محمود موالدی

إن الثورة الإسلامیة التی فجرها الإمام روح الله الخمینی (قدس سره) لم تکن حالة تغییر وضعی ولا لحظة مرحلیة فی مسیرة وطن یتمتع بثروات ومساحة جغرافیة وموقع جوسیاسی محوری على صعید إقلیمی ودولی فحسب، بل کانت نقطة فاصلة فی تاریخ السیاسة المعاصرة من جهة، وتکریس لانتصار الإرادة الحیة لشعب عاش تبدید ثرواته بید طغمة حاکمة عمیلة للغرب المستعمر بلبوس التاج الملکی، فانتشر الفقر والعوز وکممّت الأفواه ودنست معالم الحضارة الراسخة فی حبایا التاریخ الممتد ماقبل المیلاد ونشوء الأمم. إن ظواهر السیاسة الرادفة لانتصار الثورة الاسلامیة عمقت مفهوما جدیدا للثورات نحو التحرر والتغییر، ولکی نفهم معانی الثورة الإسلامیة المبارکة فی إیران، علینا قراءة المرحلة السابقة لها على الصعید الداخلی والإقلیمی والدولی، ومن هنا نعرف لماذا تٌحارَب إیران منذ انتصار الثورة إلى الیوم، فالغرب الشره للإستبداد واستئثار الثروات وقمع الشعوب عرف تماما ما معنى ثورة مصیریة ذات قرار، ومختلفة عن کل الصناعات السابقة للثورات حول العالم منذ الثورة الفرنسیة، والتی تعتبر رکیزة حیة لبعض العاملین فی الحقل السیاسی ذات الطبیعة (الحداثیة)!!!، إلى ما شهدناه فی الأعوام الماضیة من ثورات ربیعیة ملونة، فکانت صیفا أصفرا قاحل، ناتج عن التصحر الثقافی لبعض الشعوب الغارقة فی أتون الجهل والفقر والتفقیر من جهة، وفرصة للانقضاض على بعض الدول المعارضة للسیاسات الأمریکیة والتیار الصهیونی فی المنطقة.

ماقبل الثورة:

عاشت إیران ماقبل الثورة المبارکة مراحل الترکیع المغلف بسطوة التاج والحدید والنار، فکان تبدید الثروة واستفحال الفقر السمة المعاشة دون الجرأة -لدى أغلب النخب السیاسیة والثقافیة- على الإعتراض، فحالة التهمیش مفروضة، والإعتقالات التعسفیة لمجرد انتقاد معیشی حیاتی حالة طبیعیة، فکانت الثورة مطلبا داخلیا نحو التغییر، لکنها غیرت إیران داخلیا وخارجیا، من خلال تغییر إیران فی تموضعها السیاسی وتمرکزها الإستراتیجی، فإیران الشاه هی مجرد أداة حادة فی الإقلیم، والشاه نفسه مجرد شرطی قزم عند الأمریکیین، بل کان عراب الانبطاح الشرق أوسطی، فرهن إیران وثرواتها وبعدها وموقعها الجغرافی فی خدمة المشروع الأمریکی والصهیونیة العالمیة لصالح استمرار حکمه الفاقد لأی احتضان شعبی أو رؤى تطویریة على الصعید الداخلی، فکانت الأجندات الإستعماریة لصانعی السیاسة العالمیة تسیر ضمن رکب الموضوع بعد الحرب العالمیة الثانیة وأثیر الحرب الباردة، فلا حریة عالمیة بظل الثنائیة القطبیة فی العالم ولا یمکن لأی أمة أن تمتلک الخیار المنفرد، فاختار الشاه الحلف الغربی واختار التخدیم للسید الأمریکی.

إیران الثورة:

کان طموحا جماهیریا، واختیارا طبیعیا لصیقا لطبیعة الإنسان من التحرر والعودة لفطرته، فکانت نداءات روح الله الخمینی (قدس سره) تجلجل فی أذهان العاشقین للحریة والتغییر دون التبعیة، نعم کانت تراتیل الحریة والتحریر، وعلى الرغم من کل الصعوبات التی واجهها الإمام الثائر من بعض المدارس الدینیة والحوزات، إلا إنه کان صوت ینبض بالحیاة بطبائع الإقدام، فکل أفراد المؤسسات العسکریة والمدنیة وکل شرائح المجتمع الإیرانی واکبت الإمام الثائر. إنه بحق قائد ثورة مختلف، بعمامته وهیبته وبذور نشوئه.

اعتاد الناس أن تملک زمام الثورات شخصیات عسکریة أو سیاسیة، لکنها طفرة زمنیة غیر مطروقة، إنها ثورة یقودها ثائر إیمانی رافعا شعارا ً غارساً فی عمق التاریخ برفض الظلم والذل والإستبداد، فکانت بحق امتداد للنهج الحسینی الثائر، رفعت هامات المحرومین والمستضعفین وطردت الملک المتحکم بالثروة والمستأثر بمکتسبات الأمة، وسقطت معه منظومة العمالة وانضمت النخب الشعبیة للثورة التی واجهت عصابة الشاه بصدور عالیة، فارتفعت رایات النصر للحریة والأحرار، وبذاک الإنتصار انتقلت إیران من موضع المسیّر إلى المخّیر، فتغیرت الخارطة السیاسیة لهذا الشرق بأکمله، وانقلبت صورة الأحداث على راسمیها، ومنها کان التحدی للإمام الخمینی (قدس سره) فی رسم معالم الجمهوریة بصبغة حداثیة ناصعة لافتة لکل الأحرار، فإذا کانت الإصلاحات السیاسیة والمعیشیة والنهوض المجتمعی هی عناوین الأطر الداخلیة للثورة فإن استحقاقاتها الخارجیة وضعت فی خانة التبدیل لوجهة الخطاب والبعد الإستراتیجی والإنطلاق نحو التفرد فی المسیرة دون التماهی المفرط مع التیارات الشرقیة الجامدة والغربیة المتحللة والمباغتة.

إیران الثورة المستمرة

بعیدا عن الحالة السردیة لمجمل المؤامرات التی واکبت انتصار الثورة والعقوبات الغربیة المستمرة ومحاولة للتشویش والشیطنة، اعتمدت الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة نهجاً ثوریاً مختلفاً، فکانت صناعة المجتمع الآمن هی الأولویة لبناء الجمهوریة المسلمة القائمة بتکلیفها الشرعی والعابرة لکل الإنحرافات. أثبتت الثورة الإسلامیة فی إیران قیام دولة خصبة من نواحی الإنتاج والصناعة فرسمت مبادئ قیام الدولة الرشیدة بمؤسسات ضامنة لدیمومیتها.

اهتمت الثورة بأهم صناعة فی المجتمع وهی صناعة الشباب المثقف والملتزم ضمن منهج عقائدی راسخ، لقد غیرت الثورة الإسلامیة المبارکة مجرى الأحداث الإقلیمیة والدولیة واسقطت أقنعة وأبرزت خیانات أنظمة وعرف الرأی العام ماهیة المؤامرات التی تسوق على الأمتین العربیة والإسلامیة فی ما أخذت الأنظمة العملیة رکب الحرب على الجمهوریة الإسلامیة الفتیة فکانت حرب الثمانی سنوات خلد عظمة هذه الثورة وآفاق انتصارها، على الرغم من الحصار والحرب المفروضة على إیران باشرت بالتطور بکل المجالات فکان التطور البحثی والعلمی والتحدیث التقنی والتصاعد الردعی.

إیران الیوم:

بعد رحیل الإمام الثائر

روح الله الخمینی (قدس سره)

بدا الرهان على استمرار النهج فکانت محاولات متعددة لضرب الثورة من الداخل إما بید أدوات أو ثورات مضادة لکنها سقطت على جدار المؤسسات الدستوریة وعمق المنظومة الحاکمة للدولة فکان عهد الإشراق للجمهوریة بظل قیادة السید القائد الإمام علی خامنئی (دام ظله) لقد ثبت معالم سیاسة الدولة الخارجیة ذات الطابع المحور فلم تتأثر بانهیار الاتحاد السوفیتی بل بالعکس استفادت لإنشاء محورها فکان محور الأحرار والثوار حول العالم، إنها إیران قلب محور المقاومة وأم القرى لکل المؤمنین بحقیقة وجودهم الحرب، تربعت إیران على عرش الصناعات الثقیلة وانتاج الطاقة وتخطیط المدن وراکمت کل خبراتها التراکمیة وأصبح الناتج القومی یفوق (٦٧.٩٩ ٪) وخفضت مستوى التضخم الهام على الرغم من الحصار والعقوبات الأمریکی الظالمة، وذهبت موازنة الدولة بأغلب مستویاتها للتخصیب البحثی والإنتاج العلمی، فإیران الیوم قوة مهمة ومؤسسة فی الإقلیم ولهذا المحور الشرقی المکون للجبهة الشرقیة المناهضة للمشروع الغربی المستغل، منعت إیران الإسلام هضم العراق وتفریغه من عقوله وحمت کینونة الدولة السوریة فی المساعدة الهامة بمکافحة الإرهاب ناهیک عن دعمها المستمر لکل تیارات والحرکات المقاومة فی لبنان وفلسطین، إنها بحق دولة الولی الفقیه المتصدی للمسؤولیة العالمة على إیقامة ربوع الثورة المزهر فی الإقلیم، إن السرد التاریخی الموجز یجعلنا نتحسس مفردات التغییر القادم لهذا الشرق المفعم بالثروة وممرات المهمة للعالم، فإیران دولة النهوض فی هذا الشرق وتعتبر من رکائز هذا التغییر.