف، واقتراف کلّ تلک الجرائم فی کربلاء، لکن الإمام الحسین (ع) نجح فی خلق حقد عمیق فی الناس ضد یزید، فقد غدت کلّ نقطة دم من دمه، وکلّ حرف من اسمه، وکلّ التماس من ذاکرته لغماً فجّر الدولة الأمویة من أساسها ونسفها نسفاً وقطعها إرباً[13]. وبعد مرور عشرین عاماً على نشر مقال المازنی تناول هذا البحث الکاتب المصری الکبیر عباس محمود العقاد فی کتابه "أبو الشهداء الحسین بن علیّ" شدد العقاد فیه على التناقض العمیق بین شخصیة الإمام الحسین (ع) وشخصیة یزید فیقول: "انّ التناقض کان أساساً بین مزاجین وبین نخوتین... ومن ثمّ بین رأیین، رأی یمثل الإمامة الدینیة ورأی یمثل الدولة الدنیویة"[14]. کانت ثورة الإمام الحسین (ع) نوراً ربانیاً أضاء للأُمّة الإسلامیة دربها الطویل عبر الأجیال فانبثقت منها ثورات اتخذت من ثورة الإمام الحسین (ع) نبراساً ومشعلاً تستلهم من نورها فریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، تلک الفریضة التی أنزلها الله فی فرقانه آیة محکمة فجسّدها ثورة على الجاهلیة الجهلاء والضلالة العمیاء، الذی دنى فتدلّى فکان من ربّه قاب قوسین أو أدنى، الحبیب المصطفى والرسول المجتبى محمد بن عبدالله (ص). فلما التحق صلوات الله علیه وآله بالرفیق الأعلى. سلّم رایتها إلى الذی ضرب بسیفین، وطعن برمحین، وهاجر الهجرتین، وبایع البیعتین، وقاتل ببدر وحنین، ولم یکفر بالله طرفة عین، أبی الحسنین علیّ بن أبی طالب (ع). فلما فاز بالشهادة، بلى ورب الکعبة، سلّم الرایة إلى شبیه المصطفى، الإمام الحسن المجتبى، الشهید المظلوم، سید شباب أهل الجنة، الذی سلّمها إلى أخیه الإمام الحسین (ع) فکان أبو عبدالله (ع) أبا الشهداء وکبش الفداء. ویأبى أبیّ الضیم أبو عبدالله (ع) أن یغمض عینیه عن رایة جده وأبیه وأخیه حتى قتل ابن فاطمة الزهراء وابن خدیجة الکبرى ظلماً وحزّ رأسه من القفاء، وسلب العمامة والرداء والتحق بالرفیق الأعلى والرایة مغسولة بدمه الشریف. فدم الإمام الحسین (ع) هو دم رسول الله (ص) ودم شهید المحراب علیّ ولی الله، ودم الحسن المجتبى قرة عین رسول الله، وتسقى الرایة بهذا الدم الزکی، وبدم أبی الفضل العباس الذی اعتلى بالفضل والکرامة والشهادة إلى سدة الإمامة، وبدماء أهل بیت النبوة، لأنّ هذه الرایة ودماء أهل بیت النبوة توأمان لا ینفصلان. ویبقى دم الشهید دم أبی عبدالله (ع) دمّاً حیّاً، نقیّاً، زکیّاً، ینبثق منه فکر الإمام الحسین (ع) ومنهجه السیاسی الدینی الذی ارتضاه الله لعباده من إقامة العدالة الإنسانیة واظهار الصلاح فی البلاد. "اللّهمّ إنّک تعلم أنه لم یکن ما کان منّا تنافساً فی سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولکن لنرد المعالم من دینک، ونظهر الإصلاح فی بلادک، ویأمن المظلومون من عبادک، ویعمل بفرائضک، وسنتک وأحکامک". | ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,777 |
||