الإسلام وثقافة الأمل | ||
الإسلام وثقافة الأمل الشیخ حسین الخشن
وإذا کان الیأس لیس أمراً جدیداً فی ابتلاء الإنسان به، بل عرفته البشریّة منذ القدم، إلاّ أنّ الجدید فی المسألة هو انتشار حالة الیأس والاحباط وتحولّها إلى ظاهرة، کما أننا نلاحظ دخول عنصر جدید على العناصر المسببة للیأس، ألا وهو الخطاب الدینی المنفّر، فإنّ هذا الخطاب لم یساهم فی إبعاد الإنسان عن الدین فحسب، بل أسهم فی تحویل الدین نفسه إلى عامل توتر وقلق. إنّ الدین الذی کان على الدوام یشکّل خشبة الخلاص للإنسانیة غدا مشکلة حقیقیة! ومن هنا یجدر بنا أن ندرس هذه الظاهرة ونتعرّف على أسبابها وآثارها السلبیّة على الفرد والمجتمع. 1- الیأس وآثاره السلبیة الیأس فی الحیاة هو واحد من أخطر الأمراض التی تفتک بالإنسان فتشل إرادته وتنعکس على صحته الجسدیّة والنفسیّة، وتؤثر على علاقاته مع الآخرین، سواءً فی الدائرة الصغیرة، أعنی دائرة الأسرة، أو فی غیرها من الدوائر الاجتماعیة.
وإننا نلاحظ أنّ الإنسان الیائس لسبب أو لآخر قد یدفعه یأسه إلى الانتحار، وربما یقتل زوجته وأولاده معه، لأنّه لا یرید لهم – بزعمه - أن یعیشوا القهر والمعاناة، وقد یدفع الیأس البعض الآخر من الیائسین إلى ارتکاب شتى الجرائم والاستخفاف بحیاة الناس والاستهانة بحقوقهم. کما أنّ الیأس قد یدفع بعض الناس إلى الکفر بالله تعالى والشکّ فی عدالته أو حکمته أو قدرته! هذه بعض سلبیات الیأس وآثاره المدمرة.
2- أسباب الیأس: وأسباب الیأس کثیرة: 1- فالفقر هو أحد هذه الأسباب الرئیسة التی تدفع الفقیر إلى حضن الیأس والإحباط، حیث ترى الفقیر یرکض وراء لقمة العیش وهی ترکض أمامه، نتیجة الغلاء والاحتکار وسیاسة الإفقار والاستغلال. 2- ومن الأسباب التی تدفع نحو الیأس: فشل التجربة، أو عدم وصول المرء إلى تحقیق مبتغاه ورغباته وآماله، فالمرأة التی لا یتیسر لها الزواج أو تفشل فی تجربة زوجیّة معینة، فإنّ ذلک قد یدفعها إلى الیأس دفعاً، فتعیش حیاتها محبطة بائسة یائسة، وهکذا الکثیرون ممن یفشلون فی الوصول إلى ما یطمحون إلیه، فإنّ فشلهم ینعکس بأساً وإحباطاً علیهم. 3- والظلم أیضاً هو من جملة أسباب الیأس، وبالأخص فی صورة عدم وجود نظام یحقق العدالة الاجتماعیّة، ویمکّن المظلومَ من أخذ حقه من الظالم، فإنّ ذلک قد یدفعه إلى أن یعیش حیاته یائساً محبطاً، أو یدفعه ذلک إلى الانتقام والعدوانیة.. 4- وهکذا فإنّ ابتلاءات الحیاة الأخرى، من فقد حبیب أو عزیز أو معیل، أو خسارة مال ثمین، أو تفکّک أسری.. قد تدفع بعض الناس إلى حضن الیأس.
3- الیأس الفردی والاجتماعی والیأس تارة یقف عند حدود الفرد فیشلّ إرادته ویُفْقِده توازنه، وأخرى یتعدى ذلک فیکون یأساً اجتماعیاً، ولو وقف الیأس عند حدود الفرد ولم یَسْرِ إلى المجتمع فإنّ الخطب - رغم صعوبته - یبقى هیناً، فإنّ الفرد الذی تواجهه بعض المشاکل وتعترضه بعض المحن والفتن فیقع أسیر الیأس، قد یستطیع المجتمع إذا کان بخیر أن ینتشله من هذا الجو أو یخفّف من نتائج حالة الیأس عنده، وأما إذا بلغ المجتمع نفسه حدّ الیأس نتیجة انسداد آفاق التغییر على الصعید السیاسی أو الاقتصادی أو الاجتماعی فستکون المصیبة أدهى وأمرّ، لأنّ مجتمعاً هذه حاله لن یتسنى له النهوض ولا الإبداع ولا التقدّم. وغنیّ عن البیان أنّ المجتمع الیائس هو: أولاً: موئل خصب لکلّ الأمراض، من الانتحار إلى التعدّی والقتل والسرقة، إلى التفکک الأسری والتفلت الأخلاقی. ثانیاً: هو مجتمع مهزوم ومتفکک داخلیاً، ولا یمکنه مواجهة التحدیات الخارجیة، الأمر الذی یفرض علینا ونحن نعدّ العدة لمواجهة العدوان الخارجی أن نعمل بادىء ذی بدء على تحصین المجتمع من الداخل وأن نبثّ فیه ثقافة الأمل والحیاة.
4- الإیمان والأمل فی مواجهة هذه الحالة المَرَضِیّة (حالة الیأس) قد یحتاج الأمر ولا سیما فی علاج حالة الیأس الفردی إلى الرجوع إلى أهل الخبرة من المتخصصین النفسیین أو غیرهم، فی سبیل معالجة بعض الآثار السلبیة التی یترکها الیأس على الفرد، ولا شکّ أنّ التوجیهات التربویّة والدینیّة والإجتماعیّة تنفع کثیراً فی هذا المجال وتستطیع أن تؤمّل الإنسان الیائس وتفتح أمامه أبواب الأمل، بما یعینه على مواصلة رحلة الحیاة. ولکنْ ثّمة علاج من نوع آخر لحالة الیأس على الصعیدین الفردی والاجتماعی یجدر بنا لفت النظر إلیه، وربّما شکّل عامل وقایةٍ من الیأس ولیس علاجاً فحسب، وهذا العلاج ینطلق من صلب العقیدة الإسلامیة، وذلک من خلال الارتباط الفاعل بالله تعالى والتسلیم المطلق له والإیمان بقضائه وقدره، فإنّ الإیمان بالله تعالى لیس مجرّد شعارات نرفعها ولا طقوس نؤدیها، بل إنّ الإیمان الحقیقی یجعلک تعیش الاطمئنان والتسلیم فی مواجهة الخطوب، وتشعر أنّ الله تعالى دوماً إلى جانبک {لا تحزن إنّ الله معنا} [التوبة 40]، وأنّه تعالى لا یتخلّى عنک أبداً {ألیس الله بکافٍ عبده} [الزمر36]، وأنّ کلّ ما یواجهک فی الحیاة فهو فی عین الله تعالى، {قل لن یصیبنا إلاّ ما کتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فلیتوکّل المؤمنون} [التوبة 51].
إنّ الإیمان الحقیقی سیجعل المؤمن یستعذب الآلام والصعاب ویتغلّب علیها، ولا یسمح لها بأن تُسقط إرادته، ولذا نرى أنّ الیأس أکثر ما یستحکم فی نفوس الذین لا یؤمنون بالله تعالى أو فی نفوس ضعاف الإیمان، فالإنسان الملحد – مثلاً – وعلى عتبة أی مشکلة مصیریة تواجهه قد یشعر بالیأس وتفقد حیاته معناها، وتغدو حیاة عبثیّة غیر ذات قیمة بالنسبة إلیه، وأمّا المؤمن بالله تعالى وبحکمته تعالى وأنه لا یفعل عبثاً، فإنّ إیمانه سوف یحصّنه ویحمیه من کلّ ذلک. وهکذا فإنّ الإیمان بالیوم الآخر، یوم العدالة، یوم الجزاء الأوفى، یوم السعادة فی رضوان الله، هو الآخر عامل مساعد على بثّ روح الأمل فی نفس الإنسان المؤمن، لأنّه حتى لو تعرّض فی هذا العالم للظلم والقهر أو فاتته بعض الرغبات أو واجهته بعض الصعاب فإنّ ذلک کلّه هو بعین الله، وإذا لم یُقَدِّر الناسُ معروفَک فإنّ الله لا یضیع عنده شیء، قال تعالى: {إنّا لا نضیع أجر من أحسن عملاً} [الکهف 30]، ولسوف یعوّضنا یوم القیامة عن کلّ هذه الآلام، {وما عند الله خیر وأبقى أفلا تعقلون} [القصص 60]. ولا یقتصر الدور الإیجابی للإیمان على التأمیل الأُخروی، فالإیمان یمنحنا أملاً فی هذه الدنیا أیضاً وقبل یوم الحساب، وذلک من خلال الوعد الإلهی بتمکین العباد المؤمنین فی الأرض، قال تعالى: {وعد الله الذین آمنوا منکم وعملوا الصالحات لیستخلفنهم فی الأرض کمااستخلف الذین من قبلهم ولیمکنن لهم دینهم الذی ارتضى لهم ولیبدلنهم من بعد خوفهم أمناً یعبدوننی لا یشرکون بی شیئاً ومن کفر بعد ذلک فأولئک هم الفاسقون} [النور 55]، وهذا هو ما تعنیه عقیدتنا بالمهدی المنتظر(ع) والمخلّص الموعود، فإنّ عقیدتنا هذه هی عقیدة یفترض أن تبعث الأمل فی النفوس وتحفّز الإنسان المستضعف على العمل والاستعداد، لا أن تدفعه إلى الیأس أو الاحباط، وقد تنبه بعض الباحثین العرب[1]، إلى الدور الذی أسهمت به عقیدة المهدویة فی إبقاء التشیّع مذهباً حیّاً وفاعلاً رغم الصعاب التی واجهت أتباعه ورغم التهدید والوعید والظلم الذی تعرضوا له على مرّ التاریخ. وانطلاقاً من هذا الرابط التنافری بین الإیمان والیأس ومن أنّ العقیدة لها دور فی مواجهة ثقافة الیأس فقد اعتبر القرآن الکریم أن الیأس هو علامة الکفر، قال تعالى: {إنّه لا ییأس من روح الله إلا القوم الکافرین} [یوسف 87]. وقال سبحانه: {ولئن أذقنا الإنسان منّا رحمة ثم نزعناها منه إنّه لیؤس کفور} [هود 9]. وهذا الربط القرآنی بین الیأس والکفر مردّه إلى أنّ الإنسان الیائس هو إنسان لا یمتلک الثقة بالله تعالى ولا یحسن الظنّ به، بل ولا یعرف تعالى حق معرفته، وربّما دفعه یأسه إلى الاعتراض على الله تعالى والتشکیک بحکمته وقدرته.
5- الإسلام دین الأمل وإنّ التعالیم القرآنیة ووصایا النبیّ الأکرم (ص) والأئمة من أهل البیت(ع) قد أکدّت على أهمیة أن یظلّ الإنسان متفائلاً بالخیر متأملاً بالأفضل، فإذا مرض فلا یسقطه المرض، بل یتأمل الشفاء، وإذا کان فقیراً فلا یحبطه الفقر بل یظلّ یأمل انفتاح أبواب الرزق وتغیّر الحال إلى الأحسن، وإذا واجهته بعض التحدیات والأمور المخیفة فلا ینهار أمام أسباب الخوف، بل یحاول أن یتمسّک بحبل الله تعالى وبذکره، فیمنحه ذلک الأمن والأمان.. ویعطینا القرآن الکریم نموذجاً رائعاً عن الأمل الذی عاشه نبیّ الله یعقوب (ع)، فإنّه ورغم طول غیبة یوسف (ع) عنه دون أن یعرف عنه شیئاً ظلّ متمسکاً بحبل الأمل، وقال لأولاده: {یا بنی اذهبوا فتحسسوا من یوسف وأخیه ولا تیأسوا من روح الله إنّه لا ییأس من روح الله إلا القوم الکافرین} [یوسف 87]. وفی الحدیث عن رسول الله (ص): "الأمل رحمة لأمتی، ولولا الأمل ما أرضعت والدةٌ ولدها ولا غرس غارس شجراً"[2]. فالأمل هو الذی یعطی الحیاة معناها، ویمنح الإنسان حوافز الاستمرار والبقاء، وقد أجاد الطغرائی فی التعبیر عن هذا المعنى فی لامیّة العجم:
أُعلّل النفسَ بالآمالِ أرقِبُهَا ما أضیقَ العیشَ لولا فسحةُ الأَمَلِ
وفی الخبر أنّه بینما عیسى بن مریم جالس وشیخ یعمل بمسحاة ویثیر بها الأرض فقال عیسى:اللهم انزع عنه الأمل، فوضع الشیخ المسحاة واضطجع فلبث ساعة، فقال عیسى: اللهم أرددْ إلیه الأمل، فقام فجعل یعمل"[3].
وفی ضوء ما تقدّم، فإنّ علینا ومن منطلق إیمانی لیس أن نعیش الأمل فحسب، بل وأن نعمل على بثّ ثقافة الأمل فی النفوس، ولا سیّما فی هذه المرحلة من تاریخ أمتنا حیث إنّ أسباب الیأس والإحباط کثیرة. إنّ علینا أن نعیَ جیّداً أنّ هذا الدین کلّه رحمة وأمل وعدل، وأنّ انتماءنا إلى هذا الدین یحتّم علینا أن نکون دعاة ومبشّرین بثقافة الأمل. ومن التعالیم الرائعة التی یوصینا بها الرسول الأکرم (ص) - بحسب الروایة - أنّه إذا دخل الشخص على المریض عائداً فیجمل به أن یؤمّله بالحیاة، لا أن یتحدّث معه بطریقة تشعره وکأنّه میّت فی هذا المرض ولا أمل له بالنجاة ولا فرصة له فی الحیاة ، کما قد یفعل البعض عندما یقول للمریض: "لا تحزن فکلّنا على هذا الطریق أو کلّنا میّتون"، وربّما یتأفف البعض أمام المریض وتبدو علیه الصدمة والتأثر ما یزیده هماً على هم، ففی الحدیث عن أبی سعید الخدری قال: "قال رسول الله (ص): إذا دخلتم على المریض فنفّسوا(وسعوا) له فی الأجل، فإنّ ذلک لا یردّ شیئاً وهو یطیّب النفس"[4].
6- فقد الأمل بالدین! ما تقدّم کان حدیثاً عن حالة الیأس التی تواجه الإنسان فی هذه الحیاة، وهو یأس من الحیاة نفسها، وهو ناشئ إمّا من إحساس الإنسان بالملل وعدم الجدوى من هذه الحیاة، وإمّا من الفشل الذی یواجهه فی حیاته فیصاب بالاحباط ویشعر بعدم إمکانیة التغییر، ولکن هناک أشکال أخرى من الیأس تصیب الإنسان وهی لا تقل خطورة عن الیأس المشار إلیه، وفیما یلی أتحدّث عن نوعین آخرین من الیأس وهما: أ- الیأس من الدین. ب- الیأس من رحمة الله وعفوه. أمّا الیأس من الدین فهو دون شکّ من أخطر أنواع الیأس التی یلزمنا العمل على مواجهتها بحکمة وعنایة، حیث إننا نلاحظ أنّ بعض المسلمین قد أخذوا یفقدون الأمل لیس بالحیاة بل بصدقیّة دینهم، وذلک نتیجة بعض التصرّفات المروّعة والأعمال الإجرامیة التی یرتکبها البعض باسم الدین، فیذبحون الأبریاء باسم الله، ویَسْبُون النساء باسم رسول الله (ص)! وهذا أمر خطیر للغایة، لأنّ هذه الأعمال أصابت الدین نفسه بسهامها قبل أن تصیب الضحایا الأبریاء الذین یطالهم سیف التکفیر، الأمر الذی یحتّم على الدعاة والمربّین والرسالیین أن یستنفروا لمواجهة أسباب هذا الیأس، ویُظهروا بالحُجّة والبرهان الجانب المشرق والحقیقی لهذا الدین، ولا یجوز أن یتسرّب الشکّ إلى نفوسنا قید أنملة فی أنّ الإسلام یمتلک من الأصالة والانفتاح ما یجعله قادراً على التعایش مع العصر ومواکبته وتقدیم الحلول الناجعة لمشکلاته. ومع أهمیّة لجوئنا واعتمادنا فی مواجهة هذا النوع من الیأس على إظهار الوجه الحقیقی للإسلام والعمل على تعریة الفکر التکفیری التیأیسی لنثبت بالدلیل والبرهان أنّه فکر دخیل على الإسلام، وأنّ هؤلاء المتشددین لا یحملون من الدین إلاّ اسمه[5]، مع أهمیة ذلک وضرورته لکنّه قد لا یکون کافیاً، وإنما یلزمنا بالإضافة إلیه أن نقدّم صورة واقعیة مشرقة، بحیث نُظهر الوجه الحقیقی للدین من خلال سلوکنا، ومن خلال تقدیم نموذج عملی وواقعی عن إنسانیة هذا الدین وأصالته.
7- الأمل بالله والرجاء برحمته وأما الیأس من رحمة الله ومن مغفرته فهو ما یبتلی به بعض المذنبین الذین ارتکبوا الفواحش وانغمسوا بالمعاصی والکبائر، ونتیجة لذلک یتملکهم إحساس بأنّ الله تعالى لن یغفر لهم ذنوبهم وإن تابوا إلیه واستغفروه وندموا على ما فعلوه، وهذا الإحساس قد یدفعهم إلى الإیغال فی المعاصی أکثر فأکثر والاستهانة بکلّ الفواحش والکبائر، لأنّهم - بحسب ظنّهم - مطرودون من رحمة الله على کلّ حال، فما قیمة أن یضیفوا ذنباً جدیداً إلى قائمة الذنوب التی ارتکبوها! وهذا الیأس هو من أخطر أنواع الیأس على الإطلاق، لأنّه یأس یؤثّر على مصیر الإنسان فی الآخرة ولیس فی الدنیا فحسب، کما أنّه یأس یعبّر عن خطأ عقائدی وفکری ولیس خطأً سلوکیاً فحسب، وذلک لأنّ الیائس من عفو الله ورحمته إنّما یسیء الظن بالله ولا یعرفه حق المعرفة {وما قدروا الله حقّ قدره} [الأنعام 91]، فما حجم ذنوبنا فی جنب رحمته؟! ففی الحدیث عن بعض الأئمة من أهل البیت (ع) فیما وعظ الله به تعالى عیسى بن مریم (ع): "یا عیسى تُبْ إلیّ، فإنّی لا یتعاظمنی ذنب أن أغفره وأنا أرحم الراحمین"[6]. وعن الامام زین العابدین (ع): "ولَا یَسْتَعْظِمُ عَفْوَکَ إِنْ عَفَوْتَ عَنْه ورَحِمْتَه، لأَنَّکَ الرَّبُّ الْکَرِیمُ الَّذِی لَا یَتَعَاظَمُه غُفْرَانُ الذَّنْبِ الْعَظِیم"[7]. إنّ على الإنسان الذی یعیش الیأس من رحمة الله ومغفرته نتیجة ارتکابه لبعض الذنوب والمعاصی أن یعلم أنّه لا مبرر لیأسه هذا، لأنّ رحمة الله أوسع منا ومن ذنوبنا ولا یقف أمامها ذنبٌ ولا یتعاظمها معصیة، فهو یغفر الذنوب جمیعها مهما عظمت وتکاثرت، وتعال معی لنتأمل ملیّاً فی هذا المقطع الرائع من دعاء الإمام زین العابدین (ع) فی سَحَرِ شهر رمضان، وسوف نکتشف من هذا المقطع عظیم مغفرة الله تعالى وتفاهة ذنوبِنا فی جنب عفوه وحقارة أعمالنا فی جنب نعمه وکرمه، یقول (ع): "یا حبیب من تحبب إلیک! ویا قرّة عین من لاذ بک وانقطع إلیک! أنت المحسن ونحن المسیئون ، فتجاوز یا رب عن قبیح ما عندنا بجمیل ما عندک، وأیّ جهل یا ربّ لا یسعه جودک، أو أیّ زمان أطول من أناتک، وما قدر أعمالنا فی جنب نعمک، وکیف نستکثر أعمالاً نقابل بها کرمک! بل کیف یضیق على المذنبین ما وسعهم من رحمتک! یا واسع المغفرة یا باسط الیدین بالرحمة، فوعزتک یا سیّدی لو نهرتنی ما برحت من بابک ولا کففت عن تملقک لما انتهى إلیّ من المعرفة بجودک وکرمک، وأنت الفاعل لما تشاء تعذب من تشاء بما تشاء کیف تشاء، وترحم من تشاء بما تشاء کیف تشاء"[8].
ونحن نلاحظ أنّ النصوص الإسلامیة وفی مواجهة هذا النوع من الیأس قد تحرّکت فی خطین: أولاً: رفض الیأس من رحمة الله والقنوط من مغفرته رفضاً قاطعاً، وعدّته تلک النصوص فی عداد کبائر الذنوب والمعاصی[9]. والوجه فی ذلک ما أشرنا إلیه من أنّ هذا الیأس یمثّل خللاً عقدیاً لدى الإنسان، کما ویدفعه إلى الانغماس بالمعاصی والاستهانة بالذنوب. ثانیاً: وحثّت تلک النصوص على حسن الظن بالله وأکدّت على أنّ المؤمن لا بدّ أن یعیش الرجاء المستمر، فعنْ أَبِی جَعْفَرٍ ع قَالَ: "وَجَدْنَا فِی کِتَابِ عَلِیٍّ (ع) أَنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) قَالَ وهُوَ عَلَى مِنْبَرِه: والَّذِی لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَا أُعْطِیَ مُؤْمِنٌ قَطُّ خَیْرَ الدُّنْیَا والآخِرَةِ إِلَّا بِحُسْنِ ظَنِّه بِاللَّه ورَجَائِه لَه وحُسْنِ خُلُقِه والْکَفِّ عَنِ اغْتِیَابِ الْمُؤْمِنِینَ، والَّذِی لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَا یُعَذِّبُ اللَّه مُؤْمِناً بَعْدَ التَّوْبَةِ والِاسْتِغْفَارِ إِلَّا بِسُوءِ ظَنِّه بِاللَّه وتَقْصِیرِه مِنْ رَجَائِه وسُوءِ خُلُقِه واغْتِیَابِه لِلْمُؤْمِنِینَ، والَّذِی لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَا یَحْسُنُ ظَنُّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ بِاللَّه إِلَّا کَانَ اللَّه عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِه الْمُؤْمِنِ، لأَنَّ اللَّه کَرِیمٌ بِیَدِه الْخَیْرَاتُ یَسْتَحْیِی أَنْ یَکُونَ عَبْدُه الْمُؤْمِنُ قَدْ أَحْسَنَ بِه الظَّنَّ ثُمَّ یُخْلِفَ ظَنَّه ورَجَاءَه فَأَحْسِنُوا بِاللَّه الظَّنَّ وارْغَبُوا إِلَیْه"[10].
ولکن فی الوقت عینه فإنّ على الإنسان أن لا یعیش الاسترخاء الکامل، فینصرف عن العمل الصالح ویعزف عن طاعة الله وینغمس فی المعاصی، اعتماداً منه على رحمة الله ورکوناً إلى عفوه، وهذه الحال هی ما تعبّر عنه الروایات بالأمن من مکر الله ، وهو - کالیأس من روح الله – من کبائر الذنوب، فیفترض بالمؤمن أن یعیش بین الخوف والرجاء.
8- طول الأمل أجل، عندما نتحدث عن أهمیّة الأمل على مستوى الفرد والجماعة، وعن دوره فی استمرار الحیاة، فإنّ علینا أن نستدرک لنقول: إنّ الأمل قد یخرج عن حدّه فیصبح مذموماً ومرفوضاً، ومن أجلى مصادیق الأمل المرفوض هو ما عبّرت عنه الأحادیث بـ "طول الأمل"، فطول الأمل مذموم، لما له من سلبیات:
أ- فهو یدفع الإنسان إلى التسویف، فإذا سألته لماذا لا تعمل أو لا تصوم أو لا تحج أو لا تعمل صالحاً؟ یجیبک قائلاً: الوقت أمامنا، وإذا سألته: لماذا لا تتزوج وتبنی أسرة؟ یجیبک: لا زال أمامنا متسع طویل.. وهکذا تقلّ إنتاجیة هذا الشخص، کما نبّه على ذلک الإمام علیّ (ع) فی کلمته المرویة عنه: "من اتسع أملُه قَصُرَ عمله"[11].
ب- وهو یدفعه أیضاً إلى نسیان الآخرة والاستغراق فی الدنیا، فعن أمیر المؤمنین علیّ (ع): "وإنّ أخوف ما أخاف علیکم اثنتان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأمّا اتباع الهوى فیصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فینسی الآخرة"[12].
ج- ومن سلبیات طول الأمل أیضاً: قسوة القلب، ففی الکافی: "فیما ناجى الله عزَّ وجلَّ به موسى: یا موسى لا تطوّل فی الدنیا أملک، فیقسو قلبک والقاسی القلب منی بعید"[13]. وهکذا یتضح أنّ طول الأمل هو کالیأس فی الآثار السلبیة والنتائج غیر المحمودة .
الآمال الخادعة إنّ على الإنسان أن یکون واقعیاً فی آماله وتوقعاته فلا یعیش أحلاماً خیالیة بعیدة عن الواقع، وعلیه فی الوقت عینه أن یکون صادقاً مع نفسه فلا یخدعها ولا یغشها، والتسویف وطول الأمل قد یصل إلى حدّ خداع النفس وإلهائها عن واجباتها، کما قال تعالى: {ذرهم یأکلوا ویتمتّعوا ویلههم الأمل فسوف یعلمون} [الحجر 5]. وعن أمیر المؤمنین (ع): "اتقوا باطل الأمل، فربَّ مستقبلِ یومٍ لیس بمستدبره، ومغبوط فی أوّل لیله قامت علیه بواکیه فی أخره"[14]. وعنه (ع): "الأمل کالسراب یغرّ من رآه ویخلف من رجاه"[15]. وعنه (ع): "واعلموا أنّ الأمل یسهی العقل وینسی الذکر، فأکذبوا الأمل فإنّه غرور وصاحبه مغرور"[16]. وفی الختام دعونی أقُلْ: رغم العتمة والظلمة المنتشرة من حولنا لن نسمح للیأس أن یتسرّب إلى نفوسنا لیصیبنا بالإحباط، بل سوف یبقى الأمل رائدنا یملأ قلوبنا بحبّ الخیر ویثیر فینا الفکرة المبدعة والعاطفة الصادقة، ویحرّک خطانا نحو الأفضل، لنضیء شمعة هنا ونزرع وردة هناک ونواسی مظلوماً هنالک. سنبقى نحلم بالعدل القادم وننتظره انتظار العاملین ولیس انتظار الإتکالیین أو الکسالى، انتظار الفلّاح للشمس التی تُشرق على الزّرع الذی بذره بیمناه، وانتظاره للمطر الذی یروی الأغراس التی غرسها بساعده.
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,222 |
||