صرخات القدس المکتومة | ||
صرخات القدس المکتومة د. محسن صالح تمر هذه الأیام الذکرى الثانیة والثمانون لثورة البراق التی اندلعت دفاعاً عن الحائط الغربی للمسجد الأقصى، کما تمر أیضاً الذکرى الثانیة والأربعون لإحراق المسجد الأقصى. الوقوف إلى جانب القدس والأقصى کان دائماً قضیة یجتمع علیها المسلمون، مهما کانت اختلافاتهم ومذاهبهم ونزاعاتهم. والضغط على القدس کان یعنی الضغط على العصب الحساس فی الأمة، الذی کان یستثیر غضبها وحمیتها وکرامتها. فبعد ثورة البراق اجتمع ممثلو المسلمین من 22 بلداً فی المؤتمر الإسلامی العام فی القدس سنة 1931 لیبحثوا سبل حمایة الأقصى والقدس وفلسطین، وبعد إحراق الأقصى اجتمع ممثلو دول العالم الإسلامی وأسسوا منظمة المؤتمر الإسلامی، التی تُمثل حتى الآن الإطار الجامع للعالم الإسلامی، حیث یشارک فی عضویتها 56 بلداً. وعندما قام شارون بزیارته الاستفزازیة للمسجد الأقصى فی 28/9/2000، اندلعت شرارة انتفاضة الأقصى التی استمرت نحو خمس سنین، وتفاعل معها العالم العربی والإسلامی تفاعلاً رائعاً. اندثر المؤتمر الإسلامی العام، وتحولت منظمة المؤتمر الإسلامی إلى حالة احتفالیة شکلیة تتمخض عن مواقف وبیانات بین حین وآخر، وبعض أعمال خجولة لا تلیق بمقام القدس، ولا تلیق بدور العالم الإسلامی، کما توقفت انتفاضة الأقصى. وبقی الاحتلال الإسرائیلی، واستمرت حملات التهوید والاستیطان والاقتلاع الصهیونیة، وصمد أهل القدس وهم یقبضون على الجمر، واستمرت صرخات القدس وأنات الأقصى...؛ ولکنها تحولت فی هذه الأیام إلى صرخات مکتومة وأنات مخنوقة لا یکاد یسمع بها أحد، کأن الناس اعتادت علیها فلم یعد ذلک خبراً مهماً أو مثیراً أو مستفزاً. ربما أصابت العرب والمسلمین حالة إحباط بعد مرور أکثر من 63 سنة على احتلال غربی القدس و44 سنة على احتلال شرقی القدس، وربما تعود الکثیرون على تکرار الأخبار نفسها لفترات طویلة، وربما انشغل آخرون بهمومهم المحلیة والقـُطریة، وربما انتظر البعض نتائج مفاوضات التسویة السلمیة، وربما أنحى آخرون باللائمة على الانقسام الفلسطینی، وربما عزى طرف ثالث الأمر إلى انشغال الجمیع بالثورات العربیة وما قد یترتب علیها. ربما تکون هذه الأسباب الستة السابقة أو بعضها، ولکن المهم الذی یجب أن یدرکه الجمیع أن المشروع الصهیونی لتهوید القدس یسیر بخطى حثیثة، وبعمل منهجی منظم، یصنع الحقائق على الأرض، ویحاول أن یصطنع صورة مزورة جدیدة للقدس مغایرة لهویتها العربیة الإسلامیة. إن صرخات القدس هی صرخات حقیقیة، ولکنها أصبحت مکتومة تحت الأحذیة الغلیظة للاحتلال، وبسبب آذان العرب والمسلمین المغلقة بالطین والعجین.
القدس الغربیة لم یعد الکثیرون یذکرون غربی القدس، التی اعترفت قیادة منظمة التحریر بأنها جزء من الکیان الإسرائیلی حسب اتفاقیات أوسلو، ولم تعد جزءاً من العملیة التفاوضیة. أنین غربی القدس المکتوم یتردد منذ احتلها الصهاینة سنة 1948، وقاموا بطرد 60 ألفاً من سکانها العرب، من أحیاء مأمن الله، والبقعا الفوقا، والبقعا التحتا، والقطمون، والطالبیة، والمصرارة، والکولونیالیة الألمانیة، والحی الیونانی، وقسم من أبی طور وحی الثوری. ویملک الفلسطینیون نحو 88.7% من مجمل مساحة القدس الغربیة، التی قام الصهاینة بتهویدها، وبناء أحیاء سکنیة یهودیة فوق أراضیها، وأراضی القرى العربیة المصادرة حولها، مثل قریة لفتا التی بُنی علیها البرلمان الإسرائیلی (الکنیست) وعدد من الوزارات، وقرى عین کارم ودیر یاسین والمالحة وغیرها.
شرقی القدس وفی سنة 1967 أکملت "إسرائیل" احتلالها لشرقی القدس الذی کان تحت السیطرة الأردنیة، والذی یُعدّ جزءاً من الضفة الغربیة. ومنذ ذلک الوقت بدأت حملة تهوید محمومة لشرقی القدس، فأعلنت توحید شطریْ القدس تحت الإدارة الإسرائیلیة فی 27/6/1967، ثم أعلنت رسمیاً فی 30/7/1980 أن القدس عاصمة أبدیة موحدة للکیان الإسرائیلی. وضعت دولة الاحتلال یدها على نحو 87.5% من أراضی شرقی القدس، فبُنیت علیها المستعمرات التی أحاطت شرقی القدس من کل جانب، وحرمت الفلسطینیین من حقّ البناء على معظم أراضی القدس، ولم تبق سوى تسعة آلاف دونم فقط (من أصل 72 ألفاً) مخصصة لأغراض البناء، أی ما یعادل 12.5% من مساحة شرقی القدس. وقد باشرت السلطات الإسرائیلیة إنشاء أولى المستعمرات الإسرائیلیة شرقی القدس وهی مستعمرة رامات إشکول منذ 1968؛ ثم تابعت إنشاء المستعمرات بشکل متسارع. وفی نطاق بلدیة شرقی القدس أنشأت طوقاً من 11 حیاً یهودیاً. کما أنشأت طوقاً آخر، أکثر اتساعاً، حول القدس من 17 مستعمرة یهودیة لقطع القدس عن محیطها العربی الإسلامی، وبالتالی قطع الطریق على أی تسویة سلمیة یمکن أن تعید شرقی القدس للفلسطینیین. أما جدار الفصل العنصری -الذی یتم إنشاؤه فإنه یحیط بالقدس- هادفاً إلى عزلها عن محیطها العربی والإسلامی. ویمتد مساره حول القدس على نحو 167 کم. وبحسب التقاریر فإن 231 ألف فلسطینی أی نحو 56 % من سکان محافظة القدس سیتأثرون سلباً بإقامة الجدار. ثم إن استکمال هذا الطوق الخطیر على القدس عزل 617 موقعاً مقدساً وأثراً حضاریاً عن محیطها العربی والإسلامی. وفی سنة 2009 قامت سلطات الاحتلال بإطلاق حملة لتهوید أسماء آلاف المعالم والمواقع الأثریة فی القدس، وهی حملة مستمرة تسعى لفرض طابع یهودی على المدینة، وتشویه معالمها العربیة والإسلامیة وإلغائها. ومن أمثلة ذلک تغییر اسم شارع وادی الحلوة جنوب المسجد الأقصى إلى اسم شارع "معالیه دیفد"، وتغییر اسم وادی الربابة جنوب المسجد الأقصى إلى "جای هینوم". کما شهدت سنة 2009 تطوراً خطراً على هذا الصعید، إذ بدأت الأسماء العبریة لکثیر من المواقع تحلّ محلّ الأسماء العربیة فی خرائط موقعی ویکیمابیا Wikimapia وغوغل Google على شبکة الإنترنت، بما فی ذلک اسم المسجد الأقصى المبارک، الذی أصبح اسمه الرئیسی "جبل المعبد" ولیس المسجد الأقصى أو الحرم الشریف.
البلدة القدیمة وفی 11/6/1967 قامت القوات الإسرائیلیة بطرد سکان حی المغاربة، فی البلدة القدیمة (التی لا تزید مساحتها عن کیلومتر مربع واحد)، بعد توجیه إنذار بالخروج لدقائق قلیلة، وتبع ذلک تدمیر لمنازل الحی البالغة 135 منزلاً مقابل الحائط الغربی للمسجد الأقصى (حائط البراق)، ومعظمها أملاک أوقاف إسلامیة. وجرت تسویتها بالأرض لتکون ساحة یستخدمها الیهود لأغراض عبادتهم. وقامت السلطات الإسرائیلیة بالسیطرة أیضاً على حی الشرف أو ما یسمى الحی الیهودی فی البلدة القدیمة فی القدس. إذ أصدرت فی 18/4/1968 أمراً بمصادرة 116 دونماً تشمل ذلک الحی، وشارع باب السلسلة، وهی الباشورة، وحی المغاربة. وکانت تضم خمسة مساجد، وزاویتین، وأربع مدارس، وسوقاً أثریاً، و700 مبنى، کان الیهود یملکون منها قبل حرب 1948 ما مجموعه 105 مبان، أما ما کان یملکه العرب فکان 595 مبنى. وقد تمکن الصهاینة من إقامة العدید من البؤر الاستیطانیة فی البلدة القدیمة، غیر أن الأغلبیة السکانیة لا تزال للعرب، الذین یفضلون القبض على الجمر على ترک بیوتهم.
الأقصى فی خطر سعت السلطات الإسرائیلیة إلى تحقیق وجود یهودیّ دائم ومباشر فی المسجد الأقصى ومحیطه، لإضفاء الطابع الیهودیّ على البلدة القدیمة، ولتوفیر غطاء لأعمال الحفریّات. وعملت على التهیئة لمصادرة أجزاء منه، والسیطرة علیه فی مراحل لاحقة، تمهیداً لبناء ما یسمى الهیکل الثالث. وشجعت أو تغاضت عن الاقتحامات المتکرّرة للمتطرّفین الیهود، وسعت لتحویله إلى منطقة مفتوحة أمام الیهود والسیّاح، لیأخذ شکل المتحف والمزار السیاحی، ولتنزع عنه هیبته ومکانته وطبیعته الإسلامیة. کما سمحت السلطات الإسرائیلیة ببناء الکنس عند أسوار المسجد ککنیس المدرسة التنکزیّة، وأسفل منه کقنطرة ویلسون، وفی محیطه ککنیسی خیمة إسحاق وکنیس هوفیر؛ وکانت أبرز إنجازاتها فی هذا المجال خلال سنة 2010 افتتاح کنیس الخراب (هاحوربا). وبدأ الصهاینة حملة محمومة من الحفریات تحت المسجد الأقصى والمنطقة التی حوله، مرکّزین على المنطقة الغربیة والجنوبیة للمسجد، ونتج عن هذه الحفریات تصدع عدد من الأبنیة منها الجامع العثمانی، ورباط الکرد، والمدرسة الجوهریة، والمدرسة المنجکیة. ومنذ سنة 1967 مرت الحفریات بعشر مراحل، کانت تتم بنشاط ولکن بهدوء وتکتم، وبلغت الحفریات مراحل خطیرة عندما أخذوا یفرغون الأتربة والصخور من تحت المسجد الأقصى وقبة الصخرة، مما یجعل الأقصى تحت خطر الانهیار فی أی لحظة، بسبب أی عاصفة قویة أو زلزال خفیف.
السکان العرب.. معاناة وصمود ویقوم الصهاینة بجهود محمومة لجعل حیاة المقدسیین جحیماً لا یطاق، ویستخدمون کافة وسائل الضغط والإغراء والتزویر للحصول على بیوتهم. ویعانی المقدسی بشکل هائل من إمکانیة الحصول على ترخیص لبناء مسکنه، لدرجة اضطرته للبناء دون ترخیص فأصبح أکثر من 15 آلاف بیت وشقة مهددین بالهدم. وتقوم السلطات الإسرائیلیة بعملیات الهدم بشکل منهجی وبدم بارد. کما تقوم بمصادرة الهویات المقدسیة لأبناء القدس بحیث تطردهم وتمنعهم من الإقامة فی مدینتهم، وقد قامت خلال سنة 2008 بتجرید 4672 مقدسیا من حق الإقامة فی القدس. وقد خططت السلطات الإسرائیلیة حتى لا یزید عدد سکان القدس العرب عن 22% من سکانها، غیر أن صمود أهل القدس جعلهم یتزایدون بالرغم من قسوة الاحتلال، فحسب تقدیرات سنة 2009 یسکن القدس بشقیها الغربی والشرقی حوالی 773 ألفاً من بینهم 497 ألف یهودی (64.3%)، یسکن نحو 200 ألف منهم شرقی القدس؛ بینما هناک 276 ألف عربی (35.7%) کلهم تقریباً یسکنون شرقی القدس. وقد فشل الاحتلال الإسرائیلی -بالرغم من کل الإجراءات التی یتخذها- حتى الآن فی تنفیذ مخططه الساعی لتخفیض نسبة العرب. غیر أن من الظواهر اللافتة تراجع نسبة المسیحیین فی القدس من نحو 20% سنة 1948 إلى حوالی 2% سنة 2009، حیث یعانون من الضغوط التی یعانی منها المسلمون، مما اضطر العدیدین للهجرة وترک القدس. ویقوم أهل القدس وفلسطین بالسهر على حمایة الأقصى بالرغم مما یعانونه من احتلال وقهر، وهم یهبّون دوماً للدفاع عن حرمته بأجسادهم وحجارتهم، بعد أن فقدوا النصیر العربی والإسلامی. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,161 |
||