التقریب بین المذاهب الإسلامیة وفقه الائتلاف فی فکر الشیخ التسخیری | ||||
PDF (2991 K) | ||||
![]() | ||||
لقد بات من الواضح أنّ مسألة التقریب بین المذاهب الإسلامیة وتوحید صفوف الأمة الإسلامیة ،أمام ما یحدث لها من تحدیات ومخاطر وعداء للإسلام، أمل من الآمال الّتی یتطلع إلیها کل مصلح غیور على هذه الأمة فی العالم الإسلامی. والحدیث عن التقریب بین المذاهب الإسلامیة، هو حدیث عن صورة من صور العلاقات الفکریة والاجتماعیة والإنسانیة، ضمن إطار الأمة الواحدة، یتجه بقوة إلى تبیین نوازع الاختلافات المذهبیة والطائفیة، لیتم الوقوف علیها والعودة إلى مصادرها الصحیحة، تحقیقا للهدف الأسمى المتمثل فی إعادة اللحمة بین أبناء الإسلام وتجذیرها فی قلوبهم، وتضییق هامش الفرقة بین أتباع الأمة الإسلامیة. من هذا المنطلق تأتی مداخلتی “ التقریب بین المذاهب الإسلامیة وفقه الائتلاف فی فکر الشیخ التسخیری”. واختیار إطلاق “ فقه الائتلاف” بدلا من فقه الاختلاف، مع أن غایة التسمیتین واحدة، لأنّ فی الائتلاف یتضح الهدف الأسمى الذی نرمی إلیه، وهو تقریب الفجوة بین عقول وأفکار أبناء الأمة الإسلامیة، على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم، وردمها بین القلوب والمشاعر، لأنّ المشکلة لیست فی الاختلاف بین المذاهب أو فی تعدد مناهجها أو تنوع اجتهاداتها، وإنما المشکلة فی طریقة الفهم والنظر لهذا الاختلاف والتعدد والتنوع. کما تسعى الدراسة إلى تبلور مفهوم التقریب بین المذاهب الإسلامیة لدى الشیخ محمد علی التسخیری حفظه الله ورعاه، وذلک لأنه من أکبر دعاة التقریب بین المذاهب الإسلامیة، وأعلم بالأسس والمبادئ التی یعتمدها التقریب، وأکثر أثرا فی توحید الصفوف وتحقیق خصائص الأمة الإسلامیة. ولعل من أولیات مهامنا تجاه العلماء، دراسة مشروعاتهم الفکریة والثقافیة، وقراءة تجاربهم الإصلاحیة، حتى یتسنى لنا استیعاب العبر، وهضم المحاور الکبرى لتلک التجارب والمحاور. فما مفهوم التقریب بین المذاهب الإسلامیة فی فکر الشیخ التسخیری؟ وما القیم والأسس التی ینبغی أن یلتزم بها التقریبیون؟ وما أهمیة نشر ثقافة التقریب بین أبناء الأمة الإسلامیة ؟ وسعیا لتحقیق أسس ومقومات وحدة الأمة الإسلامیة، والإحساس بأهمیة التقریب بین شعوب الأمّة الإسلامیة وفقهاء المذاهب الإسلامیة، تأتی هذه المداخلة فی عرسکم العلمی الثالث والعشرون للوحدة الإسلامیة للمجمع العالمی للتقریب بین المذاهب الإسلامیة الّتی ما فتئ سمعته تزداد بین الأوساط العلمیة الإسلامیة والعالمیة، خدمة للأمة الإسلامیة وجمع شملها. أوّلا: حرکة التقریب بین المذاهب الإسلامیة. ممّا لا ریب فیه أنّ وحدة الأمّة والتقریب بین وجهات النظر المختلفة للمذاهب سواء أکان فیما یقع للناس فی أمور معاشهم وطرائقها، أم کان فی نظرتهم – مثلا – لبعض الفروع الفقهیة واختلافهم بشأنها من جهة ما یعتریها من أحکام، ونقل صورة مثلى للإسلام یحتاج إلى تعاون بین مختلف العلماء من مختلف المذاهب الإسلامیة، وقد بذل بعض القادة والعلماء جهودا مشکورة فی هذا السبیل([١]). ففی سنة ١٣٦٤ﻫ دعا الشیخ محمد تقی الدین القمّی رحمه الله إلى التقریب بین المذاهب الإسلامیة تحت اسم “جماعة التقریب” وسجلت بهذا الاسم وضمّت نخبة من کبار علماء مصر منهم الشیخ محمود شلتوت والشیخ عبد المجید سلیم والشیخ إبراهیم حمروش والشیخ محمد المدنی وغیرهم، وکان من نتائج عملها أن درست فی کلیات الشریعة بالأزهر بعض المذاهب الشیعیة([٢]). کما شهد هذا العصر تلاحقا فکریا واسعا بین العلماء عن التقریب بین المذاهب الإسلامیة، فکانت هناک مؤتمرات وندوات علمیة مختلفة، مثل مؤتمر التقریب بین المذاهب الإسلامیة الذی انعقد فی البحرین یوم ٢٠٠٣-٠٩-٢٤م ،ومؤتمر المنظمة الإسلامیة للعلوم والثقافة (مؤتمر القمة الإسلامیة العاشر بمالیزیا سنة٢٠٠٣)، ومؤتمر الدوحة من ٢٠ إلى ٢٢ ینایر ٢٠٠٧ الذی کان تحت شعار “دور التقریب فی الوحدة العلمیة”، وملتقى “التقریب فی الفکر والوحدة فی العمل” المنعقد بکینیا فی مارس ٢٠٠٧، وما یقوم به المجمع العالمی للتقریب بین المذاهب بطهران من نشاط أحسن دلیل على نیة العلماء فی التقریب بین المذاهب الإسلامیة وتوحید کلمة الأمة ولمّ شملها. ففکرة التقریب بین المذاهب الإسلامیة تمتلک جذورا تمتدّ إلى أقدم العصور الإسلامیة، کما یقول الشیخ آیة الله محمد علی التسخیری([٣]) لأنّها تستمد أصالتها وحیویتها من أصول الشریعة الغراء، وتتضح ضرورتها کلّما اتسع نطاق مسؤولیة هذه الأمة فی صنع الحضارة الإنسانیة أو الإسهام الفاعل فیها على الأقلّ. ومواجهة التحدیات والمخاطر المحدقة بها. أ- أهمیة التقریب بین المذاهب الإسلامیة : تنطلق أهمیة التقریب بین المذاهب الإسلامیة من مکارم الشریعة الغراء، ومن مدلـولات التشریع ومقـاصده الرامیة إلى توحید الأمة الإسلامیة وفق الأمر الإلهی یقول تعالى: } وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِیعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْکُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ کُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَکُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَکُمْ مِنْهَا کَذَلِکَ یُبَیِّنُ اللَّهُ لَکُمْ آَیَاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَى الْخَیْرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَأُولَئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) { [سورة آل عمران، الآیة : ١٠٣ ـ ١٠٤]. ـ کما تنطلق هذه الأهمیة من مقتضیات حال المسلمین وواقعهم – کما أشرنا سابقا– وممّا تحتمه مصلحتهم المشترکة من وجوب التعاون والتآزر والوحدة «فالوحدة الإسلامیة هی الوسیلة الوحیدة لمواجهة التحدیات الّتی تواجهها الأمة الإسلامیة ویتعیّن على جمیع المسلمین فی الظروف الحساسة الحالیة اعتماد الوحدة. وإنّ التقریب بین المذاهب هو السبیل الوحید للوحدة »([٤]) . ـ تضییق رقعة الخلافات المذهبیة والحدّ من انتشار ظاهرة التعصب المفضیة إلى التفرقة والفتن، وجسرا متینا لترسیخ قیم الائتلاف والتسامح وإتباع صراط الرشاد الهادی إلى تماسک الأمة وتدعیم عناصر وحدتها([٥]) . غیر أنّ مفهوم التقریب بین المذاهب الإسلامیة لا یعنی نبذ المذاهب المختلفة واعتناق مذهب موحد – کما یعتقد البعض – بل هو خطوة نحو جمع المسلمین وإشباعهم روح التفاهم والتعارف والتآلف فیما بینهم، والتقائهم بعد تنافرهم وتباعدهم، وبیان سعة الفقه وقدرته على المواجهة والتصدی لکل التیارات المناوئة للإسلام. فقد قامت ـ تاریخیا ـ عدّة محاولات سیاسیة لفرض مذهب إسلامی واحد، باستخدام الوسائل العسکریة والإداریة، لعلّ أشهرها محاولة المعتزلة فرض آرائهم الاجتهادیة فی العصر العباسی، ولکنّها لم تؤد فی النهایة إلاّ إلى إضافة الضغائن على الخلافات الفکریة الاجتهادیة الّتی کان ینبغی أن تبقى ضمن إطار الفکرة لا تتعدّاه([٧]) . فالذی نبحث عنه لیس قرارا سیاسیا یتبنّى اتجاها محدّدا فی الفقه الإسلامی، ویحظر ما سواه، بل إنّ ذلک سیؤدی إلى نقیض مقاصدنا فی تحقیق الوحدة الإسلامیة، والتقریب بین المذاهب... فذلک أمر غیر وارد، وغیر مستساغ، لاستحالة وقوعه وصعوبة التفکیر فیه، ویرفضه العقل الإسلامی، ولا یقبله منطق الحکمة، وحول هذا الأمر نستشهد بالموقف الحکیم للإمام مالک بن أنس رضی الله عنه، حین قدّم للعالم الإسلامی کتابه الموطأ : « قال ابن حاتم : قال مالک : ثمّ قال لی جعفر المنصور : قد أردت أن أجعل هذا العلم واحدا، فاکتبه إلى الأمراء وإلى القضاة فیعملون به، فمن خالف ضربت عنقه، فقلت : یا أمیر المؤمنین، إنّ النبیّ صلى الله علیه وسلم وآله کان فی هذه الأمّة، وإنّ اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمّة، کل یتّبع ما صحّ عنده وکل على هدى وکل یرید الله »([٨]). فالإمام مالک رحمه الله رسم لنا مذهب الوحدة الإسلامیة الذی نبتغی، وهو الذی یضمن التکامل بین حرکة الاجتهاد ووحدة الجماعة، أمّا الدمج وتذویب الأفکار الاجتهادیة أو تهمیش أی مذهب، أمر غیر مطلوب. ثانیا: قیم التقریب بین المذاهب الإسلامیة : ما القیم الّتی نعتمد علیها لمحاولة التقریب بین المذاهب الإسلامیة ؟ سعیا لجعل قضیة التقریب بین المذاهب الإسلامیة وتجمید الخلافات التاریخیة والفقهیة من بنود مرتکزات الوحدة الفکریة والثقافیة بین أبناء أمتنا الإسلامیة ،یضع الشیخ التسخیری سبعة قیم للتقریب بین المذاهب، أمام کل مسلم منصف لیجد فیها الخیر لکل أبناء الإسلام على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم، لأن الإسلام فوق المذاهب کما أنّ الأمة فوق الطوائف، معتبرا هذه القیم خطوطا عامة للسیاسات الّتی ینبغی أن یراعیها الخط التقریبـی لیحقق أهدافه المرجوة([٩]) . القیمة الأولى : التعاون فیما اتفقنا علیه. یرى الشیخ التسخیری أن المذاهب الإسلامیة تتفق فی مجالات کثیرة جدًّا، کما لها مساحات مشترکة کثیرة، سواء کانت فی الأصول العقائدیة أم فی المجالات التشریعیة (والتی یصل بها بعض العلماء إلى أکثر من ٩٠٪ من المساحة العامة)، أو فی المجالات الأخلاقیة، حیث التوافق یکاد یکون کاملاً، وکذلک فی مجال المفاهیم والثقافة الإسلامیة، وحتى فی المسیرة التاریخیة والحضاریة، طبعًا فی مفاصلها الرئیسیة، رغم الاختلاف فی تقییم المواقف المعینة. أما المواقف العملیة فهم یتفقون جمیعًا على لزوم توحیدها عبر التکاتف والتکافل الاجتماعی، وعبر وحدة القرار الاجتماعی الذی تتکفله جهة ولاة الأمور الشرعیین، ولا ریب أن التعاون فی المشترکات الفکریة یعنی التعاضد فی ترکیزها فی الأذهان وتجنب کل ما یؤدی إلى نقضها، وبالتالی تعمیقها فی مجمل المسیرة. أما التعاون فی المجالات المرتبطة بالسلوک الفردی والاجتماعی والحضاری؛ فواضح وتنضوی تحته المجالات الحیاتیة المختلفة من قبیل: تطبیق الشریعة الإسلامیة، تعظیم الشعائر الإلهیة کالجمعة والحج، وتحقیق خصائص الأمة الإسلامیة کالوحدة، وهکذا.. کما یشیر إلى أن حرکة التقریب یجب أن تبذل قصارى جهدها لاکتشاف المساحات المشترکة هذه وتوعیة الجماهیر -وأحیانًا نضطر إلى توعیة النخبة أیضًا- بها. کما تعمل على توسعة نطاق هذا الجانب المشترک عبر الإشارة -مثلا- إلى کون النزاع والخلاف لفظیًّا لا جوهریًّا، أو عبر التوعیة بأسلوب ثالث یشترک فیه المختلفان. القیمة الثانیة: التعذیر عند الاختلاف من الأسس التی ینبغی أن نرکز علیها فی التقریب بین المذاهب الإسلامیة یرکز الشیخ التسخیری أن الإیمان بانفتاح باب الاجتهاد -وهی الحالة الطبیعیة التی لا یمکن إغلاقها بقرار- وما دامت أسباب اختلاف النتائج الاجتهادیة قائمة وطبیعیة.. فمعنى ذلک الرضا باختلاف الآراء والفتاوى، و الجدیر بالذکر هنا کما یذکر الشیخ: أننا لا نجد نهیًا إسلامیًّا عن الاختلاف فی الآراء، وإنما ینصب النهی على التنازع العملی المُذهب للقوة، والتفرق فی الدین والتحزب الممزِّق، وأمثال ذلک. وهذا یعبر عن عقلانیة الإسلام ومنطقیته. وعلیه یقول الشیخ أنه یجب أن یُوطّن الفرد المسلم -عالمًا أو متعلمًا، مجتهدًا کان أو مقلدًا- على تحمل حالة المخالفة فی الرأی، وعدم اللجوء إلى أسالیب التهویل والتسقیط وأمثالها، وحینئذ یکون الخلاف أخویًّا وودیًّا (لا یفسد للود قضیة). کما یشیر الشیخ إلى ورود نصوص کثیرة تدعو المؤمن للصبر والمداراة، وسعة الصدر، ویمکن عکسها على واقعنا الحالی. مثل نص الإمام الصادق (رحمه الله)، حیث جرى ذکر قوم فقال الراوی: “إنا لنبرأ منهم لا یقولون ما نقول، فقال الإمام: یتولّوننا، ولا یقولون ما تقولون، تبرؤون منهم؟ قلت: نعم، قال: هو ذا عندنا ما لیس عندکم، فینبغی لنا أن نبرأ منکم”. إلى أن قال: “فتولوهم ولا تبرؤوا منهم: إن من المسلمین من له سهم، ومنهم من له سهمان.. فلیس ینبغی أن یحمل صاحب السهم على ما علیه صاحب السهمین...”. وتعامُل أئمة المذاهب فیما بینهم مثال رائع على هذه الحقیقة. القیمة الثالثة : تجنب التکفیر والتفسیق والاتهام بالابتداع یعتبر الشیخ التسخیری أن مسألة التکفیر من المصائب التی ابتلی بها تاریخنا، فرغم النصوص الشریفة التی تحدد المسلم من جهة وتمنع من التکفیر للمسلم من جهة أخرى لاحظنا سریان هذه الحالة التی حجرت على العقل أی إبداع أو مخالفة، حتى إننا شاهدنا من یؤلف کتابًا، ویرى أن مخالفة حرف واحد فیه تؤدی إلى الکفر وهذا أمر غریب! ومن هنا فالشیخ یدعو إلى التحول بالمسألة من (الإیمان والکفر) إلى مرحلة (الصواب والخطأ)، بشرط التحلی فی ذلک بروح القرآن التی تدعو إلى الموضوعیة، حتى فی النقاش مع الکفار الحقیقیین، حینما یُخاطَب الرسول أن یقول لهم: [ وَإِنَّا أَوْ إِیَّاکُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ] [سـبأ: ٢٤]. القیمة الرابعة: عدم المؤاخذة لوازم الرأی. یذکر الشیخ محمد التسخیری أن الإنسان یحاسب على رأیه ویناقش بکل دقة وأناة، إلا أننا اعتدنا على مناقشات تبتنی على لوازم الآراء، وبالتالی یأتی التکفیر والاتهام بالابتداع، فی حین أن صاحب الرأی قد لا یقبل تلک الملازمة، وللتوضیح یقدم لنا مثالا على ذلک، نجد البعض ممن یؤمنون بمسألة التحسین والتقبیح العقلیین یصفون من لا یقبلون بهما بأنهم یغلقون باب الإیمان بصدق النبی، استنادًا إلى أن ما یدفع احتمال کذب النبی الآتی بالمعجزة هو حکم العقل بقبح إجراء المعجزة على ید الکاذب عقلاً، فإذا فرضنا عدم وجود أی تقبیح عقلی فمعنى ذلک أننا أغلقنا باب الإیمان بالنبوة، وهکذا یقال بالنسبة لمسألة طاعة الله تعالى، فإن الملزم لنا بإطاعته تعالى هو العقل لا غیره. وعلى هذا الغرار نجد البعض الآخر یتهم القائلین بالتوسل أو الشفاعة أو القسم بغیر الله بالشرک؛ لأنه لازم لهذا القول وهلم جرًّا. إن المناقشة العلمیة الهادئة أمر مطلوب، ولسنا مع إغلاق باب البحث الکلامی مطلقًا، بل المنطق یقتضی فتحه، ولکننا ندعو للمناقشة المنطقیة، فلا ننسب للآخر ما لم یلتزم به، وما دام لا یؤمن بالملازمة بین رأیه والرأی الآخر، فإننا نلتمس له العذر، وبهذا نستطیع أن نغلق بابًا واسعًا من الاتهامات الممزِّقة. القیمة الخامسة: التعامل باحترام عند الحوار تحت هذه القیمة یذکر الشیخ التسخیری أن الحوار هو المنطق الإنسانی السلیم فی نقل الفکر إلى الآخرین، وأن القرآن الکریم طرح نظریة رائعة للحوار المطلوب، تناولت مقدمات الحوار وظروفه وأهدافه ولغته بشکل لا مثیل له، وکان مما تناوله مسألة الاستماع للآراء وإتباع أحسنها، ومسألة عدم التجریح، حتى إن الآیة الشریفة تقول:(قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سـبأ:٢٥]، فی مجال توجیه حوار الرسول مع غیر المؤمنین بالإسلام، وإبعاده عن مسألة إثارة حزازات الماضی والاتهامات المتبادلة فیه، والتوجه لمنطقیة الحوار نفسه، وهی مع أن السیاق اللفظی کان یتناسب معه،وعلیه یتساءل الشیخ کیف بنا ونحن نتحاور کمسلمین متفقین على مبادئ تقربنا؟ القیمة السادسة: تجنب الإساءة لمقدسات الآخرین یرى الشیخ التسخیری أنّه ینبغی الترکیز فی التقریب بین المذاهب على الحوار وعلى تجنب الإساءة لمقدسات الآخرین، هذا الأخیر حسب رأیه یخلق جوا عاطفیا معاکسا، ویرد نصوصا یستدل بها على هذا مثل قوله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَیَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَیْرِ عِلْمٍ کَذَلِکَ زَیَّنَّا لِکُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَیُنَبِّئُهُمْ بِمَا کَانُوا یَعْمَلُونَ) [الأنعام:١٠٨]. بهذه الروح الإنسانیة یوجه الله تعالى المؤمنین فی تعاملهم بعد أن یوضح لهم وظائفهم الدعویة لا التحمیلیة،وفرض الرأی على الآخرین حتى لو کانوا مشرکین:(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَکُوا وَمَا جَعَلْنَاکَ عَلَیْهِمْ حَفِیظًا وَمَا أَنْتَ عَلَیْهِمْ بِوَکِیلٍ) [الأنعام:١٠٧]. والنصوص الإسلامیة فی النهی عن السب واللعن معروفة، فإذا کان هذا هو الحال أن المفروض هو الحوار بین مسلمین أخوین یعملان لهدف واحدٍ، ویشعر کل منهما بآلام الآخر وآماله، فإن الموقف لا یتحمل مطلقًا احتمال الإهانة، وخصوصًا للأمور التی یؤمن الآخر بقدسیتها لارتباطها مع معتقداته الأصیلة. القیمة السابعة: الحریة فی اختیار المذهب یعتبر الشیخ أن المذاهب نتیجة اجتهادات سمح بها الإسلام، علینا أن نعدها سبلا مطروحة للإیصال إلى مرضاة الله تعالى. وحین تختلف فإن من الطبیعی أن یدرس المسلم هذه المذاهب وینتخب الأفضل منها وفق معاییره التی یؤمن بها، والتی یشخص من خلالها أنه أبرأ ذمته أمام الله وأدَّى أمانته وعهده. وحینئذ فلیس لأحد أن یلومه على اختیاره حتى لو لم یرتح لهذا الاختیار. کما أنه لا معنى لإجبار أحد على اختیار مذهب ما؛ لأن ذلک مما یرتبط بالقناعات الإیمانیة، وهی أمر لا یمکن الوصول إلیه إلا بالدلیل والبرهان. وهنا یؤکد أن لکل مذهب الحق فی توضیح آرائه ودعمها، دونما تعدٍّ على الآخرین أو تهویل أو تجریح، کما أنه لا یدعو إلى إغلاق باب البحث المنطقی السلیم، وإنما نرفض محاولات الاستغلال السیئ، والاستضعاف، والجدال العقیم، وفرض الرأی، وأمثال ذلک. وبعد فهذه القیم السبعة التی رأى فیها الشیخ محمد علی التسخیری أسسا وأصولا للحوار والتقریب بین المذاهب الإسلامیة یمکن أن تُستثمر فی الحوار والتقریب بین دوائر أخرى قد تکون أکبر من المذاهب الإسلامیة مثل الحوار والتقریب بین أهل الأدیان والملل والنحل المختلفة. وقد تکون دوائر أصغر من المذاهب الإسلامیة مثل الحوار بین فصائل الصحوة العاملة على الساحة الإسلامیة، وبین الأحزاب السیاسیة، وبین التکتلات المدنیة والاجتماعیة والاقتصادیة بغیة الوصول إلى هدف واحد وتحقیق غایة واحدة یتحقق بها صلاح الدنیا والدین. ثالثا: أسس التقریب بین المذاهب الإسلامیة : یکثف الشیخ التسخیری رؤیته لعملیة التقریب بین المذاهب الإسلامیة، باعتبارها من مرتکزات وحدة الصف الإسلامی بتحدیده لست أسس ،معتقدا أن الإیمان بمسألة التقریب یتأتى بکل منطقیة إذا لاحظنا هذه الأسس، التی یؤمن بـها کل المذاهب الإسلامیة دون استثناء وهی ([١٠]) : أولا: الإیمان بأصول الإسلام العقائدیة الکبرى، وهی: التوحید الإلهی (فی الذات والصفات والفعل والعبادة)، وبالنبوة الخاتمة لرسول الله صلى الله علیه وسلم، والقرآن الکریم الذی جاء به وما فیه، والمعاد یوم القیامة. ثانیًا: الالتزام الکامل بکل ضروریات الإسلام وأرکانه من: الصلاة والزکاة والصوم والحج، وغیرها. ثالثًا: الالتزام الکامل بأن الکتاب الکریم والسنة النبویة الشریفة هما المصدران الأساسیان لمعرفة رأی الإسلام فی شتى الأمور: المفاهیم عن الکون، والحیاة، والإنسان: ماضیه وحاضره، ومستقبله فی الحیاتین. والأحکام والشریعة التی تنظم حیاته وسلوکه الفردی والاجتماعی. أما الأصول والمصادر الأخرى کالعقل والقیاس والإجماع وأمثالها، فهی لا تملک أی حجیة إلا إذا استندت إلى ذلک المصدرین الکریمین، واستمدت مصدریتها منهما. رابعًا: الالتزام بأن الإسلام سمح لعملیة الاجتهاد باعتبارها عملیة “بذل الوسع لاستنباط الحکم الشرعی من مصادره” أن تکون هی الموصلة لمعرفة الإسلام. کما أنها تلعب دورها فی تأکید مرونة الشریعة وقدرتها على استیعاب التطورات الحیاتیة طبقًا لمعاییر وضوابط معینة، وهذا یعنی -بالضرورة- إمکان إیجاد الصلة بین مختلف النتائج التی أدى إلیها الاجتهاد وبین الإسلام حتى لو کانت مختلفة ومتضادة فیما بینها، وذلک لاختلاف الإفهام وزوایا النظر والقناعات (وهو ما یدرس فی العلوم الإسلامیة تحت عنوان: أسباب الخلاف). کما یرى الشیخ التسخیری أن الإسلام إذ سمح بذلک فلأنه دین واقعی فطری، فلا طریق لمعرفة أیة شریعة ممتدة على مدى العصور ینقطع وحیها ویموت معصومها إلا طریق الاجتهاد، رغم أن هذا الطریق یبتلى أحیانًا بالذاتیة ویفرز آراء متخالفة قد لا یطابق بعضها واقع المراد الإسلامی فی علم الله تعالى. کما یجد الشیخ أن هذا الأسلوب المنطقی یعم استنباط کل الأمور کالعقائد، والمفاهیم، والأحکام، بل وحتى المواقف الإسلامیة من بعض القوانین الطبیعیة. خامسًا: أن مبدأ (الوحدة الإسلامیة) یعبرعن خصیصة مهمة من خصائص هذه الأمة المبارکة، ومن دونها لا یمکن لها أن تدعی اکتمال هویتها. وقد وضع الإسلام خطة متکاملة لتحقیق هذه الوحدة بانیًا لها على أساس الاعتصام بحبل الله المتین -وهو أی سبیل معصوم یوصل إلى الله- ومؤکدًا على وحدة الأصل والخلق ووحدة الهدف ووحدة الشریعة والمسیر، داعیًا إیاها للدخول المجموعی فی إطار التسلیم الکامل لله ونفی خطوات الشیطان، ومذکرًا بآثار الوحدة، وغارسًا الأخلاقیة وعناصر التضحیة بالمصالح الضیقة فی سبیل الهدف العام، حاذفًا کل المعاییر الممزقة کاللغة والقومیة والوطن والعشیرة واللون، مرکزًا على المعاییر الإنسانیة کالعلم والتقوى والجهاد، ومؤکدًا على لزوم تحری نقاط اللقاء، وداعیًا إلى استخدام المنطق السلیم؛ منطق الحوار الهادئ الموضوعی. سادسًا: مبدأ الأخوة الإسلامیة:یأخذ الشیخ التسخیری مبدأ الأخوة الإسلامیة على أنّه أهم جزء مشترک بین المذاهب الإسلامیة، لأنه ینظم مجمل العلاقات الاجتماعیة فی الإسلام، کما یعتقد الشیخ أن آثاره لا تقتصر على الجوانب الأخلاقیة فحسب، بل تتعداها إلى الجوانب التشریعیة وتترک أثرها الکامل على عملیة الاجتهاد نفسها، لکی لا نشهد فی هذه الساحة أحکامًا تتناقص معه. هذه الأسس الستة هی أهم ما یمکن أن تبتنی علیها حرکة التقریب بین المذاهب الإسلامیة فی فکر الشیخ محمد علی التسخیری، فیکاد التصدیق بالأسس کما یقول “ یؤدی بشکل منطقی عفوی للإیمان بهذه الحرکة” وعلیه فالشیخ التسخیری یعتقد أنّ عملیة التقریب بین المذاهب الإسلامیة، لا تقتصر على الجوانب الأخلاقیة أو الجوانب الشعاریة، ولا تتحدد بالجوانب التشریعیة أیضا، بل یعبرها إلى مختلف الجوانب الفکریة والحضاریة. و ینبغی أن تشترک فیه کل النخب المفکرة الفقهیة والفکریة، بل یجب بشکل کامل وربما بشکل أولى أن تعبر النخبة إلى الجماهیر، فیبدأ تثقیفها بثقافة التقریب. لأن الإسلام إن کان یسمح بالاختلاف الفکری غیر المخرب والطبیعی فإنّه لا یسمح مطلقا بأدنى خلاف فی الموقف العملی من القضایا المصیریة الداخلیة والخارجیة، ولذلک یعتبر الشیخ أنّ الراد على الحاکم الشرعی (وهو الجهة التی یفترض بها أن تکون الموحدة للموقف العملی للأمة) راداً على الله بعد أن اقترنت طاعته بطاعة الله ورسوله. فالشیخ بذلک لا یـخفی حجم مسؤولیة أولی الأمر فی الدول الإسلامیة والدور الذی یمکن أنّ تلعبه فی إحیاء تراث التقریب فی الأمة الإسلامیة وتحقیق التعایش الأخوی وتقویته بین المنتمین إلى المذاهب المختلفة، بعد أن عبثت به نوازع الفرقة . کما لایخفی دور العلماء والمفکرین ومایقع على عاتقهم فی مسألة التقریب، بجعلها من القواعد الفکریة والعلمیة والأخلاقیة التی یلتزمون بها فی مجال کتاباتهم، وتوضیح أهمیتها، وتجدید قناعة الأمة بمسألة التقریب وترسیخ هذه القناعة، وتطویر وعی الأمة بهذه المسألة، وجعلها من قضایاها الرئیسة التی تدافع عنها. فلئن کانت القیم والأسس ـ السابقة ـ التی یقدمها الشیخ التسخیری تؤدی بطبعها للتقریب بین المذاهب الإسلامیة،فإنها بطبعها تعد عاملاً مهماً فی تضییق رقعة الخلافات والحدّ من انتشار ظاهرة التعصب المفضیة إلى التفرقة والفتن، وسبل من السبل المتینة للتخلص من ما یسمى الطائفیة،وجسراً رصینا لترسیخ قیم الائتلاف من المحبة والأخوة والتسامح، وإتباع صراط الرشاد الهادی إلى تماسک الأمة وتدعیم عناصر وحدتها، وهو ما أکده المنهج الإلهی فی قوله تعالى : [وأن هذا صراطی مستقیماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بکم عن سبیله ذلکم وصَّاکم به لعلکم تتقون]. فهذه القیم والأسس ضرورة ورکیزة أساسیة من مرتکزات وحدة الأمة الإسلامیة فی أبعادها الحضاریة والمذهبیة الشاملة، فلابدّ من الإسهام فی إعداد جیل یحمل رسالة التقریب المذهبی وحبّه لوحدة أمّته واعتصامها، وتدریبه على نشر هذه الثقافة وفق أسس إسلامیة صحیحة وسلیمة، فهذه “الثقافة الذاتیة هی إکسیر الحیاة للأمّة والمجدد الدائب لطاقاتها الأدبیة والمادیة”([١١]) ثقافة ترفع هذا النزاع فیما بین الطوائف، هذا النزاع الذی لا معنى له ولا حقیقة فیه، وهو باطل ومضر فی الوقت نفسه. وان لم نزل هذا النزاع فان الزندقة الحاکمة الآن حکماً قویاً تستغل أحدنا ضد الآخر وتستعمله أداة لإفناء الآخر، ومن بعد إفنائه تحطّم تلک الأداة أیضا. فیلزمنا نبذ المسائل الجزئیة التی تثیر النزاع، لأننا أهل التوحید بیننا مئات الروابط المقدسة الداعیة إلى الأخوة والاتحاد بین أبناء الأمة، فالتقریب کما یقول الأستاذ زکی المیلاد ([١٢]).قد یعالج ظواهر التعصب والتطرف والکراهیة والقطعیة وعدم التسامح على مستوى النخبة من العلماء والمفکرین والمصلحین، لکن معالجتها على مستوى الأمة بکل شرائحها وفئاتها لا یمکن أن یتحقق إلا عبر نهضة فکریة تطور وعی الأمة بهذه القضیة وطریقة التعامل معها. ----------------- [١] - یراجع : محمد مهدی نجف : مع المجمع العالمی للتقریب بین المذاهب الإسلامیة، کتاب على موقع TAGHRIB.ORG [٢] - یراجع : الموسوعة الإسلامیة العامة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامیة، القاهرة، مصر، ١٤٢٢ ﻫ/٢٠٠١م، ص : ٤٠٨. [٣] - الشیخ محمد علی التسخیری: التقریب أسسه وقیمه ودور العلماء فیه، مقال على موقع ISLAMONLINE.NET [٤] - الشیخ محمد علی التسخیری : www.taghrib.org [٥] - إستراتیجیة التقریب بین المذاهب الإسلامیة، معتمد من : المنظمة الإسلامیة للتربیة والعلوم والثقافة (مؤتمر القمة الإسلامیة العاشر، مالیزیا، ٢٠٠٣، ص : ٥. [٦] - الشیخ أحمد کفتارو : آثار التقریب بین المذاهب على المجتمع والثقافة والاقتصاد والسیاسة، مقال بموقع www.kaftarou.co [٧] - الشیخ أحمد کفتارو : المرجع نفسه. [٨] - الشیخ أبو زهرة : الإمام مالک بن أنس، دار الفکر، بیروت، لبنان، ١٩٨٥م، ص : ١٤. [٩] - الشیخ محمد علی التسخیری : التقریب أسسه وقیمه ودور العلماء فیه، مقال على موقع ISLAMONLINE.NET [١٠] - الشیخ محمد علی التسخیری : التقریب بین المذاهب الإسلامیة، المرجع السابق. [١١] - الشیخ محمد الغزالی : علل وأدویة، دار الشهاب، ط ٢، باتنة، الجزائر، ١٩٨٦، ص : ١٦٨. [١٢] - زکی المیلاد: التقریب بین المذاهب الإسلامیة رسالة العقلاء فی الأمة، مجلة الکلمة بیروت، الکلمة، السنة الثامنة، العدد ٣٢، صیف ٢٠٠١، ص: ٢٦.. | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 276 تنزیل PDF: 144 |
||||