أثر المنمنمات الإیرانیة فی الفن الإسلامی | ||
أثر المنمنمات الإیرانیة فی الفن الإسلامی استطاعت الثقافة الایرانیة، أن ترسخ مواقعها، و أن توسع دائرة معجبیها عبر التاریخ، قدیمه و وسیطه و حدیثه، و کان للثقافة فی تجلیاتها الابداعیة فی مجال العلوم و الأدب، شعره و نثره، و فی مجال العمارة و النحت و التصویر و الصناعات الحرفیة امتیازات اختصت بها، و عبرت عن رؤیة متکاملة إنسانیة الطابع. و تصطبغ الثقافة الایرانیة فی أغلب عصورها بمدخل فلسفی إیجابی، سعى دوماً إلى تکریس مفاهیم الخیر و العدالة و المحبة، إلا أن انعطافها الأکبر فی هذا الاتجاه، حصل مع دخول الاسلام، الذی دعم تلک الاتجاهات البنّاءة و الانسانیة فی مجال الثقافة عموماً، و رفدها بروح جدیدة مستمدة من روح العقیدة، التی تتمثل أهم خصائصها بالتوحید . إننا نستطیع تتبع صفحات متلاحقة من تطور الثقافة الایرانیة منذ ظهور الدولة الفارسیة فی منتصف القرن السادس قبل المیلاد و حتى هذا التاریخ، مروراً بالاخمینیین و الأشکانیین و الساسانیین و الصفویین و غیرهم، و قد تفاعلت إیران عبر تاریخها مع شعوب الأمم المجاورة، و استطاعت فی النهایة، أن تخرج من هذه التجارب الطویلة و المعقدة بفن، یتمتع بمیزات خاصة، إلا أن أهم أحقاب الفن الایرانی تتمثل فی الحقبة الاسلامیة. یتمیز التصویر الاسلامی، الذی عرف باسم "المنمنمات" بخصائص ممیزة، تشمل الجوانب التقنیة و الأسلوبیة و الوظیفیة، التی یطمح إلیها هذا التصویر، و ینطلق هذا کلّه من فلسفة، تتناول الانسان و الکون و الدین فی إطار عرفانی . و تربط فلسفة التصویر فی الاسلام بین العالم المادی و بین العالم الروحی ربطاً محکماً، ینزع إلى الکمال، و یجعل من أعمال الفن نمطاً فریداً فی مزایاه، تقربه من أن یکون نوعاً من ممارسة طقس دینی، و قد ارتبط هذا النوع من التصویر بتطور المخطوطات، التی تناولت شتى المعارف العلمیة منها و الادبیة، و ترقى أقدم المخطوطات إلى القرن الثانی عشر المیلادی، و إن کانت أعداد قلیلة منها معروفة فی مصر و إیران منذ القرن التاسع المیلادی، و لقد عرف الرسم اهتماماً واسعاً فی إیران منذ القرن السابع المیلادی، حیث تفاعل الرسم الایرانی مع الرسم الصینی. تلتقی فی تصویر المنمنمات الاسلامیة تأثیرات عدة، عربیة و إیرانیة و صینیة و مغولیة و سلجوقیة و هندیة و ترکیة و عثمانیة. کما تظهر بعض التأثیرات البیزنطیة فی فترات محددة، و خاصة حول القوس المتوسطی، و یمکن أن نلحظ تأثیراً باهتاً لها فی المنمنمات المعاصرة. و لفن المنمنمات عدة مدارس، فهناک المدرسة البغدادیة و المدرسة المغولیة و المدرسة التیموریة، ثم المدرسة الصفویة و المدرسة المملوکیة و المدرسة الترکیة و المدرسة الهندیة، ثم المدرسة المعاصرة. لقد تمیزت کل من هذه المدارس بمیزات خاصة، و یشکل نشاطها مجتمعاً المسیرة الرئیسیة لتطور فن المنمنمات فی العالم الاسلامی. و لقد عملت شعوب العالم الاسلامی جمیعها بدأب فی تطویر هذا الفن، الذی یعتقد البعض بأنه " مولود الرسوم الصینیة "، نظراً لغلبة العرق الأصفر على الرسوم بسماته الممیزة، و غزارة التفاصیل المرتبطة بأسلحة المغول و عاداتهم و تقالیدهم و بیئتهم، و هی تأثیرات بقیت ملحوظة لفترة من الزمن، ثم تضاءل ظهورها تدریجیاً تحت ضغط التأثیرات المحلیة، و ینطبق هذا منمنمات أغلب المدارس فی فتراتها المبکرة. و الواقع، أن عبارة منمنمة تتصف بسعة دلالتها، فهی إنتاج فنی صغیر الابعاد، یتمیز بدقة فی الرسم و التلوین، و هو اسم یطلق عادة على الاعمال الملونة و غیرها من الوثائق المکتوبة المزینة بالصور أو الخط أو الهوامش المزخرفة، و قد حقق فن المنمنمات المرتبط بالمخطوطات کمالاً رفیعاً خلال القرون الوسطى فی الشرقین الأوسط و الأدنى، و حتى فی أوروبا، و قد استخدم لفظ المنمنمات للتعبیر عن أعمال التصویر، و خاصة الصور الشخصیة الصغیرة الحجم، التی کان یجری رسمها، و تلوینها على الخشب و العاج و العظام و الجلود و الکارتون و الورق و المعدن و غیرها من المواد. لعب الفنانون الایرانیون دوراً مهماً فی أکثر المدارس الفنیة للمنمنمات، فقد تفاعلت خبراتهم فی کل من المدرسة العباسیة فی بغداد، و خاصة لدى وصول البرامکة إلى موقع السلطة، فقد استجلب هؤلاء العدید من الفنانین الایرانیین إلى بغداد، فشارکوا فی تأسیس مدرسة المنمنمات فیها، و قد عرف من المدرسة السلجوقیة محاولة الحفاظ على أصالة الرسم الایرانی، و سماته المحلیة، و أبعاده عن تأثیرات الفن الصینی، لکن باستیلاء المغول على إیران، و ظهور المدرسة المغولیة، تغیرت ملامح المنمنمات، إذ أوجد المغول مدارس فی تبریز و شیراز و مرو، ارتبطت بالأسلوب الصینی، ثم ظهرت المدرسة الهراتیة أو التیموریة فی سمرقند، و هی من أبرز مدارس الرسم الایرانی على وجه الاطلاق، و عندما تأسست المدرسة الصفویة فی العهد الصفوی، انتقل مرکز الفن الایرانی من "هراة" إلى " تبریز"، و تعتبر رسوم المدرسة الصفویة صفحة جدیدة فی الرسم الایرانی. لقد أسس الفنانون الایرانیون المدرسة الترکیة، لفن المنمنمات بعد استقدامهم من قبل السلاطین العثمانیین، کالسلطان سلیمان القانونی، کما و أن المدرسة الهندیة، تأثرت هی الاخرى بالفنون الایرانیة بعد أن انتشر الاسلام فی الهند على یدی "بابر"، حفید تیمورلنک، و هکذا، و بهذه الصورة المکثفة و المختصرة إلى أبعد الحدود، یمکن استنتاج الدور الریادی البارز، الذی لعبته إیران فی تطور فن المنمنمات عبر التاریخ، الذی یمتد أکثر من عشرة قرون فی بقاع جغرافیة مترامیة الاطراف، لقد عکس الفن الایرانی عبر تاریخه مراحل تطور الأمة، و عکس أحداثها المهمة و هموم شعبها و تعاقب أطوارها الحضاریة، و تفاعلها مع الأمم الأخرى، فکان الفن فی إیران مواکباً لمسیرة الانسان دائماً. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,303 |
||