انتصار الثورة النوویة | ||
حسن حیدر تحتفل إیران فی الأعوام المقبلة بذکرى انتصارها النووی، على بعد أسابیع من احتفالها بذکرى انتصار الثورة.. إیران التی کافحت لأکثر من ثلاثة عشر عاماً، لتنتزع حقاً مشروعاً بالطاقة النوویة تعیش اللحظات الأخیرة قبل نشوة الانتصار، بعدما کرّست نفسها قوة نوویة باعتراف دولی، وبعدما واجهت مختلف أنواع العراقیل.. ولکنها، مع ذلک، تعلم أن ما تشهده الیوم، هو طیّ صفحة من نزاع، وفتح صفحة جدیدة فی کتاب الصراع الدائر بین الشرق والغرب. عندما بدأ النظام الشاهنشاهی، بدعم أمیرکی ــ فرنسی ــ ألمانی، ببناء مشروع نووی طموح، کان المحرّم الیوم مباحاً إلى أقصى الحدود.. وعندما سقط الشاه الذی فرّ فی مثل هذه الأیام من إیران، قبل أکثر من ثلاثة عقود ونیّف، سقط معه الحلم النووی الإیرانی. إیران دخلت، بعدها، مرحلة الحرب المفروضة مع العراق، دُمرت البنى التحتیة وقُصفت المنشآت النوویة فی بوشهر ــ یقال إنها قُصفت بإحداثیات أمیرکیة وطائرات فرنسیة ــ فتوقف المشروع إلى أن وضعت الحرب أوزارها، وتوفی مؤسس الثورة الإمام الخمینی.. تسلّم زمام ولایة الفقیه آیة الله علی خامنئی، بالتوازی مع انتخاب الشیخ أکبر هاشمی رفسنجانی رئیساً للبلاد.. فی ذلک الوقت، سأل صحافی أمیرکی رفسنجانی، فی مقابلة تلفزیونیة: "لماذا تریدون طاقة نوویة ولدیکم هذا الاحتیاط الهائل من النفط؟”، فردّ: "لماذا سمحتم للشاه ببناء المفاعلات بوجود النفط، وتحرّم على إیران الثورة؟”. سکت الصحافی، لیستدرک رفسنجانی قائلاً: "کیف تطلب منا أن لا نعادی إدارتکم؟”. واصلت إیران مشروعها النووی، وحاولت واشنطن الکثیر لعرقلته سریاً، لتستعین بالمعارضة الإیرانیة فی الخارج عام 2003، التی أعلنت برنامجاً نوویاً شکّل الحجة الأساسیة لشن حرب، استعملت فیها کافة أنواع الأسلحة، إلا الناریة. دخلت الترویکا الأوروبیة على الخط، وفاوضت حکومة الرئیس الأسبق محمد خاتمی، الذی کلّف أمین المجلس الأعلى للأمن القومی حسن روحانی إدراة الملف.. أقفلت إیران کافة أنشطتها على وقع الحرب فی أفغانستان والعراق، ولم یُسمح لها بتشغیل جهاز طرد مرکزی واحد، ثم حصل اتفاق سعد أباد، وتلاه اتفاق باریس وبروکسل. انتهت ولایة الرئیس محمد خاتمی. هنا کان لآیة الله خامنئی کلمة الفصل، طلب من خاتمی إلغاء الاتفاقیة بأکملها قبل انتهاء ولایته، فردّ خاتمی بالقول إن الانتخابات أفرزت رئیساً جدیداً، هو محمود أحمدی نجاد، ویمکنه إلغاء الاتفاقیات، لکن المرشد الأعلى رفض، وأخبر الحکومة بضرورة فضّ الأختام واستئناف النشاط النووی، لأن حکومة خاتمی هی التی وقعت الاتفاق، وهی التی یجب أن تلغیه.. قبل یومین من تسلم نجاد مقالید الحکم، أصدرت الحکومة قراراً بفک الأختام کافة واستئناف النشاط النووی. القرار الإیرانی برلمانیاً وسیاسیاً، وعلى مستوى المرشد الأعلى، کان بعدم وضع عوائق أمام التطور النووی، لکن إعلان رفض القنبلة الذریة وحرمة استخدامها وإنتاجها دینیاً، کلام لم یُقنع الغرب.. دخلت السداسیة الدولیة مکان الترویکا الأوروبیة، وبدأت مراحل التفاوض على وقع العقوبات والرد الإیرانی علیها، فزادت أعداد أجهزة الطرد المرکزی من 300 إلى الآلاف، وارتفع حجم الیورانیوم المخصب، کذلک فُعِّل العمل بمفاعل آراک للمیاه الثقیلة.. ردّ الغرب بمزید من العقوبات، وهُدّدت طهران بالضربات الجویة، فکشفت عن منشأة "فردو” فی محافظة قم، محصنة فی باطن الأرض.. طالبت إیران تزویدها بالیورانیوم المخصّب بنسبة عشرین فی المئة للاستخدام الطبی، لکن الغرب رفض، فقامت الجمهوریة الإسلامیة بإنتاجه.. حینها کان الرد عبر اغتیال العلماء الإیرانیین، الذین أسهموا فی تحقیق هذا الإنجاز. دخلت روسیا على خط الأزمة، وقدمت اقتراح العمل "خطوة بخطوة”، فکان بدایة لکسر حاجز التصعید فی المفاوضات والدخول فی مرحلة "خذ وأعطِ”، والقبول باقتراح وقف إیران لتخصیب الیوارنیوم بنسبة عشرین فی المئة مقابل رفع بعض العقوبات، وهی المرحلة التی أنهاها المفاوض سعید جلیلی، والتی شکلت بدایة کرة الثلج التی استکملها العهد الرئاسی الجدید بتسلیم محمد جواد ظریف ملف التفاوض، وما تلاه من مفاوضات وصلت إلى خواتیمها، باعتراف دولی بإیران نوویة. یعنی التفاوض أن تقدّم شیئاً وتخسر شیئاً آخر، وعلى هذا الأساس کانت صیغة الرابح الرابح.. فقد اعتبر کل طرف أن ما قدمه للطرف الآخر یمکن تعویضه فی مکان آخر، وبالتالی لعب الصبر دوراً فی عملیة کشف النیات، التی من الصعب أن تظهر حتى بعد تنفیذ الاتفاق، خصوصاً أن کل طرف یعتقد أنه أثبت وجهة نظره ویضحک فی سرّه، لیبقى المهم أن هذا الاتفاق قد أُنجز. الجمهوریة الإسلامیة کانت تسعى، منذ الیوم الأول، إلى سحب ملفها من مجلس الأمن وإعادته إلى أدراج الوکالة الدولیة للطاقة الذریة، وهی أثبتت أن ملفها النووی کان مسیَّساً بامتیاز.. واشنطن کانت تعرف أن طهران تعید تطویر برنامجها النووی، قبل عام 1998، وسعت إلى عرقلته، ولکنها فشلت، فبقیت صامتة لأن الجمهوریة الإسلامیة ــ التی صُنّفت ضمن محور الشر من قبل الرئیس الأمیرکی السابق جورج بوش ــ "ساعدتها" فی حرب أفغانستان والعراق.. وعندما شعرت الولایات المتحدة بأنّ إیران أصبحت "مؤذیة” لوجودها فی المنطقة، صعّدت ضدها لإخضاعها، وبقی الحال على ما هو علیه، إلى أن شعرت واشنطن بأنها بحاجة إلى طهران فی المنطقة. استغل الإیرانی هذه الحاجة الأمیرکیة، وسارع خلال السنوات الماضیة إلى توسیع نشاطه النووی إلى حدّ جعل منه أمراً واقعاً.. ورغم أن واشنطن حاولت ضرب الداخل، بدعم المعارضة فی أحداث عام 2009، إلا أن الأزمة بقیت عابرة، مع کل ما خلفته من خسائر وتجارب.. فضلاً عن ذلک، تبیّن أن الحصار الاقتصادی على إیران، مع أنه ضرب فی الصمیم، إلا أنه لم یوقف الاندفاعة الإیرانیة فی ضرب السیاسات الأمیرکیة فی العراق وسوریا وأفغانستان، بالدرجة الأولى. کذلک اتضح لواشنطن، عبر مراکز الدراسات والتجربة، أن البعد العقائدی والإیدیولوجی للشعب الإیرانی، إضافة إلى التعصب العرقی، لن یؤدی إلى إرکاع إیران.. ولهذا الأمر شواهد تاریخیة، أبرزها "ثورة التنباک”، عندما قدم الشاه القاجاری ناصر الدین شاه امتیازات الدخان إلى شرکة بریطانیة، فصدرت فتوى دینیة من المرجع الشیرازی حرّم استخدامه، ما دفع زوجة الشاه ناصر الدین إلى عدم تقدیم "النرجیلة” لزوجها، وهو ما أدى إلى إلغاء الاتفاقیة. یمکن القول إن الحصار الاقتصادی حقّق نجاحات بضرب العصب التجاری الإیرانی، لکنه دفع إیران إلى معرفة مکامن ضعفها التی استهدفتها العقوبات، وعملت على ترمیمها والالتفاف علیها. رفع العقوبات المالیة والاقتصادیة، فی بلد حُرم لسنوات الحراک الاقتصادی العالمی، سیعنی سوقاً جاذبة للاستثمارات الأجنبیة، وسیعید إحیاء التبادل التجاری، مع العلم بأن إیران تدرس بتمهل کافة العروض المقدمة، منعاً لأن یصبح السوق استهلاکیاً أو مرتبطاً بالخارج، فلا یتحمل أی خضة اقتصادیة.. لذا، کان العمل على انتقاء الاستثمارات الآمنة، وبالتالی فرض شروط على بعض الشرکات بأن تنتج فی إیران، وأن تصدّر منتجاتها إلى الخارج منعاً لإغراق السوق الإیرانیة بها.. لکن الکثیر من الخبراء الاقتصادیین لا یرون انفراجة اقتصادیة فی المدى المنظور، فیما الحدیث عن صدمة اقتصادیة إیجابیة، بوصول 30 ملیار دولار من الأموال المجمّدة، یبقى موضوعاً له تأثیر نفسی على السوق وأسعار الدولار.. فالاقتصاد الإیرانی بحاجة إلى أکثر من عام لتجاوز مرحلة الرکود، التی وقع فیها فی ظل انخفاض أسعار النفط عالمیاً. قد یکون البعد السیاسی العامل الأکثر تفاعلاً مع الاتفاق. فإیران التی وقفت فی وجه الغرب لأکثر من عقد من الزمن، تهدیداً ووعیداً وحروباً بالوکالة وحصاراً وعقوبات، دفعت الآخرین إلى دعوتها للمشارکة فی حل أزمات تُتهم هی بدعم بعض أطرافها. بالمحصلة، طهران التی کانت جزءاً من الأزمة تحولت إلى شریک فی الحل. وهنا لا یمکن الحدیث عن المال السیاسی، الذی تقدمه إیران إلى حلفائها، بل عن الجهد السیاسی، المدعوم بعناصر بشریة على الأرض، استطاعت قلب الموازین.. القوة هی التی تجرّ السیطرة، وحالیاً المحور الذی تقوده إیران بمشارکة قوى إقلیمیة ممانعة، سیکون له التأثیر الأکبر. إیران، فی الوقت الراهن، استطاعت أن تکسر ملیارات البترودولار على الأرض، وما یهم الجمهوریة الإسلامیة هو الحفاظ على المکتسبات، لأن التجربة أثبتت لها، خلال سنوات الحصار، أن المال لا یمکن أن یصنع انتصاراً، بل العقل والصبر والإدارة الصحیحة، بأقل إمکانیة ممکنة، تصنع القوة.. وهذا ما یترجَم فی کافة المحاور التی تدعمها إیران، من أفغانستان والعراق إلى سوریا ولبنان وفلسطین، وصولاً إلى الیمن. قد یسجل التاریخ للرئیسین الأمیرکی باراک أوباما والإیرانی حسن روحانی أنهما توصلا إلى اتفاق تاریخی، لکن الجدل الحاصل کان على مسلّمات یعرف الجمیع أنها محقة، ولکن یراد لها أن تکون ورقة ضغط لحل أزمات أخرى. لن تشهد العلاقة بین طهران وواشنطن بزوغ فجر جدید، لأن المعرکة الدائرة لیست معرکة أجهزة طرد مرکزی ولا یورانیوم ولا میاه ثقیلة ولا حتى قنبلة نوویة.. إنها حرب استقلالیة ترى فیها أمیرکا کبریاء إیرانیة یعاکسها فی کافة الاتجاهات، ومن یعرف العقلیة الإیرانیة یمکنه أن یدرک أن لا اتفاقات إضافیة، ومحادثات قریبة مع الأمیرکیین فی ملفات المنطقة. ستکون للاتفاق النووی ترجمات إقلیمیة، لکن العلاقة مع الولایات المتحدة لن ترقى إلى ما تصبو إلیه واشنطن، فطهران تعلم أن ما قدمته أمیرکا من تنازلات على طاولة المفاوضات ستعود لأخذه، حتماً، فی أماکن أخرى، وما نشهده الیوم، هو طیّ صفحة من نزاع، وفتح صفحة جدیدة فی کتاب الصراع المستمر، بین الشرق والغرب.
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,792 |
||