قدوه المجاهدین و المناضلین | ||||
PDF (1438 K) | ||||
الشیخ الدکتور فؤاد المقدادی* {ولا تحسبن الذین قتلوا فی سبیل الله امواتا بل احیاء عند ربهم یرزقون* فرحین بما آتاهم الله من فضله و یستبشرون بالذین لم یلحقوا بهم من خلفهم الا خوف علیهم و لا هم یحزنون* یستبشرون بنعمةٍ من الله و فضلٍ و أن الله لا یضیع اجر المؤمنین* الذین استجابوا الله و الرسول من بعد ما اصابهم القرح للذین احسنوا منهم و اتقوا أجر عظیم* الذین لهم الناس ان الناس قد جمعوا لکم فاخشوهم فزادهم ایماناً و قالوا حسبنا الله و نعم الوکیل} آل عمران ١٦٩-١٧٣.
قلیل من رحیق عبق القائد الحبیب الحاج قاسم سلیمانی (رضوان الله علیه). کانت إحدی مهمات الحرس الثوری الذی تأسس لحمایه الثورة الاسلامیة فی ایران و الدفاع عنها هی رعایة و دعم حرکات التحرر من الإستکبار العالمی لا سیما فی بلاد الإسلامیة و الذی تطور فیما بعد لیشکل فیلقاً یُعنى بهذه المهمة سمی بفیلق القدس وذلک إنطلاقاً من البعد العالمی للنهضة الإسلامیة التی قادها الإمام الخمینی (قدس) وخطابه لمستضعفی العالم بالنهوض والتحرر من ربقة الإستکبار العالمی وعلى رأسه الشیطان الأکبر أمریکا، ولم تکن مهمة فیلق القدس عسکریة محضة بل کانت مهمة شاملة لجمیع جوانب التصدی للاستکبار العالمی سیاسیاً وثقافیاً واجتماعیاً وأخلاقاً لتکون الاساس البنیوی لأیّة قوة عسکریة مناهضة للإستکبار. ومن هذا المنطلق أصبح فیلق القدس عالمیاً وتبعاً لذلک أصبح قائده المجاهد قاسم سلیمانی شخصیة عالمیة بکل أبعادها ولم تخلو من بصماته أغلب الساحات الساخنة واصبح الرائد فی اهمها. من هنا ومن خلال متابعتی لهذا الدور الکبیر عرفت الشهید القائد الحاج قاسم سلیمانی وذلک قبل سقوط نظام الطاغیة صدام من خلال دوره فی تأسیس وتطویر فیلق بدر قبل الإنتفاضة الشعبانیة فی العراق وبعدها، وکنت فی حینها معاوناً لممثل الولی الفقیه سماحة آیة الله الشیخ محسن الآراکی فی فیلق بدر لحین إنتهاء الإنتفاضة الشعبانیة.. أما بعد سقوط نظام الطاغیة فکان لنا معه شأنٌ آخر.. فقد بدأت العلاقة العملیة المباشرة به حین تشکیل لجنة لدراسة أوضاع العراق بعد إحتلاله من قبل الغزاة الأمریکان وتدمیرهم للعراق بدل الإکتفاء بإسقاط حکومة الطاغیة صدام، وبعد عودتنا وتقدیم دراستنا له کان اللقاء التفصیلی بالقائد سلیمانی الذی وجدت فیه خصالاً یندر وجودها فی قائدٍ آخر. فأنا لست ممن یقیّم عمق إیمانه وتقواه وشدة زهده وترابیته ولکننی أدرکت مدى ذوبانه فی الولایة وقیادة الإمام الخامنئی (دام ظله) وحسّه الجهادی المرهف فی کل جوانب عمله من خلال متابعته التفصیلیة لکل ما یجری فی العراق، وکان رجل المهمات الصعبة والحاسمة ولا أنسى ما قام به لفک الحصار عن مدینة النجف الأشرف الذی تزامن مع عوده آیة الله العظمى السید السیستانی (دام ظله) من رحلة العلاج خارج العراق، حیث وضع خطة إنقاذ المحاصرین فی المدینة القدیمة للنجف الأشرف وکلفنی بالتعبئة الجماهیریة لها وإعداد البیان الذی تضمن مطالب هذه الجماهیر والتحرک من بغداد وصولاً إلى النجف الأشرف والدخول إلیها بالتزامن مع دخول آیة الله العظمى السید السیستانی (دام ظله) لفک الحصار.. فقد کانت هذه المهمة إحدى المحطات الحساسة فی إحباط محاولة الغزاة الأمریکان الدخول إلى النجف الأشرف والفتکِ بأبنائها. ومن المحطات المشهودة للقائد سلیمانی هو إهتمامه بالوحدة الإسلامیة والتقریب بین مذاهبه، فکان یتاب بالدقة والإهتمام الکبیر کل النشاطات فی هذا المضمار لاسیما بعد تأسیس إتحاد علماء المسلمین فی العراق الذی جمع أکثر من ٦٠٠ عالم من علماء السنة والشیعة فی مؤتمرات ونشاطات وفعالیات وحدویة کان من ثمرتها عزل تنظیم القاعدة الإرهابی عن التمترس بأهل السنة حیث تمّ طرده من مناطقهم.. وعند تمکین الغزاة الأمریکان تنظیم داعش من احتلال مناطق ومدن کبرى فی العراق، وعند تصدی المرجعیة العلیا فی العراق وإصدار سماحة آیة الله العظمى السید السیستانی (دام ظله) فتوى الجهاد الکفائی فهم القائد الحاج سلیمانی ورفاقه أبعاد هذه الفتوى، فالکفایة فی الجهاد لیس فقط فی العدد بل بالعُدة والکفاءات القیادیة والخبرات القتالیة والحضور المباشر فی المیدان، فکان على رأس من تنادى لها هو القائد سلیمانی فقدّم وبجسر جوی وبجسر بری السلاح النوعی والخبرات الاستشاریة فی القتال ورابط معهم فی المیدان وانهى بتسدید الله وعونه مقولة داعش بفترة قیاسیة أبهرت الغزاة الامریکان وعملائهم وادخلت السرور والآطمئنان على العباد والبلاد وفی نفس سماحة آیة الله العظمى السید علی السیستانی والامام السید علی الخامنئی (دام ظلهما الشریف).. وهذا هو الذی جعل الإمام السید السیستانی (دام ظله) یقول فی تعزیته عند استشهاده ورفیق دربه الحاج ابومهدی المهندس بأنهم کانوا قادة الإنتصارات، ولعل سماحته عبّر بالانتصارات بصیغة الجمع لأنهما اصبحا ملهمین لمن بعدهم فی تحقیق الإنتصارات المتوالیة بإذن الله و تسدیده. ومن هنا ندرک ان القائد الحاج سلیمانی مدرسة فی قیادة الإنتصارات بجمیع أبعاد القیادة الجهادیة الفکریة والسیاسیة والعسکریة، وهذا ما أشار إلیه الإمام الخامنئی (دام ظله) عندما طلب تأسیس مؤسسة تُعنى بسیرته وأسالیبه فی العمل السیاسی والجهادی وتجربته العسکریة وأخلاقه القیادیة وروحه الإیمانیة التواقة للتقرب إلى الله فی کل ما یقوم به وعشقه للشهادة وعیشه ذکریات الأبدال الأبطال من رفاقه فی الجهاد الذین سبقوه فی الشهادة ولقاء الله ونیل رضوانه. هذه المدرسة التی انطلقت من لهیب الجهاد فی صد عدوان الطاغیة صدام على الجمهوریة الاسلامیة فی إیران شعباً ونظاماً، فهو قد وُلد من رحم ملاحم الجهاد لیمتد إلى الحواضر الإسلامیة الساخنة فی العراق وفلسطین ولبنان وأفغانستان وسوریا والیمن وترامت إلى أفریقیا واسیا بل و إلی أمریکا اللاتینیة، حتی أصبح قدوة المجاهدین و المناضلین ضد الإستکبار العالمی، فلم تکن شهرته إعلامیة إنما کانت من أرض الواقع والمیدان التی نبأت عنه وعن جولاته الکبرى حتى أذهلت العدو وأسرت الصدیق وأسست لرفاق دربه مدرسة الجهاد الکبرى التی لایحدها زمانٌ ولا مکان مما جعل الإعلام المعادی یُذْعنٌ لصولاته ویتسابق الإعلام الجهادی لنشر مدیاته الجهادیة الکبرى. ولتأخذ أیضاً نموذجاً فریداً آخر لدوره الجهادی فی العراق، فقد کان أول من لبّى نداء المرجعیة فی النجف الأشرف فی الجهاد الکفائی بالقادة والسلاح والحضور جندیاً متمیزاً فی المیدان یلوذُ به مجاهدو الحشد الشعبی کما یلوذ به قادة ومراتب الجیش العراقی والشرطة الإتحادیة لاسیما عندما یرونه عقلاً مخططاً ومقداماً فی الصفوف الأولى للمقاتلین ویشعرون أنه ملاذهم عندما یداهمهم الخطر، ونماذج ذلک کثیرة نُشیر إلى واحدة منها وهی معضلة منطقة جرف الصخر التی کانت من أصعب المناطق جغرافیاً ودیموغرافیاً حیث أن أغلب سکانها هم حواضن لقادة تنظیم داعش کما أنها إمتداد لصحراء الأنبار التی تختبئ فیها الخلایا الخطرة لداعش.. ومنها تصدّر مئآت المفخخات والعناصر الإجرامیة لمناطق الارتباط بین بغداد والحلة والنجف الأشرف وکربلاء المقدسة، والتی ذهب ضحیتها عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، فکان رجل حل هذه المعضلة هو القائد سلیمانی حیث وضع خطة محکمة لإقتحامها رغم صعوبتها الجغرافیة لإحتوائها على بحیرات مائیة وکثافة فی الإشجار والنخیل و وعورة فی تضاریسها فکان النصر وبه تحولت من جرف الصخر إلى جرف النصر وانتهت بؤرة الإرهاب فیها. إن هذه المحطات الفریدة بالذات تحتاج إلى توثیق لتکون مرجعاً موسوعیاً یدرسه القادة والأرکان فی العمل العسکری وفی أخلاقیة القائد فی التواصل مع جنده وطرق أکتشاف خطط العدو وسبل دحره.. وأمثال ذلک نجده فی دوره الواسع فی لبنان وسوریا والیمن وفلسطین وغیرها. لقد کان القائد الحاج سلیمانی قدوة فریدة وأسوةٌ متألقة. ولیس إعتباطاً أتخاذ رأس الشیطان الأکبر ترامب قراره باغتیاله وبهذه الطریقة الجبانة التی تعبر عن مدى عجزه وعجز دولته وجیوشه وهزیمتهم أمام هذا الطود الشامخ فی سوح الجهاد ومیدان القتال، بل هُزْم ترامب وکیانه المستکبر باغتیال القائد سلیمانی لأن دمه الطاهر واشلائه الممزقة متأسیاً بأصحاب الحسین (ع) أمام غدر بنی أمیة وحقدهم، فأنتفضت الملایین من جماهیر الشعبین العراقی والأیرانی لتشییعه والمهندس ورفاقهم فی بغداد والکاظمیة وکربلاء المقدستین والنجف الأشرف مروراً بمحافظات الجنوب والأهواز وطهران وقم المقدسة وکرمان التی وریَ بقایا جسده الممزق فیها، وبهذا التشییع الملیونی جدد الشعبان العراقی والإیرانی العزم على أخذ الثأر المقدس والتنادی للقرار التأریخی الحاسم الذی أتخذه الإمام السید علی الخامنئی (دام ظله) بإخراج الغزاة الأمریکان من العراق بل وإخراجهم أذلاء من المنطقة بأسرها. ولایفوتنی فی الختام أن أشیر إلى بعض ذکریاتی وخواطری مع القائد الشهید سلیمانی.. لقد کان الحاج رضوان الله علیه حنوناً وعطوفاً یرعى کل من یعمل معه وتحت قیادته فهو یزن المهمات بمیزان الإنجاز الخالص لله سبحانه وتعالى.. فکنت کلما عُدت إلى ایران بعد جولات العمل فی العراق وما یرافقها من نصب وتعب وجهد وأحیاناً مرض کان یصرّ على توفیر کل مستلزمات الراحة وإعادة الحیویة قبل اللقاء به.. وفی أحد المرات کلفنی بمهمة حسّاسة وعدت بعد إنجازها وبعد استراحة کالعادة استقبلنی فی مکتبه وقدم لی هدیة ثمینة جداً بشکلها ومضمونها وقال لی لم أقدم هذه الهدیة إلّا إلى اثنین وأنت الثالث، وقد کانت الهدیة عبارة عن ثلاثة مجلدات کبیرة الحجم مُذهبة بأوراقها الصقیلة اللامعة تحوی صفحات من مخطوطات ملونة بألوانٍ جمیلة للقرآن الکریم یعود بعضها للإمام علی (ع) وبعض الائمة (ع) وغیرها من فنون الخط القرآنی الجمیل التی تعود لقرون وعقود من الزمن فکانت هذه الهدیة من أعزّ ما أحتفظت به وکانت تشحذ ذهنی دائماً بجمیل ذکریاتی عن هذا القائد الفذّ. وآخر خواطری عنه یوم رنَّ جرس الجوال بعد منتصف اللیل لیخبرنی أحد الاعزاء أن ید الغدر والإجرام قد طالت القائد العزیز سلیمانی فیسقط شهیداً ومعه رفیق دربه المهندس ومن معهما بصواریخ طائرة مسیرة على طریق مطار بغداد وعند سماعی الخبر هرعت إلى التلفاز وأتصلت بالمقربین من الحاج فأکدوا لی الخبر فأنهملت دموعی وأرهقنی السهر فغفوت وإذا بی أرى العزیز سلیمانی فی منامی بلباسه البسیجی البسیط على حافة نهر دجلة أمام السفارة الأمریکیة وکر التجسس فی بغداد، وکان فی حینها قد نصب المجاهدون خیم الإعتصام أمامها إحتجاجاً على ضرب الطائرات الإمریکیة مجاهدی الحشد الشعبی فی القائم والذین تم تشییعهم فی ذلک الیوم، وهنا وانا فی عالم الرؤیا تشبثت بالحاج قاسم قائلاً له لَم قررت ترکنا ونحن بأمس الحاجة الیک فقال لی لم ولن اترککم فأنا معکم ثم أخذنی لیعرفنی بشخص یرتدی لباس البسیج أیضاً وقال لی هذا معکم وأنا معکم ثم نادى آخر و کان بلباسٍ مدنی وقال لی هذا أیضاً أمعکم.. وهنا توجه الى خیم الإعتصام وقال لی أرفعوا هذه الخیام وأجمعوها فقد مضى أمرها فالمرحلة القادمة حاسمةٌ تقتضی غیر ذلک، وبعدها نهضت من نومی وأنهمرت دموعی کثیراٍ وتمنیت أن ألحق برکابه بلطف الله تعالى ومنه الأزلی.. فسلام على الحاج الشهید القائد سلیمانی یوم ولد صفحة بیضاء ویوم عاش مجاهداً فی سوح الوغى ویوم أستشهد مظلوماً مقطع الأوصال و یوم یُبعث مضرجاً بدمائه مع الحسین وجده محمد (ص) وأبنائه الأئمة الطاهرین. والحمد لله رب العالمین * أمین عام اتحاد علماء المسلمین فی العراق. | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 144 تنزیل PDF: 67 |
||||