محور الأمّة ومفْزعها | ||
محور الأمّة ومفْزعها صادق تبریزیان
بالرغم من انّ الامام علی بن موسى الرضا (ع)، کان بعیداً عن سدّة الحکم والسلطة والقیادة، إلا انّه کان الملجأ والمفزع فی المهمّات والشدائد، والمسلمون فی عهده – سواء کانوا حکّاماً أو محکومین،علماء أو جهلة، موالین له أو مُخالفین ومُعادین – یعودون إلیه فی حل مشاکلهم ومعضلاتهم، وبیان ما إشتبه علیهم فهمه، وإلتبس علیهم علمه ومغزاه، من الأمور الدینیة، والأحکام الشرعیة والفقهیة، والعقائدیة، ولأنه کان معدن العلم، وخازن السُنّة النبویة، ووارث العلوم القرآنیة، والدالّ للحق عزّ وجل. ولمّا کانت ظروف الامام الرضا (ع) قد تمیزّت بانتشار العلوم المختلفة، وکثرة العلماء والمتکلمین، فقد وردت علیه أسئلة واستفسارات من کل مکان، وفی شتى المعانی وضروب العلم ومُبهماته وأسراره، وقد کان ملاذاً للعلماء والناس على حد سواء. ویُقال بأن المسائل التی أجاب علیها الامام الثامن (ع)، ناهزت الثمانیة عشر ألف مسألة (1). وتمکّن الشیخ الصدوق من جمع ما وصل إلیه من أجوبته وأحادیثه وسمّی مصنفه (عیون أخبار الرضا). فمن الأسئلة الطروحة علیه (ع)، إن الناس یروون إن رسول الله (ص) قال بأن الله خلق آدم على صورته. فأجاب (علیه السلام): قاتلهم الله، لقد حذفوا أول الحدیث، والصحیح إن رسول الله (ص) مرَّ برجلین یتسابان، فسمع أحدهما یقول لصاحبه: قبّح الله وجهک ووجه من یشبهک، فقال له (ص): یا عبدالله لا تقل هذا لأخیک، فإنّ الله خلق آدم على صورته (2). وسئل (ع) أیضاً: أیکلّف الله العباد ما لا یطیقون؟ فقال:هو أعدل من ذلک. وأضاف السائل، قائلاً: فهل یستطیعون أن یفعلوا ما یریدون؟ قال(ع): هم أعجز من ذلک. أی إنهم لا یستطیعون أن یفعلوا ما یریدون مستغنین عن أقدار الله لهم (3). وسأل إبن السکمیت الشهیر الامام الرضا (ع) مستفهماً: لماذا بعث الله موسى بن عمران بیده البیضاء، وبآیة السحر، فیما بعث عیسى بآیة الطب، وبعث محمداً (ص) بالکلام والخُطب؟ فأجابه الامام (ع) شارحاً، بأن الله لمّا بعث موسى (ع) کان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم یکن فی وسْع القوم مثله، وبما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة علیهم. وإن الله بعث عیسى (ع) فی وقت قد ظهرت فیه الأمراض، واحتاج الناس إلى الطب ، فأتاهم من عنده بما لم یکن فی وسع القوم مثله، وبما أحیا لهم الموتى، وأبرأ الأکمه والأبرص بإذن الله، بحیث اثبت حجج الله علیهم، واقنعهم بالمعاجز الالهیة. وأخیراً بعث الله محمداً (ع) فی عهد کان یغلب على أهل عصره الخُطب والکلام، فجاءهم من عند الله تعالى من مواعظه وأحکامه ما أبطل به قولهم ومزاعمهم. أما الحُجة على الخلق الیوم، أی فی عهده (ع)،فهو العقل، یُعرف به الصادق على الله فیصدقه، والکاذب على الله فیکذبه. فاقتنع ابن السکمیت، قائلاً: هذا والله هو الجواب (ع). الامام الضلیع بکل حقول المعرفة وحین سُئِل الامام الرضا (ع)، لِمَ خلق الله عزّ وجل الخَلْق على أنواع شتّى ولم یخلقه نوعاً واحدا؟ أقنع الامام علی الرضا (ع) السائل قائلاً: لئلا یقع فی الأوهام أنه تعالى عاجز، فلا تقع صورة فی وهم ملحد إلاّ وقد خلق الله عزّ وجل علیها خلقاً، ولا یقول قائل: هل یقدر الله عز وجلّ أن یخلق على صورة کذا وکذا، إلّا وجد ذلک فی خلقه تبارک وتعالى، فیعلم بالنظر إلى أنواع خلقه، أنّه على کل شیء قدیر(5). ودخل رجل على الامام الرضا (ع) مرّة وقال له: ما الدلیل على حدوث العالم؟ فکان جواب الامام (ع) مختصراً ومُقنعاً، فهو – أی الرجل – لم یکن ثم کان، وقد علم أنّه لم یکوّن نفسه، ولا کوَّنه من هو مثله (6). ومن الأسئلة التی أجاب علیها الامام علی الرضا (ع)، وتتعلق بقضیة الجبر والتفویض، سؤاله (ع) من قبل أحدهم: هل الخلق مجبورون؟ فکان جوابه (ع)، بأن الله تعالى أعدل من أن یجبر ثم یُعذَّب. فعقّب الرجل: فمطلقون؟ فقال الامام (ع)، إن الله تعالى أحکم من أن یهمل عبده و یکله إلى نفسه (7). ومن الاسئلة التی سئل عنها الامام الرضا (ع) وأجاب علیها، إن معنى التوکّل أن لا یخاف المرء أحداً إلا الله (8). وإن العُجْب الذی یفسد العمل هو أن یزین للعبد سوء عمله فیراه حسناً فیعجبه، ویحسب أنّه یحسن صنعاً، ومنها أن یؤمن العبد بربه فیمتنّ على الله، ولله المنّة علیه فیه (9). وحین سُئل الامام الرضا (ع) عن التوحید، أجاب الحاضرین، قائلاً: الحمد لله فاطر الأشیاء إنشاءاً، ومبتدعها ابتداء بقدرته وحکمته، لا من شیء فیبطل الاختراع، ولا لعلّة فلا یصح الابتداء الابتداع، خلق ما شاء کیف شاء، متوحّداً بذلک لإظهار حکمته، وحقیقة ربوبیته، لا تضبطه العقول، ولا تبلغه الأوهام، ولا تدرکه الأبصار، ولا یحیط به مقداراً، وعجزت دونه العبارة، وکلّت دونه الأبصار، وتضلّ فیه تصاریف الصفات، احتجب بغیر حجاب محجوب، واستتر بغیر ستر مستور،عُرف بغیر رؤیة، ووُصف بغیر صوت، ونُعت بغیر جسم، لا إله إلا الله الکبیر المتعال (10). واستطاع الامام الرضا (ع) – وهو المُسدّد من قبل السماء- أن یحدّد بدقة متناهیة، نظریة التوحید الالهی، رافضاً بشدة کل المحاولات الساعیة لتجسیم الله تعالى من خلال تأکید الصفات له عزّ وجل وتعیین الجوارح بتفسیر الآیات المتشابهة فی القرآن الکریم تفسیر ظاهریاً غیر مجازی. ومن هذا المنطلق، فقد ردّ الامام (ع) على الذی إدّعى ان الله عز وجل قسّم الرؤیة والکلام بین اثنین، فقسّم لموسى (ع) الکلام، ولمحمد (ص) الرؤیة. إذ قال (ع): فمن المبلّغ عن الله عزّ وجل إلى الثقلین الجن والانس: ((لا تُدرکه الأبصار وهو یُدرِک الأبصار))، و((ولا یحیطون به عِلما)) و((لیس کمِثله شیء)) ألیس محمد (ص)؟. وکیف یأتی رجل إلى الخلق جمیعاً، فیخبرهم أنّه جاء من عند الله، وأنّه یدعوهم إلى الله بأمرالله، ثم یقول: أنا رأیته بعینی، وأحطت به علماً، وهو على صورة البشر، أما یستحون، ما قدرت الزنادقة أن ترمیه بهذا أن یأتی عن الله بشیء ثم یأتی بخلافه من وجه آخر. وأراد السائل إثارة الشبهة حول جواب الامام الرضا (علیه السلام)، فقرأ قوله تعالى: (( ولقد رآه نزلة أخرى)). فردّ الامام (ع) على السائل بحزم، بقوله إن محمداً بعد هذه الآیة ما یدل على ما رأى، حیث قال تعالى: ((ما کذب الفؤاد ما رأى))، ویعنی: ما کذب فؤاد محمد (ص) ما رأت عیناه، ثم اخبر بما رأى،فقال: ((لقد رأى من آیات ربه الکبرى))، فآیات الله عزّ وجل غیر الله، خاصة وقال تعالى:((ولا یحیطون به عِلماً))، وفاذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم، ووقعت المعرفة. فعلَّق السائل، متسائلاً: فتکذّب بالروایات؟ فأجابه الامام (ع) مفنّداً: إذا کانت الروایات مُخالفة للقرآن کذّبت بها، وما أجمع المسلمون علیه، أنّه لا یُحاط به علم، ولا تدرکه الأبصار، ولیس کمثله شیء (11). وردّاً منه (ع) على من طلب إلیه ان یصف الله تعالى، قال: من یصف ربّه بالقیاس، لا یزال الدهر فی الألتباس، مائلاً عن المنهاج، ظاعناً فی الإعوجاج، ضالاً عن السبیل، أعرّفه بما عرّف به نفسه من غیر رؤیة، واصفاً بما وصف به نفس من غیر صورة، لا یُدرک بالحواس، ولا یُقاس بالناس، معروف بغیر تشبیه، فهو قریب غیر ملتزق، وبعید غیر متقص، یُعرف بالآیات، ویثبت بالعلامات، فلا إله غیره الکبیر المُتعال (12). إنه الامام الهمام الضلیع بکل الحقول الدینیة والعقائدیة والشرعیة والکلامیة، بحیث لم یفتْه أی فنَّ من الفنون العلمیة والفلسفیة والکلامیة، مما أثار جدلاً فی عصره، وتأکَّد لمختلف أصحاب وأتباع المذاهب العقائدیة والفقهیة، إنّه أعلم أهل زمانه، وأرفعهم مرتبة، وأعلاهم درجة، ولا یضاهیة فی المستوى، أکبر العلماء فی عصره، وهی شهادة بحقه من کبار العرفاء والفقهاء حتى من المخالفین. أجوبة تثیرإعجاب الجمیع حضر جمع من العلماء والفقهاء مجلس المأمون وعنده الامام الرضا (علیه السلام)، حیث سأله المأمون عن قوله ان الانبیاء معصومون، فیما یقول تعالى:((فعصى آدم ربّه فغوى)). فأجابه الامام (ع) جواباً شافیاً من خلال الآیات القرآنیة الکریمة، إذ إن الله تبارک وتعالى قال لآدم: ((اسکن أنت وزوجک الجنّة وکلا منها رغداً حیث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة)). وأشار لهما إلى شجرة الحنطة: ((فتکونا من الظالمین))، ولم یقل لهما أن لا یأکلا من هذه الشجرة، ولا مما کان من جنسها ، فلم یقربا تلک الشجرة وإنما أکلا من غیرها لما أن وسوس الشیطان إلیهما، وقال:((ما نهاکما ربکما عن هذه الشجرة))، وإنما نهاکما أن تقربا غیرها، ولم ینهکما عن الأکل منها: ((الا أن تکونا ملکین أو تکونا من الخالدین وقاسمهما انی لکما من الناصحین))، ولم یکن آدم وحواء شاهدا قبل ذلک من یحلف بالله کاذبا: ((فدلاهما بغرور فأکلا منها))، وکان ذلک من آدم قبل النبوة، ولم یکن ذلک بذنب کبیرا یستحق به دخول النار، وانما کان من الصغائر الموهوبة التی تجوز على الأنبیاء قبل نزول الوحی علیهم، فلما إجتباه الله تعالى وجعله نبّیاً، وکان معصوماً لا یذنب من الصغائر أو الکبائر، قال الله عزّ وجلّ:((وعصى آدم ربه فغوى ثم أجتباه ربّه فتاب علیه فهدى))، وقال تعالى: ((ان الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهیم وآل عمران على العالمین)). فسرّ المأمون لإجابة الامام (ع)، شاهداً بأن علی الرضا (ع)، ابن رسول الله حقاً (13).
(1)المناقب 404:2 (2)أعیان الشیعة4ق3/194 (3)أعیان الشیعة 4ق3/104 (4)الاحتجاج 2: 225 (5)عیون أخبار الرضا2: 75 (6)عیون أخبار الرضا1: 134 (7)الفصول المهمة 238 (8)فضائل الامام علی 235 (9) بحار الأنوار 17: 207 (10)التوحید 98 (11)التوحید 112 (12)التوحید 47 (13) فی رحاب أئمة أهل البیت – ص 129 – 130
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,618 |
||