الإمام علی بن موسى الرضا(ع) سماتٌ رسالیّة | ||
الإمام علی بن موسى الرضا(ع) سماتٌ رسالیّة العلامة المرجع السید محمد حسین فضل الله
یحدّد الإمام الرضا(ع) ملامح الروح الرسالیّة التی ینبغی للمؤمن أن یعیشها فی حیاته، والتی تفتح أمام عینیه الآفاق الرحبة التی تنفتح على مسؤولیاته فی الدنیا والآخرة، فیقول(ع): "إنَّ الله عزَّ وجلّ أمر بثلاثة مقرون بها ثلاثة أخرى: أمر بالصلاة والزکاة ـ والزکاة تشمل کلَّ ما فرضه الله تعالى على الإنسان من حقوق مالیة ـ فمن صلّى ولم یزکِّ لم تُقبل منه صلاته ـ لأنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنکر، وحَبْسُ حقوق الله عمن أمر الله أن تُعطى له هو من المنکر والفحشاء، باعتبار أنَّها تجاوزٌ للحدود.. والصلاة مدرسةٌ تربّی الإنسان على طاعة الله فی کلِّ شیء ممّا أمر به، وعلى البعد عن معصیته مما نهى عنه ـ وأمر بالشکر له وللوالدین، فمن لم یشکر والدیه لم یشکر الله ـ فمن لم یشکر المخلوق لم یشکر الخالق، لأنَّ الشکر یعبّر عن حالةٍ نفسیّة وجدانیة فی التقدیر لإحسان المنعم علیه واستجابته لفضله وتفاعله النفسی والعملی معه، بقطع النظر عن طبیعته وموقعه، وبذلک یکون امتناعه عن شکر المخلوق دلیلاً على أنَّه لا یعیش مبدأ الشکر فی نفسه.. وأیُّ مخلوق یملک نعمةً على مخلوقٍ آخر أکثر من الوالدین؟ ـ وأمر باتقاء الله وصلة الرحم، فمن لم یَصِلْ رحمَه لم یتقِ اللهَ عزَّ وجلَّ"، لأنَّ الله أمر بصلة الرحم، ما یفرض على الإنسان القیام بذلک طاعةً لله، فمن لم ینفتح على الأرحام بالصلة کان منحرفاً عن خطّ التقوى بانحرافه عن خطِّ الطاعة لله فی ذلک. إعانة الضعیف وعن ضرورة وأهمیة إعانة الضعیف، یقول(ع): "عونک للضعیف أفضل الصدقة"، إذا کان هناک إنسانٌ یعیش حالة ضعفٍ فی قوّته، وأراد منک أن تنصره بقوّتک لتنقذه من الظلم الواقع علیه، أو کان ضعیفاً فی علمه وأراد منک أن تعطیه ما یقوّیه علمیّاً، أو فی أیِّ جانب من الجوانب التی یتحرّک فیها الضعف والقوّة، فإنَّک إذا أعنت الضعیف فی ذلک کلِّه، فإنَّ الله تعالى یکتب لک أجراً أفضل مما إذا تصدّقت علیه، لأنَّ قیمة الصدقة أنَّها تسدُّ حاجته المالیة، أما إذا أنقذته من ضعفه وأعطیته قوّةً من قوّتک، فإنَّ هذه القوة التی تعطیها له تمنحه الکثیر من النتائج الطیّبة فی حیاته أکثر مما لو أعطیته مالاً. العقل الصدیق ثم یحدّثنا الإمام(ع) عن نوع آخر من الأصدقاء والأعداء. نحن نعرف أنَّ الأصدقاء هم الناس الذین یوادّوننا ونوادُّهم ویعاونوننا ونعاونهم، لکنَّ الإمام الرضا(ع) یقول لنا: "صدیق کلِّ امرىءٍ عقلُه ـ لأنَّ العقل هو الذی یحدّد لک الحسنَ والقبیح، وهو الذی یفکّر لک، فیمیّز بین ما یضرُّک وما ینفعک، وهو الذی یحدّد لک طریقک إلى الجنّة أو إلى النار، وقد ورد أنَّ العقل "هو ما عُبِد به الرحمن وعُصِی به الشیطان" ـ وعدوّه جهله"، لأنَّ هذا الجهل یحجّم عقلک ویمنعک من وضوح الرؤیة للأمور، ویسیر بک عکس الطریق، ومن الطبیعی أن یکون عدوّاً لک، لأنَّه یؤدی بک إلى الکفر والضلال والفسق والفجور، وإلى الإسراع بالخطى إلى نار جهنّم. فالإمام(ع) یرید أن یؤکّد لنا قیمة العقل لدى الإنسان، والعقل هو هذه القوّة المفکِّرة التی تحسب للإنسان حسابات الأشیاء بکلِّ دقّة، والتی یحصل علیها الإنسان من خلال ما یتأمله وما یجرّبه. وعندما یعیش الإنسان مع عقله، فإنَّ علیه أن یسأله عن کلِّ خطوةٍ یخطوها، وعن کلِّ کلمة یتکلّمها، وعن کلِّ علاقة ینشئها.. فالعقل هو الصدیق الذی لا یحدّث الإنسان عن أرباح الدنیا وخسائرها فحسب، ولکنّه یحدّثه بالإضافة إلى ذلک عن أرباح الآخرة وخسائرها، لأنَّ العقل یرید للإنسان السعادة والخطَّ المستقیم لحیاته فی الدنیا والآخرة. ومن هنا، فإنَّ الإمام الرضا(ع) یوصی الإنسان بألاَّ یترک صدیقه الذی هو عقله ویتّبع غریزته والجهل الذی یفرضه علیه الناس، وعندما تختلط علیه الأمور فلیسأل عقله، أو عندما تضیع معالم الطریق فلیسأل عقله، ولیحاول أن یستعین على عقله بالشورى فی ما یشاور به الرجال، حتى ینضمّ عقله إلى عقول الآخرین، وقد ورد فی الحدیث عن أمیر المؤمنین علیّ(ع): "من شاور الرجال شارکها فی عقولها"(1). وفی الحیاة هناک دائماً عقلٌ وهناک جهل، والله تعالى جعل العقل حجّةً علینا یوم القیامة، حیث یحتجُّ علینا سبحانه وتعالى بعقولنا ووجداننا: {وقالُوا لو کُنَّا نسمعُ أو نعقِلُ ما کُنَّا فی أصحاب السعیر* فاعترفوا بذنبهم ـ أنَّهم کانوا لا یعقلون ولا یسمعون الکلمة العاقلة من العقلاء عندما تنفذ إلیهم ـ فَسُحْقَاً لأصحاب السّعیر} [الملک:10ـ11]. وقد حدّثنا الله تعالى عن الذین لهم قلوبٌ لا یعقلون بها، ولهم آذانٌ لا یسمعون بها، ولهم أعینٌ لا یُبصرون بها.. فلننطلق بکلِّ هدوء من أجل أن نستعمل عقولنا، فنحاور ونرسم الخطط من خلالها، لأنَّ مشکلتنا فی واقعنا الذی نعیش فیه، أنَّ الجهلة الذین قد یملکون قوّة المال أو السلاح أو السلطة، هم الذین یفرضون علینا جهلهم. لذلک، لینطلق أهل العقل فی المجتمع من أجل أن یجعلوا العقل هو السبیل الذی یلتقی علیه الجمیع، وعلینا أیضاً أن ننمّی عقولنا، فلا نقرأ إلاَّ ما یفیدها، ولا ننظر إلاَّ إلى ما یحصّن عقولنا، ولا نستمع إلاَّ إلى ما یرفع مستوى عقولنا. وقد قال تعالى: {فبشّرْ عبادی* الذین یستمعون القولَ فیتّبعون أحسنه* أولئک الذین هداهُم الله وأولئک هم أولو الألباب} [الزمر:17ـ18]. ثم إنّ العقل هو الذی یمنح الإنسان علمه بالتأمل فی موارد العلم ومصادره، وبالتجربة التی یتابعها العقل فی حرکة الإنسان فی الواقع، ویدفع به إلى السعی والبحث والملاحقة لأسرار الحیاة فی نظامها الکونی وفی حیاة الإنسان والدراسة للتاریخ فی قضایاه التی تمنح الإنسان الدرس والعبرة والتخطیط للمستقبل الذی یقبل علیه فی صناعة حیاته. وهکذا یقف العقل لیقود المسیرة الإنسانیة التی ترتفع بالإنسان فی مجالات الاکتشاف والإبداع والتنمیة لکل الطاقات المادیة والمعنویة. وهذا هو الذی یجعله الصدیق الأوفى للإنسان عندما یتحرّک معه فی کلِّ أموره وقضایاه ویشرف على حاضره ومستقبله.. ثلاث سُنَن إننا ونحن نتحدّث عن الإمام الرضا(ع)، فلنستهدیه بما کان یحدّث به حضّار مجلسه، لأننا نرید أن نستدعیه إلینا، لیزورنا فی مجتمعاتنا، لأنَّ مسألة أن یزورنا عظماؤنا، هی أن نعیش الحضورَ معهم فی کلِّ کلماتهم ووصایاهم. کان(ع) یحدّث أصحابه ویقول لهم: "لا یکون المؤمن مؤمناً حتى یکون فیه ثلاث خصال: سُنّةٌ من ربِّه ـ یأخذ خصوصیّة من أخلاق الله ـ وسُنّةٌ من نبیِّه ـ ویأخذ خصوصیّة من خصوصیّات أخلاق النبیِّ(ص) ـ وسُنّةٌ من ولیِّه ـ من أولیاء الله، وفی طلیعتهم الأئمة من أهل البیت(ع) ـ فأمّا السُّنّةُ من ربِّه فکتمان سرِّه، قال الله عزَّ وجلّ: {عالِمُ الغیب فلا یُظهرُ على غیبه أحداً* إلاَّ من ارتضى من رسول} [الجن:26ـ27] فالله تعالى یکتم سرَّه الغیبـی الذی یحتفظ به لنفسه من خلال حکمته فی ذلک، إلاَّ عن الذین یراهم أمناء على السرِّ ویجعلهم مستودَع سرِّه فی الأمور التی یرید لهم أن یعرفوها فی حاجاتهم الرسالیة. لذلک تخلّق أیُّها المؤمن بأخلاق الله، ولتکن لدیک هذه السُّنّة من الله. اکتمْ سرَّک ولا تحاول أن تفضحه وتطلقه کیفما کان، لأنَّ افتضاح سرِّک قد یقتلک ویعقّد حیاتک، ویسیء إلى مَن حولک، ویدمّر المجتمع الذی تحتفظ أنت بسرِّه.. ولیکن صدرک خزانة سرِّک، فلا تُعطِ سرَّک إلاَّ للأمین الأمین، الذی لا یحاربک بسرِّک إذا اختلفت معه، ولا یستغلّ سرَّک ضدَّک.. وإذا کنت لا تستطیع أن تحفظ سرَّک فی صدرک، فکیف ترید من الآخرین أن یحفظوه؟ لذلک، احفظ سرَّک جیّداً، وسرُّک قد یکون أمراً یتعلّق بنفسک، أو یتعلّق بأمتک وبوطنک وبالنّاس الذین تعیش لهم ومعهم.. لذلک، تعلم من ربِّک سبحانه أن تکتم سرَّک، کما یکتم الله سرَّه، فذلک هو الوسیلة الفضلى لحمایة أمورک الحیویة، ثم یقول(ع): "وأمَّا السّنَّةُ من ربِّه فمداراة الناس أن تداری الناس"، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أمر نبیّه بمداراة الناس، فقال سبحانه: {خُذِ العفوَ وأمُرْ بالعُرف وأعرضْ عن الجاهلین} [الأعراف:199] ولیس معنى مداراة الناس أن تنافق علیهم. ونحن نعرف أنَّ لکلِّ مجتمع حساسیاته الشخصیة والعائلیة والمذهبیة والطائفیة والسیاسیّة والحزبیة، وإنَّک عندما تتعامل مع هذا المجتمع، فلیس من الضروریّ أن تتحدّث بکلام تسبُّ فیه الناس ومقدساتهم، لأنَّ الله تعالى أمرنا فی جدالنا وحوارنا مع الناس بقوله تعالى: {وَقُلْ لعبادی یقولوا التی هی أحسن} [الإسراء:53] ویقول سبحانه: {ادعُ إلى سبیل ربِّک بالحکمة والموعظة الحسنة} [النحل:125]. إذاً، معنى المداراة أن تتعامل مع المجتمع وتدخل معه فی حوار، من دون أن تثیر حساسیّاته وعصبیّاته التی تؤدی إلى الانفعال والتباغض والتحاقد. وقد حدّثنا الله تعالى عن تجربة النبیِّ(ص) فی هذا المجال، فقال سبحانه: {فَبِمَا رحمةٍ من اللهِ لِنْتَ لَهُم وَلَوْ کنتَ فظّاً غلیظَ القلب لانفضُّوا من حولک} [آل عمران:159]. لذلک، کن رقیق اللسان حتى مع خصمک، کن رقیق القلب حتى مع من یعارضک، افتح قلبک للناس تنفتح قلوب الناس لک، ولیِّن لسانک للناس تَلِنْ مشاعرُهم لک، وهذا ما یریده الله ورسوله. وتعلّم أن تقول الحقیقة بالحکمة من دون إثارة للمشاکل المتنوعة والعصبیات المثیرة، ویتابع الإمام الرِّضا(ع) فیقول: "وأمَّا السُّنَّة من ولیِّه فالصبرُ فی البأساء والضرّاء"، أن تصبر إذا واجهک الفقر والضرر والمرض وکلّ المشاکل، وهذه وصیّة أمیر المؤمنین علیٍّ(ع): "وعلیکم بالصبر، فإنَّ الصبر من الإیمان بمنزلة الرأس من الجسد، فکما لا خیر فی جسد لا رأس معه، لا خیر فی إیمان لا صبر معه"(2). والصبر هو القوة الروحیة التی تجعلک تتمرّد على الحرمان من شهواتک ولذاتک وأطماعک ونزواتک وعصبیاتک، وتسیطر على نقاط ضعفک، وتواجه التحدیات بالعقل والحکمة والاتّزان، وترکز إرادتک على التحمل، فلا تهن ولا تجزع ولا تصرخ أمام الملمّات أو الصدمات أو النکبات، ولکن تبقى کالجبل لا تحرکه العواصف ولا تزیله القواصف فی مواقع العزیمة والقوّة، على هدى قول الله تعالى: {واصبر على ما أصابک إنّ ذلک من عزم الأمور} [لقمان:17]، وبذلک یبرز الصبر لیکون فی موقع الرأس من الجسد من خلال موقعه من الإیمان، لأن المؤمن یواجه فی إیمانه الکثیر من التحدیات فی نفسه وماله وأهله، مما قد یترک تأثیره على مواقفه النفسیة والعملیة بالکثیر من حالات التراجع أو الاهتزاز، الأمر الذی یفرض علیه الصمود أمام ذلک کلِّه للحفاظ على إیمانه، فإذا لم یأخذ بأسباب الصمود، سقط الإیمان کله کما تسقط الحیاة فی الجسد إذا سقط الرأس منه. ثلاث خصال ویرى الإمام الرضا(ع) أنَّ على المؤمن أن یتحلّى بخصال ثلاث حتى یستکمل حقیقة الإیمان، فیقول(ع): "لا یستکمل عبدٌ حقیقة الإیمان، حتى یکون فیه ثلاث خصال: التفقّه فی الدین ـ لأنَّ الإنسان الذی لم یتفقّه فی دینه وعقیدته وشریعته ومنهجه وحرکته وفی کلِّ ما یحیط به، فإنَّه یمشی على غیر هدى.. وکیف یمکن أن یکون مؤمناً من لا یعرف مفردات الإیمان وخطوطه، لأنَّ الإنسان الذی یجهل دینه ربما یُغریه الآخرون بالکفر بعنوان أنَّه الدین، وبالباطل بعنوان أنَّه الحقّ، لذلک، لا بدَّ من التفقّه فی الدین، وقد ورد فی الحدیث: "أفٍّ لامرىءٍ لا یفرّغ نفسه فی کلِّ یومٍ للتفقّه فی الدین". وعن أحمد بن محمد بن أبی نصر، قال: قال أبو الحسن الرِّضا(ع): "من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت"، والفقه هو الوعی والفهم، فالإنسان الواعی حلیمٌ لا یبادر إلى من أساء إلیه أو من آذاه بردِّ الفعل القاسی، بل یتسع صدره لاحتواء السلبیّات التی تُوجّه إلیه بحلم ووداعة، والذی یعیش الوعی لا بدَّ أن یستخدمه فی تحصیل العلم وإنتاجه، وأن یکون صامتاً، باعتبار أنَّ الصمت ینفتح على التأمّل والتفکیر "إنَّ الصمت بابٌ من أبواب الحکمة"، لأنَّ الإنسان عندما یصمت، فإنَّه یفکّر ویتأمّل ویتدبّر، فیلتقی بالحکمة فی کلِّ ما یفکّر فیه وکلِّ ما یعمله. ونعود إلى الخصال الثلاث التی یتحدّث عنها(ع) فیقول: "وحُسنُ التقدیر فی المعیشة ـ لأنَّ المؤمن هو الإنسان الذی یعرف کیف ینظّم أموره ویقدّرها، بأن لا یتجاوز فی حاجاته قدراته، وهذه الکلمة تمتدُّ إلى أن یقدّر المؤمن فی معیشته مواقفه وعلاقاته وطبیعة حیاته الزوجیة، وما إلى ذلک، حتى یضبط معیشته وینظّمها، ویقف فیها على خطِّ التوازن، فلا یسقط أمام حاجاته ـ والصبر على الرزایا". وفی الصبر جائزةٌ کبیرةٌ، لأنَّ الله تعالى یصلّی على رسوله(ص) وعلى الصابرین، وذلک هو قوله تعالى: {ولنبلونکم بشیء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرین* الذین إذا أصابتهم مصیبة قالوا إنّا لله وإنا إلیه راجعون* أولئک علیهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئک هم المهتدون} [البقرة:155ـ157]. العبادة فی أبعادها الرسالیّة ونکمل مع الإمام الرضا(ع)، حیث نرید أن نأخذ شیئاً من کلماته، حتى نستطیع أن نستفید من دروسه فی حیاتنا الاجتماعیة، فمن بعض کلماته المرویّة عنه، أنَّه قال(ع): "لیست العبادة کثرة الصیام والصلاة، وإنَّما العبادة کثرة التفکّر فی أمر الله"، فلیس المقیاس فی العبادة کثرة صلاتک وصومک، لأنَّه ربما تکثر صلاتک وصومک من دون معرفةٍ ووعی، ومعنى العبادة الخضوع لله تعالى، ومسألة الخضوع مسألةٌ تتصل بالعقل، فبمقدار ما تعرف الله أکثر فی عقلک، بمقدار ما یخشع عقلک له سبحانه، والعبادة هی الخضوع لله فی قلبک، بأن یخشع قلبک لذکر الله تعالى، فلا یمکن أن یرتجف قلبک بذکر الله إلاَّ إذا کنتَ عارفاً بالله. فالإمام الرِّضا(ع) یطلب منا أن نتفکّر فی عظمة الله من خلال عظمة خلقه فی کلِّ أسرار الخلق، وأن نتفکّر فی نِعَم الله علینا، فإذا ازداد تفکیرنا فی ذلک کلِّه، عندها تکبر معرفة الله فی عقولنا، فتخشع عقولنا لذکر الله، وتکبر عظمة الله فی قلوبنا، فتخشع أیضاً قلوبنا لذکر الله.. وعلى هذا الأساس، إذا عظم الله فی قلب الإنسان وعقله، تکون صلاته صلاة الإنسان الخاشع لربِّه والخاضع بین یدیه.. أما الإنسان الذی لا یعرف الله، ولا تتربّى عظمة الله فی نفسه، فإنَّه قد یصلّی، ولکنّه لا یعرف من صلاته أیَّ معنى، لأنَّ عالَم العبادة عالمٌ داخلیّ، فعندما یصلّی عقلُ الإنسان وقلبه وأحاسیسه ومشاعره ولسانه وبدنه، فإنَّه ینفتح على کلِّ مسؤولیاته أمام الله. الأمین والخائن ومن کلمة له(ع) یعالج فیها قضایا بعض الناس الذین یأتمنون بعض الأشخاص من دون توثیق ودراسة، ومن دون أن یسألوا عن أمانتهم، فیقول(ع): "لم یخنک الأمین ولکن ائتمنت الخائن"، فالأمین لا یخون، ولکنَّک ربما أنت لم تمیّز بین الأمین وغیر الأمین، ولم تدرس الإنسان الذی تأتمنه على مالک وسرِّک وعرضک ووطنک.. حتى عندما ترید أن تزوّج ابنتک فلا تنظر إلى نسبه وماله، ولکن ادرس خُلُقَه ودینه، لأنَّ ابنتک لن تعیش مع آبائه وأجداده لتقول إنَّ فلاناً ابنُ نَسَبٍ عریق، ولا تعیش مع ماله، ولکنها ستعیش مع أخلاقه التی تمثّل معنى الأمانة فی شخصیته.. وفی ضوء ذلک، لا بدَّ للإنسان من الدقّة فی دراسة الإنسان الآخر الذی یضعه فی موقع الائتمان، لا سیما إذا کان ذلک الموقع متصلاً بالقضایا الحیویّة فی حیاته أو مصیره ومستقبله. خیار العباد وسُئِل(ع) عن خیار العباد، فقال: "الذین إذا أحسنوا استبشروا ـ فرحاً بالإحسان من خلال روحیّة المحبة للناس، والفرح بالقیمة الأخلاقیة المتحرّکة فی ذاته، وذلک فی عملیة تأکید لمعنى الخیر عنده ـ وإذا أساؤوا استغفروا ـ وتابوا إلى الله ولم یسوّفوا التوبة وقالوا غداً نتوب، لأنَّ الغد قد یأتی وهم تحت التراب. وعلى هذا، فالإساءة تُثقِل نفوسهم وتسیءُ إلى مصیرهم بما تؤدی إلیه من سخط ربِّهم، فیحاولون أن یتخفّفوا من ذلک بالاستغفار الذی یحصلون به على مغفرة الله الذی أخذ على نفسه الغفران للمستغفرین التائبین ـ وإذا أُعطوا شکروا ـ اعترافاً بجمیل المعطی وتقدیراً لفضله ـ وإذا ابتُلوا صبروا ـ بما یعبّر عنه الصبر من تماسک العقل والإرادة والحرکة ـ وإذا غضبوا غفروا"، من خلال روحیّة العفو عن الناس الذین یثیرون غضبهم بالإساءة. ثم یقول(ع) فی إشارة إلى العمّال ولکلِّ العاملین فی سبیل عیالهم مع المحافظة على خطِّ التقوى فی کلِّ عملهم وتجارتهم وسعیهم: "إنَّ الذی یطلب من فضلٍ یکفُّ به عیاله أعظمُ من المجاهد فی سبیل الله"(3)، لأنَّ هذا الإنسان یعیش روح المسؤولیة العائلیّة، فیجهد نفسَه ویُتعب جسدَه ویستهلک وقته، مما یؤدّی إلى قوّة المجتمع وتوازنه وحریته کما هی نتائج الجهاد. وقیل له: کیف أصبحت؟ فقال: "أصبحت بأجلٍ منقوص ـ تحفظه الملائکة فی کتاب الأعمال، وکلُّ یوم تنزل ورقةٌ من روزنامة أعمارنا ـ وعمل محفوظ، والموت فی رقابنا ـ محیط ـ والنار من ورائنا ـ إذا عصینا ـ ولا ندری ما یُفعل بنا" من مغفرة ورحمة أو سخط ونقمة. إنَّ هذه الکلمات تعبّر عن وعی الإنسان لصباحه فی برنامجه الیومیّ من خلال وعیه لنقصان عمره فی تجدّد الزمن ودور عمله فی مصیره واستقباله الموت المحتوم فی أجله، ما یجعله یواجه یومه بالمسؤولیّة المتصلة بذلک کلِّه. وفی الجانب الأخلاقیّ، هناک بعض الأحادیث التی وردت عن الإمام الرضا(ع).. فعن الحسن بن الوشّاء، أنَّ الرضا(ع) قال: "من فرّج عن مؤمنٍ کربةً فرّج الله عن قلبه یوم القیامة"، من دفع عن أخیه سوءاً وأذىً وغمّاً وهمّاً، فإنَّ الله سبحانه وتعالى سوف یُدخل السرورَ على قلبه یوم الفزع الأکبر، لأنَّ الإنسان فی ذلک الیوم یعیش الأهوال المرعبة: {یَوْمَ یفرُّ المرء من أخیه* وأمِّه وأبیه* وصاحبتِه وبَنِیه} [عبس:34ـ36]، ففی هذه الأجواء المذهلة، یفرّج الله عن قلبه، فیفتحه على السرور جزاء ما فرّج به عن کربة المؤمن فی دار الدنیا. وهذا هو النهج الإسلامی الأخلاقی الذی یفتح وعی الإنسان المؤمن على کربات المؤمنین، لیحمل همومهم، ولیتحرّک بجهده الإنسانی فی تفریجها بما یملک من الخبرة والقوة والانفتاح على الحلول الواقعیّة للمشاکل الإنسانیة التی تثقل المرء وتکربه. تبعات الذنوب وعن العبّاس بن هلال قال: سمعت الرضا یقول: "کلما أحدث العباد من الذنوب ما لم یکونوا یعلمون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم یکونوا یعرفون"، فالإمام الرضا(ع) یقول إنَّ الذنوب التی نهى الله عن ارتکابها تشتمل على نتائج سلبیّة على حیاتهم، فالله تعالى عندما ینهى عن شیء، فإنَّما ینهى عنه لغایة فی ذاته، لأنَّه تعالى غنیٌّ عما نفعل وعما نترک، لکنّه ینهى الإنسان، لأنَّ المنهیَّ عنه إذا ارتکبه الإنسان وقع فی أکثر من مشکلة. ولذلک، فإنَّ الذنوب تجتذب البلاء والسلبیّات بحسب طبیعتها وعناصرها. ولعلنا نستوحی ذلک من قوله تعالى: {ظهرَ الفسادُ فی البرِّ والبحر بما کسبت أیدی النّاس لیذیقهم بعض الذی عملوا لعلّهم یرجعون} [الروم:41]، أی أنَّک تذوق نتیجة عملک عندما تعیش الفساد الذی تتمثّل فیه الآلام والمشاکل. وفی ضوء ذلک، لا بد للإنسان من التفکیر بأن الذنوب التی یقوم بها لا تمثل مجرد استجابةٍ للذة أو شهوة أو رغبة، بل تمثل عالماً من المشاکل التی تنفذ إلى حیاته وحیاة الناس من حوله، فتتحوّل إلى بلاء فی أنفسهم وأموالهم العامة والخاصة، ما یفرض علیهم أن یفکروا فی الأمور التی تتصل بالذنوب فی هذا الاتجاه. استعمال العدل ودوام النعمة وفی مسألة العدل، یقول(ع): "استعمال العدل والإحسان مُؤذِنٌ بدوام النعمة ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله". عندما تستعمل العدل فی حیاتک، فتکون عادلاً مع نفسک، فلا تظلمها بالکفر والفسق والضلال، وتکون عادلاً مع أهلک فلا تظلمهم بسلطتک، وتکون عادلاً مع ربِّک فلا تشرک به شیئاً، وتکون عادلاً مع الناس فتعطی لکلِّ ذی حقٍّ حقَّه، وإنَّک عندما تُحسن إلى النّاس وتبرّهم وتتعامل معهم برفق ومحبّة، فإنَّ الله تعالى سیدیم نعمته علیک، لأنَّه سبحانه وتعالى سوف یشکر لک ذلک، ومعنى شکر الله أنَّه تعالى یزید فی نعمتک ویدیم هذه النعمة. وربما یؤدی العدل والإحسان إلى واقع حیّ فی حیاة الإنسان العادل المحسن والمجتمع العادل المحسن فی دوام النعمة المتنوّعة فی الفرد والمجتمع ارتباطاً للنتیجة بمقدّماتها. التواضع ومعرفة النفس وجاء فی کلام الإمام الرضا(ع)، وقد سأله شخصٌ عن حدِّ التواضع الذی هو من الصفات الطیّبة الحسنة التی یرید الله تعالى للناس أن یعملوا على أساسها، فقال: "التواضع درجات، منها أن یعرف المرءُ قَدْرَ نفسه فیُنزِلُها منزلتها بقلب سلیم"، قد یستعرض الإنسان عضلاته أمام الناس وینفخ شخصیته، لکنّه عندما یجلس مع نفسه، فإنَّه یفهمها، لأنَّ الإنسان مکشوفٌ أمام نفسه ویعرف نقاط ضعفه، والإمام(ع) یرید للإنسان أن یجلس مع نفسه، لیدرس نقاط ضعفه وقوّته.. ومشکلة الکثیرین بیننا أنّهم لا یدرسون أنفسهم ولا یعرفونها، لذلک، ادرس نفسک، فإذا وجدت نقطة ضعف فحاول أن تحوّلها إلى نقطة قوّة، وإذا وجدت نقطة قوّة فحاول أن تزیدها وتنمّیها، فإذا عرفنا أنفسنا، فإنَّنا نعرف کیف نتعامل مع بعضنا البعض، وقد ورد فی دعاء "مکارم الأخلاق" للإمام زین العابدین(ع)، والذی أوصی بقراءته کلَّ یوم، لأنَّه یمثّل البرنامج الأخلاقی الإسلامی: "اللهمّ لا ترفعنی فی الناس درجةً إلاَّ حططتنی عند نفسی مثلها، ولا تُحدث لی عزّاً ظاهراً إلاَّ أحدثت لی ذِلّةً باطنةً عند نفسی بقَدَرِها"، وهذا هو الذی یجعلنا ندخل فی مقارنة دقیقة عادلة بین ما نملک من طاقات ومواصفات وما یملکه الآخرون من ذلک مما لا نملکه، فنتواضع لهم تقدیراً لما یتمتعون به من الفضائل وما یملکونه من الطاقات الحیة الفاعلة. ولعل مشکلة المتکبّرین أنهم لا یعرفون أقدار أنفسهم، فلا یعرفون أقدار الناس فیتکبرون علیهم. الحسّاد صغار العقول وضعاف الإیمان وینقل الإمام الرضا(ع) فی بعض کلماته عن رسول الله(ص) حدیثاً یتحرّک فیه بعض الناس، فیقول: "حدّثنی أبی عن آبائه عن علیٍّ(ع) قال: قال رسول الله(ص): دبَّ إلیکم داءُ الأمم قبلکم: البغضاء والحسد"، والنبیُّ(ص) یتحدّث وهو یراقب أمته التی أراد أن یبنی لها قاعدتها على المحبة والتراحم، ولکنه(ص) رأى أنَّ بعض الناس من حوله یعیشون البغضاء من خلال عصبیّة عائلیّة أو شخصیّة أو ما إلى ذلک من العصبیّات التی تثیر الحقد فی النفوس، فیرى(ص) فی خطابه للأمة أنّ هذا المرض الذی أردت أن أنقذکم منه، قد دبَّ إلیکم، فأصبحتم تتباغضون وأنتم المسلمون، وتتحاقدون وأنتم المؤمنون، یحمل کلُّ واحدٍ منکم روح التدمیر والإسقاط للآخر، فأصبحتم تحسدون بعضکم بعضاً، ویتحرّک الحسد من أجل أن یدفعکم للبغی على بعضکم البعض، ولو کنتم مؤمنین جیّداً، لعرفتم أنَّ الله تعالى إذا أعطى بعضکم نعمةً، فإنَّه یمکن أن یعطیکم هذه النعمة من دون أن یزیلها عن الناس الآخرین، فلماذا تضیّقون رحمة الله؟ ولیقل الواحد منکم: یا رب، أعطنی کما أعطیت فلاناً، وأبقِ له نعمته، لأنَّک الواسع فی رزقک، ولأنَّ خزائنک لا تنفد. لذلک، فالحسّاد هم أناسٌ صغار العقول وضعاف الإیمان، لأنَّ الإنسان الذی یتمنّى زوال نعمة غیره لیحصل هو علیها، علیه أن یعرف أنَّ الله تعالى یعطیه ویعطی غیره، کما خلقه وخلق غیره. وقد جاء شخصٌ إلى رسول الله(ص) یستأذنه بالدعاء له ولنفسه، فقال: اللهم اغفر لی ولمحمد ولا تغفر لأحدٍ غیرنا، فقال له رسول الله(ص): "یا هذا، لقد ضیّقت واسعاً"، لأنَّ رحمة الله وسعت کلَّ شیء... والحسد یوحی بضعف الهمّة، فالمحسود عمل واجتهد واستطاع أن یصل، أما الحاسد، فهو الخامل الذی عطّل قدراته، وذهب إلى حیث الحسد یأکل قلبه وراحته وروحه. والإمام الرِّضا(ع)، وإن کان یتحدّث عن الموضوع فی زمانه، فإنَّه یتحدّث عن زماننا أیضاً، لأنَّ کثیراً من مشاکلنا واختلافاتنا وبغینا وظلمنا لبعضنا البعض، إنَّما ینطلق من هذه البغضاء التی تحصل بین المؤمنین والمسلمین، ومن هذا الحسد الذی یتحرّک فی قلب المجتمع المؤمن، والشیطان یضحک مقهقهاً أنَّه استطاع أن یُبعدنا عن أخوّة الإیمان ومحبته. وقد انعکس کلُّ ذلک سلباً على الواقع الإسلامی العام الذی سیطرت علیه العصبیات المنتجة للبغضاء والمثیرة للحسد، فتحرّکت السلبیات النفسیة والکلامیة والحرکیة على کل صعید، فلم یعد الحوار والجدال بالتی هی أحسن هو الطابع الذی یتمثّل فیه الاختلاف الفقهی والکلامی والاجتماعی، بل أصبح الطابع طابع التکفیر والتضلیل والسباب والشتائم، مما ینطلق فیه الحقد والحسد لیعبّر عن نفسه بهذه الوسائل الخبیثة، وهذا هو ما أراد الإمام الرضا(ع) أن یخلّصنا من نتائجه وینقذنا من مشاکله.
المصادر: (1)نهج البلاغة، قصار الحکم،161. (2)نهج البلاغة، قصار الحکم،82. (3)الکافی، ج:2، ص:305.
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,725 |
||