الإمام الرضا (ع) والدفاع عن القرآن | ||
الإمام الرضا (ع) والدفاع عن القرآن الشیخ الدکتور طلال الحسن: أستاذ فی علوم القرآن روى الصدوق (ره) فی العیون، قال: ذکر الرضا (ع) یوماً القرآن فعظم الحجة فیه والآیة والمعجزة فی نظمه، قال: (هو حبل الله المتین، وعروته الوثقى وطریقته المثلى، المؤدی إلى الجنة، والمنجی من النار) . (1) وجاء فیما کتبه الإمام الرضا (علیه السلام) للمأمون فی محض الإسلام وشرائع والدین: (والتصدیق بکتابه الصادق العزیز الذی {لا یَأْتِیهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِیلٌ مِنْ حَکِیمٍ حَمِیدٍ} (2) ـ وأنه المهیمنُ على الکتب کلها، وأنه حق من فاتحته إلى خاتمته، نؤمن بمحکمه ومتشابهه، وخاصه وعامه، ووعده ووعیده، وناسخه ومنسوخهِ، وقصصهِ وأخباره، لایقدر أحد من المخلوقین أن یأتی بمثله).(3) إنّ الحدیث عن أهل البیت (ع) هو حدیثُ عن القرآن الکریم، والحدیث عن القرآن الکریم هو الآخر حدیثٌ عن أهل البیت (ع) بموجب حدیث الثقلین الذی رواه الفریقان معاً، فهما لایفترقان أبداً علماً وعملاً، شکلاً ومضموناً، ظاهراً وباطناً، أولاً وآخراً، بل هما لایفترقان فی الحدیث أیضاً . وإذا صحَّ التعبیر فإنهما کالمادة الفلسفیة الأولى والصورة الجسمیة، فکما أن الصورة الجسمیة الفلسفیة تُخرج المادة من عالم القوة إلى الفعل وترفع الإبهام عنها فتشخّصها فکذلک دور أهل البیت (ع) هم المسؤولون عن إخراج النظریات القرآنیة وإسقاطها على الواقع العلمی، فیُشخّصون ما کان غائباً عن العامة ـ وأعنی بالعامة: کلّ من لم یصل إلى رتبة العصمة ـ . وکما أن دورَ المادةِ الأولى هو أنها تُعیّنُ الصورةَ الجسمیة فکذلک القرآن بالنسبة لأهل البیت (ع) فإنه شخّصهم للناس أجمعین، فأبصر نورَهم وملامحهم من کان رائده الحق، وغاب عنهم من کان رائده الضلال المبین . إن هذا الدور المُتبادّل یُمکن تلمسُ فی القرآن والسنة الشریفة، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ}.(4) فالدور التبیینی هو حجر الزاویة فی حرکة المعصوم القرآنیة، وهو دور اضطلع به أهل البیت (ع) وأعنی: الرسول الأکرم (ص) والعترة الطاهرة بمعیة السیدة فاطمة الزهراء (علیهم السلام) . إنه دور تشخیصی دونه تعم الفوضى والضلال المبین. وفی قبال التشخیص المعصومی للقرآن الکریم یقف الدور القرآنی بالنسبة للمعصوم (ع) وهو الدور التعیینی الذی اختصره القرآن الکریم بآیة الولایة، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِیُّکُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَیُؤْتُونَ الزَّکَاةَ وَهُمْ رَاکِعُونَ}. (5) إنه دور مُتبادل برّزه لنا القرآن الکریم بقوة، وهکذا الحالُ فی السنة الشریفة التی بالغت کثیراً فی رسم ملامح هذا الدور الإلهی المعصومی، بل إنه کان من أولویاتها المقدسة. وهنا نکتفی بحدیث واحد بغیة الإختصار، عن سدیر، عن أبی جعفر الباقر (ع) قال: قلت له: جعلت فداک ما أنتم ؟ قال (ع): (نحن خزانُ علم الله، ونحن تراجمةُ وحی الله، ونحن الحجة البالغة على من دون السماء ومن فوق الأرض). (6) الدور التبیینی الرضوی للقرآن الکریم الدور التبیینی الرضوی للقرآن الکریم الذی من خلاله دفعت عدةُ شبهاتٍ وضلالاتٍ حاول إثارتها البعضُ، ممن عاشوا فی عصره (ع) أو سبقوه بذلک .هنا بین أیدینا ثلاثُ مفردات تُؤلف هذا الموضوع، وهی : 1 ـ الإمام الرضا (ع) . 2 ـ الدفاع . 3 ـ القرآن الکریم . ان القرآن الکریم هو المدار الأول لحرکة الإنسان التکاملیة فی بُعدیها التکوینی والتشریعی، وهو المرجعیة الأُولى لکل المسلمین، بل لکل إنسان، بل لکل مُمکن متحیز فی دائرة الوجود، فهو کما وصفه الرسول الأکرم (ص): ( هو الذکر الحکیم والنور المبین، والصراط المستقیم، فیه خبرُ ما قبلکم، ونبأ ما بعدَکم، وحکمُ ما بینکم، وهو الفصل لیس بالهزل).(7) وکفاه شرفاً أن تجلّى الله فیه لخلقه ولکنهم لایشعرون، عن الإمام جعفر الصادق (ع): ( لقد تجلى الله لخلقه فی کلامه، ولکن لایبصرون) .(8) هاتان مفردتان واضحتان، وأما مفردة الدفاع والدفع فإنهما مصدران لدَفَعَ، وهو مذهب سیبویه . وقال أبو حاتم السجستانی النحوی المُقرئ: دافَع ودفَع بمعنى واحد.(9) وفی ذلک قرأ نافع قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} (10) قرأها: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ}. والدفاع یقع فی قبال الرفع، والرفع مصدر یستعمله أهلُ العلم فی الإشکال الوارد أو الواقع ویُراد إخراجه أو التخلص منه، فیُقال عنه: ورَفعُ الإشکال یکون بکذا . وأما الدفع فهو التخلص من الإشکال قبل دخول أو وقوعه، وقد یعبر عن هذا الحال بما عُرف عنهم بـ: دفع دخلٍ مُدر، فیُقال دفع ولا یُقال رفع . فیکون الدفع الشیء من باب السالبة بانتفاء المحمول، أی: لا إشکال من الأساس فی البین. هذه النکتة تُوصلُنا إلى أن فی موارد دفع الشبهات عن القرآن الکریم تُستعمل کلمةُ الدفع لا الرفع، أی لا إشکال ولا شُبهة من الأساس فی البین . وهذا واضح لقوله تعالى: {لا یَأْتِیهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِیلٌ مِنْ حَکِیمٍ حَمِیدٍ}.(11) ولکن یبقى السؤال المهم وهو : هل یحتاج القرآن الکریم إلى دفع ودفاع عنه ؟ . الحقیقة أن القرآن بما هو هو لایحتاج البتةَ إلى ذلک، فمن أین جاءت الحاجة؟. إنما تولدت الحاجة للدفاع عن القرآن الکریم نتیجة البعد عن المُبیِّن له، وصال وجال العقلُ القاصرُ فیه، فکان من الطبیعی جداً أن تبرز عشرات بل آلاف الإشکالات على مر الزمن، وحیث إن هذه الإشکالات لیست بشیء فقد استُعمل فی حقها الدفاع والدفع. دور الإمام الرضا (ع) فی الدفاع عن القرآن الکریم : یُمکن إجمال الدور الرضوی فی دفاعه عن القرآن بثلاثة أُمور : 1 ـ إجاباته المباشرة عن الشبهات المطروحة أمامه من قبل أعوانه والموافقین عموما. فهنالک سؤال یطرحه الموافق ویتصدى الإمامُ (ع) للإجابة عنه، وهذا النوع من الإجابات لایرد فیها احتمالُ التقیة عادة . 2 ـ إجاباته المباشرة عن الشبهات المطروحة أمامه من قبل المخالفین، وهذا النوع من الإجابات لایرد فیها احتمالُ التقیة عادة. 3 ـ التصدی المباشر للشبهات من خلال عرضها أمام جمع من الحضور ثم الإجابة عنها، وهذا النوع من الإجابات لایرد فیها احتمال التقیة عادة، بنکتة مبادرته (ع) لطرح السؤال ثم الإجابة عنه. وهنا فی هذا النوع الثالث من التصدی یقوم الإمام (ع) بدورین أساسیّین هما : أ ـ دور السائل . 2 ـ دور المُجیب . کان الإمام الرضا (ع) فی النوعین الأول والثانی یؤدی دور المجیب فقط، وإما فی هذا النوع الثالث فإنه یؤدی دور السائل والمجیب معاً . ونحن هنا سوف نقف على عینات وشواهد توضیحیة تُبینُ من خلالها النوع الأول من تلک الأنواع الثلاثة من التصدی فیما یتعلق بالدفاع عن القرآن الکریم. النوع الأول: الإجابات المباشرة عن شبهات طرحها الموافقون . الشاهدُ الاُولى: عن علی بن الحسن بن علی بن فضال، عن أبیه، عن الرضا علی بن موسى (ع) قال: سألته عن قول الله عز وجل: {اللَّهُ یَسْتَهْزِئُ بِهِمْ...} (12) وعن قوله :{ومکرُوا ومکرَ اللهُ...}(13) وعن قوله {...یخادعُون الله وهو خادعهمْ...}(14)، فقال (ع): ( إن الله تبارک وتعالى لا یسخر ولایستهزئ ولا یمکر ولا یخادع، ولکنه عز وجل یجازیهم جزاء السخریة، وجزاء الاستهزاء وجزاء المکر والخدیعة، تعالى الله عما یقول الظالمون علواً کبیرا) . (15) فهنا تُثار شُبهات خفیةٌ تمسُّ العرضَ القرآنی، حیث یصف القرآنُ الله سبحانه بأنه له مکر وخداع واستهزاء . وهذا الأوصاف بصورتها الظاهریة تتنافى مع أسماء الله وصفاته ولذلک أوجدت شبهة انعکست على العرض القرآنی، فأصبح یُقال بأن اتهام الله تعالى ووصفهُ بهذه الأوصاف غیر المناسبة لمقامه کاشف إنّی على عدم وصحة الصدور . وهنا نجد الإمام الرضا (ع) یتصدى لیُبینَ الموقفَ الصحیحَ بأن القرآن لا شبهةَ فیه فیما حکاه عن الله تعالى. فمکرُ الله وخداعُه واستهزاؤه متعلّقة الجزاءُ لا نفسُ الله تعالى، فلیس الله هو المخادع أو الماکر ( والعیاذ بالله)، فجزاؤهم على السخریة والمکر والخداع هو ما یقتضیه کل ذلک، وإنما صار الفاعل فی المقام هو الله تعالى لأنه هو المُجازی لا غیر . الشاهد الثانی: إنه فی الوقت الذی بدأت فیه فتنةُ خلقِ القرآن فی عهد المأمون واشتدّت فی عهد المعتصم، حیث کانوا یُعاقبون من لا یقولُ بخلق القرآن، وقد سلک العلماء ومن یُنسب إلیهم ذلک مسلکین، هما : 1 ـ القول بقدم القرآن، وهو قول الأشاعرة، وقد التزم بذلک بشکل رسمی فی زمن الفتنة المُحدّث أحمد بن حنبل. 2 ـ القول بخلق القرآن، وهو قول المعتزلة العدلیة، وقد کان المأمون معتزلیاً وبالغ المعتصم فی إعتزالیته فاشتدت الفتنة فی عهده، حتى وصل المقام بهم أنهم أخذوا یُبسملون الکتب بـ ( بسم خالق القرآن) بدلاً من البسملة المعهودة. وهنا فی ذلک الزمن الصعب نجد الإمام الرضا (ع) یتصدى لذلک لیبینَ الموقفَ بصورة یُبطل فیها مقولة الحنابلة والأشاعرة ـ نحن نستعمل مصطلح الأشاعرة اضطراراً وإلا فإنه فی عهد الإمام الرضا لایُوجد شیء اسمه أشاعرة، ولکننا عنینا به اتجاهاً عقائدیاً معیناً قائماً إلى ساعتنا هذه، تلک جدوره ـ إذن الإمام بصدد تقدیم جواب یُبطل به مقولة الإشاعرة، وکذلک لایستفید منها العباسیون الذین کانون یدّعون الاعتزال لبعده السیاسی آنذاک لأنه یُمثل اتجاهاً یتقاطع تماماً مع اتجاه ومسلک الأمویین. فما هو الجواب الذی سیدافع فیه الإمام الرضا (ع) عن القرآن ویُبطل فیه مقولة الأشاعرة والمعتزلة. یروی لنا الشیخ الصدوق عن الحسین بن خالد، قال: قلت للرضا (ع): یا بن رسول الله، أخبرنی عن القرآن، أخالق أو مخلوق ؟ فقال (ع): ( لیس بخالق ولا مخلوق، ولکنه کلام الله ) . (16) وهنا نکات عقدیة وفلسفیة وتربویة فی هذه الإجابة القصیرة الیسیرة، حیث جنّبنا الإمام الرضا (ع) الوقوع فی متاهات لازال یئنَ منها الأشعریون، ومن اتهامات لازالت تُصیب مواضع المعتزلة. فالأشاعرة لا یجدون لهم مخلصاً حقیقیاً فی تصویر معنى القدم، باعتبار أن الله تعالى هو القدیم وحده ولا قدیمَ آخر معه، فإما أن یکون القرآن هو الله لکی یبقى مصداق القدیم واحداً، وهم أنفسهم لا یتلزمون بذلک، وإما أن یقولوا بحدوثه وعدم قدمه فتبطل مقولتهم من الأساس، والمظنون هو أن ابن حنبل أراد بمقولته تلک معارضة السلطة القائمة آنذاک، ولا یُعلم سبب المعارضة تلک بنحو دقیق ولکننی أحتمل أنه أراد الطعن بالمأمون والمعتصم لأنهما کانا یُقربان العلویین ولو بصورة ظاهریة، وهذا غیر مرضی له، إما لأمویته الدفینة أو لحاجة فی نفس یعقوب تتعلق بالولاء العلوی. وأما المعتزلة فإنهم وصفوا القرآن بما یتصف به الموجود المادی الذی هو قابل للتلف والهلاک، وکون القرآن مخلوق یُعطى هذا المعنى السیء، وإن کنا نحن الشیعة نلتزم ضمنا بلوازم ذلک، حیث إننا نقول بأن القرآن حادث، والحادث ینسجم مع کونه مخلوقاً لا أنه قدیم، ولکن التعبیر بالحادث یدفع شبهة التلف والإعدام وقابلیة الهلاک الضیاع. وهنا نود الوقوف عند هذه النکتة التربویة الأخلاقیة المهمة، وهی عدم وصف القرآن بشیء یقدح فیه أو یسیء إلیه، نظریاً وعملیاً . والذی یهمنا هو البعدُ العملی، ومن تلک الأوصاف التی نُحملها للقرآن بصورة عملیة هی عَیْشَ القرآن فی المکتبات المادیة لا فی العقول والقلوب، و هذا ما یُسمى قرآنیاً وروائیاً بهجرة القرآن، أی: هجرتنا نحن للقرآن . قال تعالى: {وقال الرسولُ یا ربِّ إن قومی اتخدوا هذا القرآن مهجوراً}(17) والقرآن یُهجر فی موارد عدیدة، أهمها : 1 ـ ترک القرآن جملة وتفصیلاً، وهی الهجرة الأعظم، المتمثلة بترک القرآن تلاوة وفهماً . 2 ـ ترک القرآن تفصیلاً لا جملة، وهی الهجرة العظمى، المتمثلة بالإکتفاء بتلاوة القرآن دون فُهمه. 3 ـ ترک القرآن جملةً لا تفصیلاً، وهی الهجرة العظیمة، المتمثلة بالاکتفاء بالفهم دون المکث على تلاوته . فهنالک ثلاث هجرات، عظیمة وهی الفهم دون التلاوة، وعظمى وهی التلاوة دون الفهم، والأعظم وهی لا تلاوة ولا فَهم. اللهم أقلنا العثرات والزلات والهجرات الثلاث، وصلى الله على سیدنا محمد وآله الطیبین الطاهرین .
المصادر : ــــــــــ 1 ـ عیون أخبار الرضا (ع) للصدوق: ج 1 ص 137 . 2 ـ فصلت: 42 . 3 ـ العیون: ج 2 ص 130 . 4 ـ النحل: 44 . 5 ـ المائدة: 55 . 6 ـ الکافی الشریف: ج 1 ص 192، حدیث 3 . 7 ـ بحار الانوار ـ العلامة المجلسی ج 89 ص 27. 8 ـ عوالی اللئالی ـ ابن أبی جمهور الأحسائی: ج 4 ص 116، حدیث 181 . 9 ـ تفسیر القرطبی ـ القرطبی: ج 3 ص 259 . 10 ـ البقرة: 251 . 11 ـ فصلت: 42 . 12 ـ البقرة: 15 . 13 ـ آل عمران: 54 . 14 ـ النساء: 142 . 15 ـ التوحید للصدوق: ص 163 . 16 ـ الأمالی ـ الشیخ الصدوق: ص 639 حدیث: 12 . 17 ـ الفرقان: 30 .
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,564 |
||