هذا ما نفهمه من مقولة -القتل أولى من رکوب العار- | ||
بسم الله الرحمن الرحیم هذا ما نفهمه من مقولة -القتل أولى من رکوب العار-
قبل الحدیث عن أبعاد هذه المقولة ، وعلاقتها بحرکة کل مؤمن فی هذه المرحلة الصعبة والحساسة ، وقبل الحدیث أیضا عن الظروف المحیطة بصاحب هذه المقولة لحظة قوله مقولته ، لابد أن نعلم وندرک حقیقة أنّ القائل لهذه المقولة ، هو ذاک الرجل الذی یعیش فی داخله المسؤولیةَ فی أعلى مراتبها ومعانیها . لأنّه أولا : هو مسؤول وکذلک مُستَأمنٌ على دین المولى تعالى ، بنص من نبی الله محمد (صلى الله علیه وآله) ، حینما قال : ابنای هذان إمامان ، قاما أو قعدا " ، و ثانیا : هو مسؤولٌ أمام المولى تعالى على جمیع أفراد هذه الأمّة ، بلحاظ کونه إمامًا وخلیفةً بعد أخیه الإمام الحسن بن علی (علیه السلام). وهذا یُفِیدنا ، أنّه (علیه السلام) ، لم یقل مقولته نتیجةً لذاک الظرف المریر الذی کان یعیشه ، أو نتیجةً لشعوره الداخلی الذی لا یمکن أن یتحمّله قلب رجل ، بل إنّه عندما رفع صوته بهذه المقولة ، کان فی مقام تقریرِ وتحدیدِ التکالیف و المواقف التی تَفرضها قیم ومبادئ الإسلام الأصیل ، والتی تُوجِب على کل فردٍ من المؤمنین التَمسک بها ، مهما کانت قسوة وصعوبة الحالة التی هو فیها . وعلیه ، فکلامنا هنا سیدور حول ثلاثة نقاط أساسیة : النقطة الأولى : معنى المقولة وأبعادها . النقطة الثانیة : أبعاد الظرف الذی کان یعیشه (علیه السلام) حین قوله مقولته . النقطة الثالثة : المواضع و الحالات التی تَتَنَزَّلُ فیها هذه المقولة . فبدایة نقول : أنّ الکتب التاریخیة ( منها کتاب مقتل الحسین (ع) لأبو مخنف الأزدی ص 197 ، وکتاب مقتل الحسین (ع) لابن طاووس ص 70 ) التی رصدت واقعة کربلاء ، نقلت لنا مقولةً عظیمةً ، کان قد رفعها الإمام الحسین بن علی (ع) فی یومِ العَاشر من مُحرمِ الحَرَام ، بل فی الواقع هو موقفٌ اتخذه الإمام الحسین (ع) ، فی سیاقٍ ، غایة فی المسؤولیة . وهذه المقولة ، هی قوله (علیه السلام) : القَتْلُ أَوْلَى مِنْ رُکُوبِ العَارِ ـــــــــــــــــــ وَالعَارُ أَوْلَى مِنْ دُخُولِ النَّارِ فهنا نجد أنّ الإمام (ع) ، قدَّم القتل فی سبیل القضایَا المُحِقَّة الذی هو عینُ سبیل المولى تعالى ، على أن یَذلَّ ویستسلم لـــ " یزید بن معاویة " فیرکبه العار المترتّب على الخنوع والخضوع له ، ولکنّه أیضا قدَّمَ رکوب العارِ الذی سیترتَّب على ما سیحدث لنسائه وبناته من سَبْیٍ وتنکیلٍ على دخول النّار بسبب ترکه وتَخَلِّیهِ عن تأدیة التکلیف بجهاد الظالمین الظغاة ، الذی هو الآخر موجبٌ لغضب المولى تعالى . فالإمام (ع) یُقرِّرُ لنا الموقفَ الذی یجب على کلّ مُؤمن اتخاذه حین تَزَاحُمِ عناصر مقولته المذکورة " القتل ، والعار ، ودخول النّار " ، بل إنه یَرسُمُ ویُرتّبُ لنا هذه العناصر الثلاثة التی لا تخلوا منها حرکة المؤمنِ الجهادیة . فیُشیر (ع) إلى أنّه عندما یتزاحم لدى العبد المؤمن ، والإنسان الحر ، الموت والعار ، بحیث یکون مضطرًا لاختیار أحدهما دون الآخر ، یَلزَمُه حینئذٍ أن یُقدِّمَ الموت قتلا فی سبیل القضایا المُحِقَّة ، على أن یرکبه عارُ الذُلِّ و الإستِسلاَم . ولکن ، عندما یَتَزَاحَم رکوب العار مع دخول النّار ، الذی هو نتیجة حتمیة لتَحَقُّقِ غضب المولى تعالى على عبده لترکه التکالیف الشرعیة ، لا مجال للعبدِ المؤمنِ حینئذ أن یُقدِّمَ فی سُلَّمِ أَولَوِیَاتِه دخول النّار على رکوب العار . وعلیه ، فما یمکن أن نَفهمَه مِن هذا ، هو أنّ الثقافة والفکر الحُسَینی الجهادی ، المبنیان على المبادئ الحقة للإسلام المحمّدی ، لا تُقِرُّ ولا تعترف بتَقَدُّمِ شیء على طاعة ورضا المولى تعالى ، مهما کان لهذا الشیء من اعتبارٍ أو شأن . وهذا الترتیب الذی تضمّنه موقف الإمام (ع) ، و الذی نرى فیه أنّ طاعة المولى تعالى فی ما یرضیه متقدّمة على کل ماله اعتبار وقیمة فی هذه الحیاة الدنیا ، یتعارض تماما مع ما علیه باقی المدارس بمختلف مشاربها ، وأیضًا هو مخالفٌ لما هو مرتکزٌ فی ثقافة الکثیر من المسلمین، والتی یُعبّر عنها مقولة " عنتر ة بن شدّاد " فی قصیدته المعنونة بـــــــ " حَکِّم سُیوفَکَ فی رِقابِ العُذَّلِ " حینما قال : ماءُ الحَیاةِ بِذِلَّةٍ کَجَهَنَّمٍ ــــــ وَجَهَنَّمُ بِالعِزِّ أَطیَبُ مَنزِل والتی تُقَدّم القتل على الذلّة والعار ، لأنّ الحیاة مع الذلّة فی نظره جهنّم ، وکذلک یرى أنّ العزّةَ -المقابلة للذلّة - وإن کانت مصاحبةً لجهنّم فهی أطیب المنازل . وعلیه ، فعنترة ومَن یَتبنَّى مقولته یجعلون العزّة فی مقدّمة سُلَّم اهتماماته ، ولا یتقدّمها حتى طاعة ورضا المولى تعالى ، بینما نجد الإمام الحسین (ع) یعلّم المؤمنین ، أنّ العزّةَ فی الدنیا إذا استوجبت جهنّم وغضب المولى تعالى ، لا تتقدّم على ذلّةِ وعارِ الدنیا أبدا . أمّا لو عدنا للظرف الذی مرّ به و کان یعیشه الإمام الحسین (ع) حین قال مقولته ، سینکشف لنا مصداقًا من البلاء الذی لا یمکن وصفه إلاّ بکونه عظیمًا، لأنّه مهما بلغ بنا نحن البلاء من درجاتٍ عالیة ، لا یمکن أن یصل لتلک الدرجة التی عاشها الإمام الحسین (ع) فی کربلاء . فدرجة البلاء التی بلغها الإمام الحسین (ع) ، تُزیل صفة الشرعیة والواقعیة من کل المبرّرات التی یمکن أن توجِدها النّفس البشریة ، من أجل الاستناد علیها فی الهروب من مواجهة المخاطر المترتّبة على تأدیة التکلیف الشرعی فی الدفاع عن القضایا المحقة وعن المستضعفین فی الأرض ، قربةً لله عزّ وجل وامتثالا لأوامره . فنحن وعندما نستقراء أصناف ما تعرّض له الإمام الحسین (ع) من البلاء ، ثمّ نعمل على مقارنته بما نحتمل أنّنا سنتعرض له فی مواجهتنا لأعداء الأمّة والإنسان ، وکذلک ما یمکن أن یترتّب على مواجهتنا من نتائج سلبیة علینا وعلى أهلینا ، سنجد الفارق بین ما عاشه الإمام (ع) وبین ما سنواجهه نحن شاسعٌ ، بل إنّ ما یُحتَمَل أن نواجهه نحن لا یکاد یکون ذا قیمة أمام ما مرّ به وما عاشه إمامنا وقدوتنا الحسین بن علی (ع). فصعوبة الظرف وحجم البلاء الذی مرّ به الإمام الحسین (ع) قبل قوله مقولته ، لم یتحقّق مِثلَه وبشدَّتِهِ لأَحَدٍ من البشریة عبر تاریخ الإنسانیة فی صراعها مع الظلم والطغیان . فرجل مثله وَاجَه الغدر فی أبشع صوره ، وکذلک عاش الخذلان من أبناء الأمّة رغم اقرارهم بمکانته الدینیة وقرابته من الرسالة المحمدیة ، ورجل مثله تجرّع غُصَص التنکیل به وبأطفاله ونسائه وأهل بیته وأصحابه ، حتى مُنِع عنهم ماء الحیاةِ لأیام فی الصحاری القاسیة ، ورجلٌ مثله کان یشاهد بأُمّ عینه ، کیف أنّ أصحابه وأبناءه مع أبناء أخیه وقرابته ، یتساقطون مضرجین بالدماء الواحدَ تِلوَ الآخر ، ثم نجد أنّه کان یعلم ویدرک ما ستواجهه نسائه وبناته من سَبْیٍ وتنکیلٍ و تعذیبٍ مِن بعد رحیله عنهم ، فرجل یعیش کل تلک الآلام الشدیدة وکل تلک الأوجاع المقیتة ، ثمّ یقف وحیدًا فی مواجهة الآلاف ، وهو یرتجز بهذه المقولة . فأمام مثل هذا الظرف ،وأمام مثل هذا الإمام ، لا یمکننا إلاّ أن نقول : أنّ ما مرّ به الإمام الحسین (ع) ، لهوَ حجّةٌ واضحةٌ على کل من ینساق وراء المبرّرات النفسیة الواهیة ، للهروب من تأدیة تکالیفه الشرعیة . ومن هنا نتمکن من فهم الموارد والحالات التی تَتَنزل فیها هذه المقولة ، لتَکُون موقفًا دافعًا لنا نحو الإنسجامِ مع ما یقتضیه التکلیف الإلهی ، وبالتالی نکون متوافقین مع ما یریده المولى تعالى لعبده المؤمن . فالسیاق الذی جاءت فیه مقولة " القتل أولى من رکوب العار * والعار أولى من دخول النّار " والظرف الذی تولّدت فیه هذه المقولة ، یکشف لنا أولا : أنّ صاحب المقولة (ع) لمیَقُل ما قاله لتصبح هذه المقولة عبارةً عن شعارٍ یُرفع فی المناسبات الخاصة به ، وثانیّا : لم یتحمّل ما تحمّله لتُنَزَّل هذه المقولة فی کل الموارد کیفما اتفق ، بل حجم البلاء الذی تحمّله إمامنا الحسین (ع) ، یُعْلِمنا بوضوحٍ أنّ هذه المقولة قیلت لتکون موقفًا فی أشدّ حالات البلاء والإمتحانات ، وأکثر الظروف ألمًا ووجعًا . وخلاصة کل هذا أمران : الأول : أنّ هذه المقولة متعلّقة بالدرجة الأولى بأصعب وأشدّ الحالات و المواقف التی یمکن أن یتعرّض لها العبد المؤمن فی حرکته الجهادیة فی الدفاع عن الدین والأرض والعرض ، وبالتالی فمهما اشتد وصعب الظرف الذی نواجهه أثناء حرکتنا الجهادیة لابد أن یکون موقفنا مطابقًا لمفادِ هذه المقولة حین مواجهة العدو ، کما هو الحال فی أیامنا هذه مع تلک الدول المستکبرة الطامعة والجماعات التکفیریة الظلامیة . الثانی : أنّ الموقف الذی یجب على المؤمن اتخاذه حین مواجهة العدو ، وعندما یتزاحم موته مع الذلّة ورکوب العار ، علیه أن یقدم ویختار الموت على الذلّة ورکوب العار ، ولکن عندما تتزاحم الذلّة ورکوب العار مع غضب المولى تعالى ودخول النّار ، فموقف العبد المؤمن هو أن یختار الذلّة والعار على أن یُغضب الله علیه ، وبالتالی یُسْتَوجب علیه دخول النّار ، لأنّه وکما هو معلوم من نصوص أخرى ، أنّ الذلّة والعار فی سبیل الله عزّ وجل ، وفی سبیل طلب رضا المولى تعالى هو فی الواقع عزّة وفخر ، لا ذلّة وعار کما تعتبره النفس البشریة . والحمد لله ربّ العالمین
الکاتب / السید حبیب المقدم
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,138 |
||