تأثیر الإمام الخمینی على الحالة الثوریة فی العالم العربی | ||||
PDF (2822 K) | ||||
![]() | ||||
تأثیر الإمام الخمینی
بقلم : أحمد صبری السید/کاتب وباحث مصری إن انتصار أی ثورة جماهیریة یؤدی بکل تأکید لدفع تجربتها ونقلها إلى جماهیر الدول الأخرى التی تشارکها نفس المعاناة ، وتقوم بدورها بإعادة إنتاج التجربة وتضیف إلیها خبراتها الخاصة قبل أن تتولى تصدیرها إلى منطقة ثالثة . وإن التجربتین التونسیة والمصریة تشیران بکل وضوح إلى المعنى الجوهری لعبارة الإمام الخمینی (قده) حول تصدیر الثورة ، والذی فشلت إعلامیات الدول القمعیة فی العالم العربی فی فهمه إلا عبر عقلیاتها الأمنیة وهو ما أدى بدوره إلى فشلها فی التعامل مع حرکة الجماهیر عندما توفرت القوانین المادیة والمعنویة لانفجارها . لقد کانت تجربة الثورة الإسلامیة فی إیران ضخمة بالفعل من الناحیة الجماهیریة ، وربما کانت قوتها الأساسیة فی أنها قد قامت فی مواجهة السلطة والإمبریالیة الغربیة فی الوقت الذی کانت فیه هذه الأخیرة بأوج قوتها واندفاعها تجاه السیطرة على العالم ، الأمر الذی سمح لهذه الثورة بأن تحتفظ بتوهجها وتأثیراتها على الجماهیر العربیة والإسلامیة بشکل عام ووعیهم بقدرتهم على تحقیق الأهداف مهما کانت القدرات الأمنیة والعسکریة للأنظمة الاستبدادیة . وبالتالی یبدو من العبث محاولة نفی تأثیر الثورة الإسلامیة فی إیران وتعالیم الإمام الخمینی (قده) على الحالة الثوریة فی العالم العربی عبر الاحتجاج بالخصوصیة القومیة والمذهبیة لإیران ، خاصة أن هذه الخصوصیات لم تمثل عائقا أمام إجماع الشعب الإیرانی المتعدد القومیات والمذاهب على الانتماء للثورة ودعمها .
دورقیادة الإمام الخمینی فی انتصار الثورة کانت مبادرة الإمام الخمینی (قده) فی تحریکه للشارع الإیرانی للمرة الأولى فی محرم 1963 کرد فعل على بنود الثورة البیضاء – کما أطلق علیها الشاه – إشارة واضحة إلى ما یمتلکه من تأثیر تجاه الجماهیر وقدرة على تحریک الشارع الإیرانی فی مواجهة الشاه بکل وضوح الذی فوجئ بمظاهرات تنتقده علناً وللمرة الأولى منذ إسقاطه لمصدق فی عام 52 ، وخلا هذه الفترة کان أقصى ما تمکنت القوى المعارضة من القیام به هو قیادة الجبهة الوطنیة لإضرابات مایو 1961. بالتأکید أدرک الشاه أن وجود شخصیة کالإمام الخمینی (قده) سوف یؤسس لحرکة جماهیریة قویة نظراً لارتفاعه فوق تناقضات الحرکات السیاسیة ، وعدم انغماسه فی الأسالیب الانتهازیة التی استخدمتها هذه القوى وأدت إلى تفتتها ، وصلابته فی التشبث بما یعتقده صحیح ، وبالتالی ففی نوفمبر 1964 أتخذ القرار الذی رآه الأفضل بالنسبة له کدیکتاتور ، وهو ترحیل الإمام الخمینی (قده) إلى ترکیا لإبعاده عن الساحة فی إیران وعدم السماح له بإنزال الفکر السیاسی من حالته النخبویة إلى الحالة الجماهیریة التی تؤدی إلى نزول الناس إلى الشارع فی مواجهته ، والقضاء على کل الآثار التی ترکتها حرکته فی سنة 1963. کانت ملامسة الإمام الخمینی (قده) للواقع ونقده الصریح للأوضاع والقرارات السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة للشاه أثر واضح فی الدفع بالطبقة الوسطى والمهمشین والطبقات الکادحة إلى الساحة ، نتیجة ارتباط هذه الطبقات القوی بالمرجعیة ، ولم یکن ما فعله الإمام الخمینی (قده) سوى أنه قدم حقیقة العلاقة بین الدین وواقع المجتمع الذی یتأثر فی حرکته وتطوراته بالسیاسة والاقتصاد إلى الجماهیر وبالتالی فقد أخرجه من دائرة الحوزة إلى الدائرة الشعبیة الأکبر معتمدا على سیرة الأئمة من أهل البیت علیهم السلام . وبالتالی فرغم استخدام الشاه للإجراءات القمعیة فإن حرکة الثورة لم تتوقف نظرا لان الذی یمنحها الدفعة الأساسیة لم یتوقف کذلک ولم یقبل الحلول الوسطیة وواصل الصراع حتى فی المنفى وبعد نجاحه فی الرحیل من ترکیا إلى النجف الأشرف وطوال 15 عاماً استمرت الجماهیر مرتبطة بهذه الشخصیة التی تمکنت من صیاغة منهجیة للثورة ومواجهة الاستبداد مستمدة من الدین والسیرة المعروفة والمتیقنة للأئمة من أهل البیت (ع) ، بحیث أصبح على أتباع أهل البیت (ع) التعامل مع عقیدة الانتظار للإمام الحجة عج بإیجابیة فعالة. وبقدر ما تکون الدوافع الاقتصادیة والاجتماعیة ضاغطة للغایة فی الدفع باتجاه الثورة الجماهیریة ، وتتمکن من خلق قیاداتها العملیة ؛ فإن الثورة الإسلامیة فی إیران أثبتت قدرة الدین کذلک على الدفع الجماهیری حتى مع عدم توافر الظروف المهیئة للثورة ، عندما تتوافر القیادة القادرة على قراءته بوعی وتتحرک بمنتهى الصرامة تجاه أهداف محددة ودون مساومات وتلاعب بطموحات الجماهیر ، وهو ما لم یکن مقبولا لدى المثقفین الغربیین وخاصة المارکسیین منهم الذین اعتبروا الأیدلوجیات الدینیة صالحة للثورة الاجتماعیة فی العصور الوسطى ، والتی تمیزت بشکل عام بسیادة الفکر الدینی ، لکنها غیر قادرة على قیادة ثورة تغییر تحرریة ضد الرأسمالیة فی المرحلة الحدیثة والتی تتمیز بسیادة الأیدلوجیات العلمیة. من الممکن تصور حجم الانجاز الذی قدمه الإمام الخمینی (قده) فی صیاغته للعقیدة الفکریة التی کان لها الفضل الأول فی تحریک الثورة الإسلامیة ، والتأسیس للدولة بصورة تحافظ على استمراریة رؤیتها الفکریة ثابتة وغیر قابلة للتحریف . ومن الضروری هنا الإشارة إلى أنه بالرغم من أن طبیعة المرجعیة الدینیة عند الشیعة والتی تتمیز باستقلالها الاقتصادی عن الدولة منح الإمام الخمینی (قده) القدرة الکاملة على التحرک بشکل أفضل ، وحرم الشاه من سلاح أساسی تستغله النظم الدیکتاتوریة بشکل عام حینما ترغب فی الحد من انتشار المنظومة الفکریة أو التأیید لأی ثائر عبر اللجوء للحرمان الاقتصادی لأتباعه ، إلا أن هذه الخاصیة توفرت سابقاً للکثیر من علماء الدین کالمیرزا حسن الآشتیانی ، والسید أبو القاسم الکاشانی ومع ذلک لم یتمکنوا من تحقیق انتصارات کاملة على السلطات المعاصرة لهم (القاجاریة والبهلویة) نظراً لافتقادهم إلى صیاغة رؤیة متکاملة لفکرة الدولة ، وبالتالی فقد افتقدوا للطموح وانتهت معظم الثورات تحت قیادتهم لمطالبات إصلاحیة لم یستفد منها الشعب إلى لفترات محدودة . لقد کانت القوة التی اعتمدت علیها الثورة الإسلامیة فی إیران مختلفة تماماً ، خلفیة دینیة مذهبیة ثوریة بطبیعتها ، قیادة واعیة وتمتلک طموحاً وأهدافا ورؤیة محددة للدولة البدیلة ، وأخیراً ظروف اقتصادیة واجتماعیة سیئة وواقع سیاسی ضعیف ومهترئ أدى لدعم الغضب الجماهیری ، وهو على العکس تماما من الأسس الأصلیة لأی ثورة أخرى والتی تبدأ من السبب الأخیر عن الأوضاع الاقتصادیة والاجتماعیة وتتدرج إلى الدعم الدینی کمحتمل ولیس کأساس .
تأثیر الإمام الخمینی على الحالة الثوریة فی العالم العربی لقد شهدت الفترة ما بین 1979 حیث تمکنت الثورة من الانتصار وحتى الآن ضخ دماء جدیدة فی الثورة بالعالم العربی ضد الهیمنة الاستعماریة والتی کانت على وشک السیطرة الکاملة على الأوضاع فی الشرق الأوسط بعد توقیع معاهدة کامب دیفید مع الکیان الصهیونی من قبل السادات . والواقع أن الثورة الإسلامیة فی إیران لم تلهم الإسلامیین فقط ، فقد ألهمت کذلک التیارات السیاسیة الیساریة والقومیة التی أثار إعجابها جماهیریة الثورة واهتمام الإمام الخمینی (قده) بالجانب الاجتماعی والفروقات الطبقیة ، وهو الجانب الذی کان غائبا على الدوام فی الخطاب الدینی المصری ، وقد ظهر هذا الاحتفاء الیساری بالثورة الإیرانیة ومبادئ الإمام الخمینی (قده) فی قصائد الشاعر الیساری أحمد فؤاد نجم والتی انشدها الراحل الشیخ إمام وهی القصائد " الخالق الناطق " ، " التضلیل " ، " الأقوال المأثورة " ، " أول الکلام " و" طهران "، والتی سعت لتوضیح الصورة الحقیقیة للثورة فی مواجهة التضلیل الإعلامی الذی مارسه الإعلام الحکومی فی مصر ضد الثورة . لقد أدى نجاح الثورة الإسلامیة بجمیع التیارات المصریة إلى التوقف ودراسة آلیاتها مرة أخرى بعد أن رأت بوضوح ما یمکن أن تحققه الجماهیر الصامتة فی العالم الشرقی والذی لم یعتد مثل هذا النوع من الثورات المنفصلة عن الجیش ، خاصة أن نجاح الثورة جاء فی المرحلة التی کانت التیارات السیاسیة القومیة والیساریة قد تلقت فیها ضربات قاسیة للغایة . والواقع أن مصر کانت الدولة المرشحة للتأثر الأکبر بالثورة الإسلامیة فی إیران نظرا للظروف المتشابهة بین البلدین من حیث قدرة الحکومة على إماتة صوت التیارات السیاسیة ، إلا أن الفارق الأساسی بین الدولتین أظهره الباحث الأمریکی باری روبن فی کتابه " التطرف الإسلامی فی السیاسة المصریة "، فبینما کان الإمام الخمینی (قده) یمتلک برنامجا اجتماعیا واضحا یعتمد على تراث واضح من الانحیاز للطبقات المستضعفة ، لم یکن أحد مشاهیر الدعوة الإسلامیة کالشیخ عبدالحمید کشک (ره) یشیر من قریب أو بعید إلى کیفیة القضاء على الفساد الذی ینتقده بسخریة لاذعة سوى ضرورة تطبیق الحکم الإسلامی ، وحتى فی هذه النقطة لم یوضح آلیات تحقیق هذه الأمنیة ، وبالتالی بقیت خطبه فی النهایة مشهد حاد ینتهی فی المسجد على حد تعبیر الکاتب. فی المقابل کان التأثیر الأبرز للإمام الخمینی (قده) یبدو أکثر وضوحا فی العراق والشام والخلیج الفارسی ، حیث تواجدت فی هذه المناطق الأرضیة المؤهلة لتلقیها ونموها فی ظروف قد تکون شبیهة ، ورغم أن کل من العراق ولبنان على سبیل المثال کانت توجد به حرکات إسلامیة فاعلة حتى قبل انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران ، إلا أنها بکل تأکید حصلت على دفعة قویة وروح جدیدة فی مواجهة الأوضاع القائمة بعد الثورة ، سواء من الناحیة المعنویة لدى الجماهیر والقیادات أو من خلال انتقال خبرات العمل والأداء والفکر السیاسی إلیها ، کما تأثرت بکل تأکید برؤیة الإمام الخمینی الفقهیة والسیاسیة ، ففی العراق أید الشهید محمد باقر الصدر (قده) والذی رعى الحرکة الإسلامیة فی العراق فکرة ولایة الفقیه ، التی نادى بها الإمام الخمینی (قده) منذ سنة 1969 ، واستمر تأییده هذا حتى استشهاده سنة 1980وبناء على هذه النظریة قامت الجماهیر العراقیة بانتفاضتی صفر سنة 1977 ، ورجب سنة 1979 ضد الدیکتاتوریة البعثیة . وبالتأکید کان من الطبیعی أن یمتد هذا التأثر إلى باقی الدول الخلیجیة وخاصة البحرین التی برزت فیها الحالة التقدمیة الإسلامیة بشکل فاعل ، واعتمدت فی معظمها على تأثیر الثورة الإسلامیة وما حملته من أفکار الإمام الخمینی والتی مثلت الأساس الذی قامت علیه هذه الحالة ، خاصة أنها لم تنشأ بالفعل إلا بعد نجاح الثورة الإسلامیة، فی الوقت الذی کانت فیه الساحة قاصرة سابقا على القوى القومیة (ناصریة وبعثیة) والیساریة (لینینیة ، ماویة) خاصة أن هذه التیارات بدأت نشاطها منذ الستینات وأثناء المواجهة مع الاحتلال الانجلیزی. والواقع أن قدرة التجمعات الإسلامیة المتأثرة بفکر الإمام الخمینی (قده) على إیجاد الأرضیة المشترکة بینها وبین الآخر الأیدیولوجی ، بالإضافة لقدرتها على التعایش مع الواقع السیاسی والالتزام به هو دلیل رسوخ الحالة الوطنیة لهذه التجمعات بکل تأکید . فی کتابه " الخمینی .. الحل الإسلامی والبدیل " والذی صدر فی 122 صفحة عام 1979 یبدی الشهید فتحی الشقاقی إعجاباً هائلاً بالإمام الخمینی (قده) وقدرته على تحریک الشعب الإیرانی فی المقدمة " جاء شتاء 78 .. لم یکن بارداً تماماً .. فقد جاء الربیع مبکراً إلى إیران .. إنه ربیع الثورة یتسلل بروعة تاریخیة لم تسجل من قبل .. ذکی الخطوات .. یتسم بوعی عصری وجمال عاشق .. إن للعمائم السوداء دور فی الربع الأخیر من القرن العشرین .. وللطرحات النسائیة السوداء دور أیضاً .. ووقف العالم مشدوهاً وهو یرى السیدة الإیرانیة تهبط من جبال قم وشیراز وتبریز إلى شوارع طهران .. رافعة قبضتها فی وجه العسکر ... ووقف الإعلام الغربی وتلامذته حائرین متخبطین .. یغمسون أقلامهم فی مداد الشیطان لیکتبوا عن آیة الله الذی التف حوله ملایین الجماهیر العطشى للحریة والعودة إلى الله ... ووقف الکومبیوتر الأمریکی عاجزاً عن فهم علاقة استشهاد الحسین منذ أکثر من 1300 عام بسقوط نظام کان یعتبر أکثر النظم العصریة فی غرب آسیا ". الواقع أن هذا الانبهار الواضح بما یحدث فی إیران والذی صدر قبل انتصار الثورة بنی قاعدته على أساس من التقارب فی الفترة الأخیرة (أی السابقة على الثورة) بین الشیعة والسنة کما أشار فی ذات المقدمة ، فی محاولة للتجاوز على ما کان یسعى السلفیون لنشره فی هذه الفترة من تشویهات للشیعة عندما شعروا باقتراب الثورة. ویشیر الشقاقی فی صفحة 30 من کتابه إلى تمیز الثورة الإسلامیة ومبادئ الإمام الخمینی (قده) والمتمثل فی القدرة على إیجاد صیاغة ثوریة للفکر الإسلامی لتحویله من ثرثرة مثقفین إلى مجال لتعبئة الجماهیر والتواصل معها وربطها بالحرکة للحفاظ على تاریخها وتراثها ومصالحها؛ هذا التمیز یقوم – من وجهة نظر الشقاقی – على الحوار الداخلی والنقد الذاتی ، وفی هذه الجزئیة یرى الشقاقی أن الحرکة الإسلامیة بصفة عامة لدیها حساسیة شدیدة تجاه النقد ، وهو ما تمکن الإمام الخمینی (قده) من تجاوزه بالفعل. وفی خاتمة فصله عن الإمام الخمینی یؤکد الشقاقی أن الثورة الإسلامیة فی إیران هی ثورة إسلامیة بمعناها القرآنی الرحب : " إنها لیست ثورة طائفة دون طائفة ، إن القواسم المشترکة بین جناحی المسلمین السنة والشیعة لتکاد بل هی فعلاً تشکل جسد هذه الثورة بدءا من منطلقاتها وأهدافها ووسائلها وبواعثها .. إن الخلاف المطروح بین أهل السنة والشیعة حول إمامة الأئمة الاثنى عشر وعصمة الأئمة لا یشکل – لا سلباً ولا إیجاباً – أی تأثیر فی طبیعة الثورة ومسارها ". الواقع أن مما تمیز به فکر الإمام الخمینی (قده) الثوری ، هو قدرته على تجاوز الحالة المذهبیة التی کانت طاغیة فی العالم الإسلامی ، والانفتاح على الآخر المسلم دون حدود ، وهو ما سمح للوسط السنی بالاستفادة من هذا الفکر والتأثر به ، وإذا کان من المقبول أن یتم هذا التأثر من الجانب القومی والیساری نظراً للخلفیة العلمانیة لکلا الفکرین التی لا ترى إشکال بالأساس فی الاستفادة من أی طروحات حتى لو کانت دینیة ، فإن هذه القدرة على تجاوز الحالة المذهبیة فی الشرق والتی اختزنت قرون من الاضطهاد والنفی المتبادل للآخر لم تکن لتحدث لولا ما اتسم به هذا الخطاب من شمولیة إنسانیة وإسلامیة أثبتت مصداقیتها بشکل واضح من خلال التجربة العملیة . ومع قیام الثورة الإسلامیة فی إیران وجدت الأفکار الثوریة للإمام الخمینی (قده) التربة الملائمة للتأثیر فی الأوضاع خاصة أن أوضاع المقاومة بشقیها الفلسطینی واللبنانی فی لبنان کانت سیئة للغایة نتیجة ظروف الحرب الأهلیة والتی أرادت أمریکا والکیان الصهیونی دفن القضیة الفلسطینیة عن طریقها. و فی هذه المرحلة رأى بعض علماء الدین الذین تأثروا بنهج الإمام الخمینی (قده) تأسیس تشکیل إسلامی یکون مرتبطاً بهذا النهج ومتأثر بتجربته الجدیدة مع الحفاظ على الخصوصیة اللبنانیة ، وتمحور هذا المشروع حول ثلاثة أهداف : 1- الإسلام هو المنهج الکامل الشامل الصالح لحیاة أفضل ، وهو القاعدة الفکریة والعقائدیة والإیمانیة والعملیة التی یُبنى علیها هذا التشکیل . 2- مقاومة الاحتلال الإسرائیلی کخطر على الحاضر والمستقبل ، وله أولویة المواجهة ، لما له من أثر على لبنان والمنطقة ، وهذا یستلزم إیجاد بنیة جهادیة تُسخَّر لها کل الإمکانات للقیام بهذا الواجب . 3- القیادة الشرعیة للولی الفقیه کخلیفة للنبی (ص) والأئمة (عم) ، وهو الذی یرسم الخطوط العریضة للعمل فی الأمة ، وأمره ونهیه نافذان. کان تأسیس المقاومة الإسلامیة فی لبنان على المستوى العسکری والسیاسی هو التمثل الأکبر لأفکار الإمام الخمینی (قده) على أرض الواقع ، والذی سمح باستمرار المقاومة انطلاقاً من الأراضی اللبنانیة بعد أن کان العدو الصهیونی قد تمکن بالفعل من طرد المقاومة الفلسطینیة من لبنان أثر الحرب الأهلیة اللبنانیة ، وبدا أن هذا المشروع قد انتصر بالفعل لولا استمرار المقاومة الإسلامیة الممثلة فی حزب الله وبروزها فی الفترة اللاحقة بالمشارکة مع جبهة المقاومة الوطنیة اللبنانیة (جمول) والتی توقف نشاطها فی التسعینات نتیجة لبعض التعقیدات السیاسیة وسقوط الاتحاد السوفیتی فی هذه الفترة ، وقد انضم بعض مقاتلیها خاصة من الحزب الشیوعی اللبنانی إلى صفوف المقاومة الإسلامیة، بینما تمکنت المقاومة الإسلامیة من مواصلة نشاطها والذی کلل فی النهایة بانتصار المقاومة وانسحاب الکیان الصهیونی من جنوب لبنان فی مایو 2000 ، ثم الانتصار مرة أخرى علیه فی حرب تموز 2006 .
ما بعد التأثیر إن الجماهیریة الکبرى التی حظت بها الثورات فی البلدان العربیة إنما کانت عبر إیمان النخب بقدرة الجماهیر على التغییر على نفس النسق الذی رأوه فی الثورة الإسلامیة ، کما أن الثوار فی مصر على سبیل المثال استخدموا بعض الآلیات التی لجأ إلیها الإیرانیون کالانطلاق من المساجد یوم الجمعة ، وقیام البعض بارتداء الأکفان یوم 8 فبرایر بمیدان التحریر کدلیل على الاستعداد للاستشهاد فی سبیل الحریة، ومثل هذه الوسیلة لیست متواجدة فی التراث المصری ولم یلجأ إلیها المصریون فی الانتفاضات الجماهیریة السابقة وخاصة سنة 1919 أو انتفاضة الخبز فی السبعینات ، وإنما هی بالتأکید انتقلت إلى وعیهم وثقافتهم عبر الثورة الإسلامیة فی إیران والتی استخدمت ومازالت تستخدم هذه الوسیلة نقلاً عن التقالید والأعراف المتبعة فی المواکب الحسینیة منذ فترات زمنیة طویلة . وإذا کانت هذه الثورات لم تحمل نفس شعارات الثورة الإسلامیة المعادیة بوضوح لأمریکا والکیان الصهیونی لظروفها الخاصة ، فإنها بالتأکید اختزنت فی وعیها هذا العداء المتجذر للإمبریالیة الأمریکیة والصهیونیة ، والتی برزت بوضوح عبر المطالبات بإیقاف مد هذا الکیان بالغاز المصری ، ومحاصرة سفارة الکیان الصهیونی یوم 8 أبریل الماضی ، ورغم أن الشعوب العربیة بصفة عامة لا تحتاج لتعلم کراهیة الکیان الصهیونی من أی ثورة أخرى ، فإن مرور ثلاثین عاماً من الاستسلام الصامت کان کفیلاً على الأقل بإماتة فکرة المواجهة مع هذا الکیان ، لو مرت دون انتصارات حقیقیة تشیر إلى حقیقة ضعفة فی المواجهة الحقیقیة مع منظومة ثوریة غیر فاسدة ، ولم یتم هذا سوى عبر إنجازات المقاومة فی لبنان وفلسطین والتی بدورها تأثرت کثیراً بالثورة الإسلامیة کما تابعنا ، وربما یکون من الضروری الإشارة إلى أن التحرک الأول والذی یعد الممهد للثورة المصریة کان فی 6 أبریل من العام 2008 خلال الفترة التی شهدت فیها مصر حالة من التفاعل السیاسی عقب انتصار المقاومة الإسلامیة فی لبنان على الکیان الصهیونی بحیث تحول السید حسن نصر الله إلى السیاسی الأکثر شعبیة بین المصریین ، وهو ما أدى لاستفزاز الحکومة المصریة فی عهد مبارک وقامت فی رد فعلها ببعض التصرفات التی اثارت السخریة.
ما أنجزته تعالیم الإمام الخمینی فی العالم العربی إن الإنجاز الأساسی الذی قامت به الثورة الإسلامیة فی إیران وتعالیم الإمام الخمینی (قده) هو قیامها بالتأسیس للتجربة الجدیدة للمقاومة والتی تقوم على النضال من اسفل عبر الانطلاق من خلال قناعات القواعد الجماهیریة ، وهی المیزة الأساسیة للثورة الإیرانیة ، والتی نقلتها کذلک کفکرة وآلیة عمل لدى الحرکات التی تأثرت بها ، وبالتالی فإن هذا التمیز هو ما یفسر قدرة هذه الحرکات الثوریة على تحقیق نجاحات کبیرة سواء من الناحیة المیدانیة أو الجماهیریة . لقد کانت الثورة الإسلامیة فی إیران فعلاً استثنائیاً فی منطقة الشرق الأوسط ، لم یکن متوقعاً على الإطلاق فی هذه الفترة ، ولا کانت الأوضاع فی هذه الفترة من الممکن أن تؤدی إلیه ، وبالتالی ترک أثره على کافة الحرکات السیاسیة فی العالم العربی بحیث لا یمکن الادعاء بأن هناک حرکة سیاسیة لم تتأثر بشکل أو بآخر بهذا الدوی الذی أحدثته الثورة وتعالیم الإمام الخمینی الذی بدا زعیماً مثیراً للدهشة وعلى غیر العادة فی هذه المناطق التی اعتادت طوال فترات الخمسینات والستینات على الزعماء العسکریین وانقلاباتهم التی تسمى لاحقاً فی إعلامیاتهم بالثورات . وبقدر ما کانت غرابة الحالة الجدیدة على الشرق ، کان التأثر أیضاً ضخماً رغم کل المحاولات التی بذلتها القوى الدولیة لامتصاص وهجها الثوری عبر إغراقها فی حرب مفروضة مع النظام العراقی ، إلا أن هذا الوهج الثوری استمر وتمکن من الحفاظ على حالة النهوض بکل المنطقة التی ارتکنت على قوة دفع هذه التجربة بکل ثقلها بعد أن انسحب الیسار فی التسعینات من المواجهة المسلحة عقب تفکک الاتحاد السوفیتی ولجوء بعض الدول کالصین للسیاسات البراجماتیة إلى درجة الاعتراف بالکیان الصهیونی سنة 1991 بهدف الحصول على تقنیات عسکریة غربیة وأمریکیة عن طریقه ، بالإضافة للتکنولوجیا الغربیة المتطورة والتی لا تستطیع الحصول علیها من الغرب . ومن الغریب أنه فی الوقت الذی أصبحت فیه الولایات المتحدة قطباً أوحد فی العالم ، بحیث تصور الکثیرین أن القضیة الفلسطینیة قد انتهت تماماً خاصة عقب قبول قیادة منظمة التحریر سنة 1991 التفاوض واضطرارها للفرح بالعظمة التی ألقیت لها عبر تأسیس جزر منعزلة فی الضفة الغربیة وغزة ، فإن هذا الوهج الثوری لأفکار الإمام الخمینی الثوریة کان یدفع لتحقیق أحد أهم الانتصارات القاسیة على الکیان الصهیونی تحقق بشکل مدوی فی مایو 2000 لتتحقق فیما بعد سلسلة من الانتصارات المیدانیة والسیاسیة أدت فی النهایة إلى وضع متأزم بالنسبة لهذا الکیان أصبح فیه یعید وضع علامات الاستفهام مرة أخرى حول إن کان سوف یکون قادراً على البقاء فی المستقبل ، بعد أن کان هذا التساؤل قد انتحى تماماً . یبقى فی النهایة الإشارة إلى أن انتصار الثورتین المصریة والتونسیة ، واشتعال الوهج الثوری فی المنطقة ککل إنما یعد تتویجاً لدعوة الإمام الخمینی (قده) لکل الشعوب المستضعفة بضرورة الثورة على کل النظم الحاکمة الرجعیة والتابعة للإمبریالیة الأمریکیة ، وهو رغم تأخره کثیراً إلا أنه أتى فی اللحظات التی توفرت فیها قوانینه المادیة ، وهو فی الواقع مجرد بدایة لانتصار أکبر سوف تکون هذه الشعوب قادرة على تحقیقه بعد زوال الحاجز الذی کان یفصل بینها وبین تلقیها بشکل سلیم لرؤیة الإمام الخمینی (قده) الثوریة عبر استفادتها من هذه الرؤیة فی تطویر حرکتها الثوریة لتحقیق الاستقلال الکامل فی قرارها السیاسی والاقتصادی.
| ||||
الإحصائيات مشاهدة: 642 تنزیل PDF: 248 |
||||