الثورة الإیرانیة ... مفاهیم فی الثقافة السیاسیة | ||||
PDF (1336 K) | ||||
عند الحدیث عن الثورة لابد أن یتبادر إلى ذهننا عن ماهیة الثورة، وهل الثورة الإسلامیة فی إیران تحمل طابعا مختلفا؟ وما الذی جعلها تحمل هذا الاختلاف؟؟ کان العالم على موعد لحدث مغایر باعتباره مفاجأة من حیث نوعیة التغییر وقوته البعیدة عن الحسابات البشریة، لذا کانت الثورة وتأثیراتها التی حملت مدلولات ذات طابع خاص محمل للدراسات والمقالات التی شغلت الناس لأکثر من ثلاثین سنة. لم یکن الشاه محمد رضا بهلوى الذی وصل إلى السلطة سنة ١٩٤١ بعد عزل والده، إلا رجلاً مستبداً جعل من إیران ملکاً له، ومبذراً للمال العام، ففی أکتوبر سنة ١٩٧١ وبمناسبة مرور ٢٥٠٠ عام على إنشاء الإمبراطوریة الفارسیة، أقام حفلا باذخاً دعی فیه شخصیات أجنبیة وعربیة، واستمرت هذه الاحتفالات ثلاثة أیام ملیئة بالتبذیر المفرط، قدم فیها أکثر من طن من الکافیار، وجلب ٢٠٠ طاه من فرنسا لإعداد الولائم، و بلغت التکالیف الرسمیة للحفل ما یفوق ١٠٠ ملیون دولار، بینما ترزح المحافظات الإیرانیة تحت وطأة الفقر المدقع. ولم تجدی الطفرة النفطیة فی أواخر سنة ١٩٧٤م، إلا مزیدا من التضخم والهدر نتیجة سیاسة الشاه التبذیریة وتفشی الفساد فساعد ذلک على زیادة الفجوة بین الأغنیاء والفقراء اتساعا، الأمر الذی نفذ معه صبر الناس تحملا. یعتبر عام ١٩٧٨م هو البدایة الحرکیة للثورة، فقد استاءت الجماهیر مما أوردته بعض الصحف الرسمیة من هجوم وتعدی سافر على آیة الله الخمینی، فخرجت الجموع الغاضبة فی قم استنکارا على ادعاءات وتجاوزات تلک الصحف، الأمر الذی أدی إلى مهاجمتهم من قبل شرطة الشاه التی أودت بحیاة ٧٠ طالباً، وفی صیف العام نفسه خرج العمال الإیرانیون فی الشوارع فی أعداد حاشدة، فی حین أعلن عمال آخرون الإضراب، ولکی یحرف الشاه مسار الثورة وتلاحمها نفذ البولیس السری السافاک فی أغسطس حریق سینما ریکس الذی حصد أکثر من ٤٠٠ شخص ماتوا حرقا فی هذا الحریق الضخم، وفی الیوم التالی تجمع ١٠,٠٠٠ من أقارب القتلى والمتعاطفین لتشییع جماعی حاشد ومظاهرة تنادی (لیحترق الشاه). مع حلول سبتمبر، کانت البلاد مزعزعة على نحو شدید، واشتدت المظاهرات الحاشدة ففرض الشاه الأحکام العرفیة، وحظرت کل التظاهرات لکن فی ٨ سبتمبر ١٩٧٨، خرجت مظاهرة حاشدة للغایة فی طهران، إنها المظاهرة التی حولت ذلک الیوم إلى ما بات یعرف باسم الجمعة الأسود، وظهرت الحکومة فیه بصورتها الوحشیة الدمویة مما أدى الى إضراب عام فی تشرین الأول/أکتوبر شل الاقتصاد والصناعات الحیویة التی أغلقت أبوابها و”حسمت مصیر الشاه”. لقد بلغت الاحتجاجات ذروتها فی کانون الأول/دیسمبر ١٩٧٨، خرج إلى شوارع طهران نحو ملیونی شخص ملئوا ساحة أزادی (شاهیاد) مطالبین بإزالة الشاه وعودة الخمینی. وأمام الضغط الشعبی وفی ١٦ کانون الثانی/ینایر ١٩٧٩ غادر الشاه، وظهرت مشاهد الابتهاج العفوی، ودمرت خلال ساعات “کل رموز سلالة بهلوی”، و فی ١ شباط/فبرایر ١٩٧٩، عاد الخمینی إلى طهران، وأصبح دون منازع قائد الثورة بعد أن کان ملهمها. لقد کان للثورة الإیرانیة صدى کبیر على الصعید الإقلیمی، والعربی منه خاصة، اذ کانت بمثابة إعلان على قدرة الشعوب المسلمة على الوصول إلى السلطة السیاسیة حتى فی البلدان التی تنعم بالمساندة الأمریکیة بالدرجة الأولى . لقد أوجدت الثورة الإیرانیة فی عالمنا المعاصر ثقافة مغایرة فی الأدب السیاسی العالمی لما کان سائدا، لقد تضمنت هذه الثورة ثورة فی القیم والأفکار والتصورات، لقد تمکنت هذه الثورة من اقتلاع جذور الکثیر من الأفکار والتصورات والرؤى التی ترسبت منذ فترة طویلة فی مجتمعنا الإسلامی والتی بثها الاستعمار الغربی بکل منافذه ،لذا استطاعت الثورة أن تستبدل هذه المفاهیم إلى مفاهیم نابعة من صلب الإسلام، مفاهیم هی أقرب ما تکون لمفاهیم قرآنیة. الحسابات الإلهیة: قال تعالی فی محکم کتابه الکریم (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَکِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَلَکِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِیُبْلِیَ الْمُؤْمِنِینَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمٌ) الأنفال/ ١٧ الحسابات الممکنة هی الرائجة لدى الرأی العام قبل الثورة، فلم یکن للحسابات الإلهیة أی اعتبار، لکن هذه الثورة أوجدت على ارض الواقع معجزة إلهیة بشکل واضح وجلی، ففی هذا الصدد یشیر الإمام الخمینی(قدس) بقوله: “فلیس هناک من شک بان هذه الثورة حظیت بتأیید من قبل الله سبحانه وتعالى، أن تحقیق ثورة عقائدیة وإلهیة تسیر فی طریق استقرار العدل فی عالمنا المعاصر تعتبر بحق معجزة إلهیة. إن الحسابات هنا هی حسابات إلهیة، إنها ید الله ومشیئته التی أبطلت جمیع الحسابات المادیة. “ ویضیف محمد مهدی الآصفی فی کتابه فی علاقة الثورة بالله بقوله: (کنت أتوخى أن افهم رأی المثقفین الواعین المسلمین فی خضم الإحداث، فلم أجد إلا قلة قلیلة کانت واثقة بالنصر، وأکثر من رأیت من المثقفین کانوا یرون ان الورقة الرابحة لأمریکا على کل حال، وان نتائج هذه الحرکة لا تتخطى سقوط وزارة وقیام أخرى، وان هذه الثورة لا یمکن ان تتجاوز حدود الوفاق الدولی القائم بشأن إیران، وأن أمریکا لن تتخلى عن إیران وعن النظام الملکی، وان القضیة لا تتجاوز محاولة أمریکیة لتأدیب الشاه وتحجیم سلطاته، وأن رأس الحبل بید الیسار والمؤمنون هم الضحایا، وان مراجع الدین ینقصهم الوعی السیاسی وقضیتهم خاسرة بالتأکید، وأن ثورة الشارع لا یمکن أن تزعزع أرکان النظام الشاهنشاهی العتید، وان هناک لعبة خفیة تکشفها الأیام فیما بعد، وان أمریکا لا یمکن ان تسکت عن آبار النفط وقواعدها العسکریة الضخمة فی إیران، وان روسیا لا یمکن ان تسکت عن الغاز مصالحها فی إیران) إنها الفکرة التی غیرتها الثورة الإیرانیة بان النصر ولید الحسابات الالهیة. جماهیریة الثورة المستضعفون فی الأرض: کیف ینصر الله الفئة القلیلة الفقیرة الضعیفة على الفئة الکثیرة الفنیة القویة، على خلاف ما یتصوره الناس فی موازین القوى والمعادلات السیاسیة والحسابات الفکریة؟ انه السؤال الذی طالما سأله الناس مراراً، إنها المشیئة الإلهیة القاطعة، إنها الهبة التی منّ بها الله علی المستضعفین من الرجال والنساء والأولاد، وتحویل القوة والسلطان إلى هؤلاء المستضعفین من أیدی الجبابرة والطغاة، وتمکین الأرض لهم ( ونرید أن نمن على الذین استضعفوا فی الأرض، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثین، ونمکن لهم فی الأرض، ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما کانوا یحذرون) القصص/ ١-٦ تعتبر الثورة الإیرانیة أکبر ثورة شعبیة شهدها التاریخ المعاصر قیاسا بالثورة الفرنسیة الکبرى والثورة الروسیة البلشفیة، إذ کانت أکثر حضورا للجماهیر فی الاعتصامات والتظاهرات. وکان ذلک من نتاج الوعی السیاسی للخط الذی لم یکن مقتصرا على إدارة النخبة المثقفة فقط کما یحصل عادة، إنما نزل هذا الوعی الى الشارع، وتمکن من عقلیة الجماهیر، فمنحهم صلابة وقوة، إن التصور الغربی للمجتمعات البشریة هو إن حالة الغوغائیة هی الحالة الطبیعیة المسیطرة على الأوساط الشعبیة والجماهیر، فالعقل الجمعی هو الذی یوجه التجمعات البشریة ولیس التفکیر الوضعی والفهم الدقیق والتشخیص الصحیح للمجتمعات، فحالة الغوغائیة تکون هی الحالة الغالبة، ولیس الأمر کذلک فی المجتمعات الموجهة، وقد لاحظنا فی تیار الثورة الإسلامیة ان الجمهور استطاع بفضل التوجه العلمائی المستمر ان یتخلص من حالة الغوغائیة ویخضع فی تحرکه السیاسی والجهادی للتشخیص الصحیح والتفکیر الموضوعی ویتناول القضایا السیاسیة والاجتماعیة المعقدة بحس سیاسی مرهف وتشخیص دقیق وتفکیر موضوعی، فتحرکت الجماهیر بمسیرات ضخمة بعد صلاة الجمعة وهو ینادون (لن نترکک وحدک یا أمام کما ترک أهل الکوفة الحسین (ع) فی یوم الطف) واستطاعت هذه الجماهیر ان تعید المیاه الى مجاریها وتطرد هذه الحفنة من کراسی (لا)، لأنهم آمنوا بأنهم المستضعفون فی الأرض الذین وعدهم الله، لذا عمل قیادیو الثورة وعلى رأسهم الإمام الخمینی تمکین المستضعفین فی الأرض وجعلهم أصحاب القرار فیما یریدونه، فجری الاستفتاء علی (الجمهوریة الإسلامیة: نعم أو لا) فی ابریل ١٩٧٩. وقد أدلی ٩٨ ٪من جماهیر الشعب بأصوات نعم للجمهوریة الاسلامیة. الاستبداد والاستکبار لقد عززت الثورة فکرة محاربة الاستکبار المنبثق من المفاهیم القراء نیة (قَالَ الَّذِینَ اسْتَکْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِی آمَنْتُمْ بِهِ کَافِرُونَ) العارف/ ٧٦ فثورة شباط (فبرایر) الایرانیة لم تسقط نظام الشاه محمد رضا بهلوی فحسب بل أسفرت عن انهیار أرکان الاستبداد المتمثل بالقوة المطلقة للملوک حیث کان نموذجاً بارزاً للسلطة المطلقة للحاکم الفرد. لکن الاستبداد لیس ترکیباً میکانیکیاً هشاً ینمحی اثر انهیاره بضربة ثوریة سریعة بل هو ثقافة وخصوصیات نفسیة مترسخة فی الأذهان ولکی یتحول إلی منهج آخر مغایر یحتاج إلی جهود سیاسیة وثقافیة مضنیة. لذا اظهر الإمام ثورة رسخ فیها مفهوم ضد الاستکبار والمستکبرون فی الأرض المستکبرون لکی یتمکنوا من الاستکبار فی الأرض وفی حیاة الناس واستضعاف عباد الله لابد لهم من تقیید الإنسان بعد أن یتحرک او یعمل بطلاقة بحریة، لذا جاءت الثورة بمنهج إن مطالبة الفرد بالتغییر مقرون فلابد ان یتخلص من قید المستکبرین على رجلیه ویدیه ومن کل ثقل على ظهره. شعار الله اکبر ارتبطت الثورة بشعار الله أکبر فقد جعلت من هذا الشعار فی کل حرکاتها وسکونها أهازیجها وصمتها دمها وثورتها رایة تلوح به حیث تسیر، لقد أدرکنا وبسرعة أن الله أکبر باللغة العربیة تعنی أن الله أکبر من کل شیء فی الوجود. فهذا الشعار الذی یمنح المؤمنین القوة والعزة والصمود والاستقامة والثبات فی ساحات المعرکة وهو یعنی ان الله اکبر من أی قوة فهو اقدر من أی طاغوت مهما بلغت قدرته وشوکته وتضاءل امام هذا الشعار قوة الطغاة وشوکتهم، لذا عززت الثورة هذا الشعار الذی أصبح شعار الثوار والمستضعفین فی الأرض لأنه الشعار الحقیقی الذی یزعزع المستکبرون فی الأرض. الإمام والثورة لم تکن هذه الثورة یقودها عمال، لیبرالیون مثقفون، أو شباب طلاب إنما قادها علماء دین فعالم الدین الذی کان یجمع الناس حول المسجد، ویبث فیهم روح العمل والجهاد، ویعطیهم درساً فی الإیمان والعمل فی أقصى البلاد، وفی قریة صغیرة مجهولة من العالم الإسلامی له حصة ودور فی وضع هذه الثورة، لذا فان الإمام والثورة، ظاهرتان لا یمکن الفصل بینهم، ونورد هنا بعض الأدلة التی تغنینا عن الشروح ممن عاصروا الإمام والثورة عن قرب باختلاف عقائدهم وتوجهاتهم: - سماحة قائد الثورة السید علی الخامنئی: “إن الثورة الاسلامیة والامام الخمینی(قدس) ظاهرتان لا یمکن الفصل بینهما، فمن غیر الممکن تحلیل الثورة الاسلامیة بدون التعرف على شخصیة قائدها العظیم” . - صحیفة الغاردیان البریطانیة “ إن دور آیة الله (الإمام) الخمینی(قدس) فی الثورة العظیمة التی حصلت فی إیران کانت محوریة ومهمة وما من شک فی أن آیة الله کان الحجر الأساس لهذه الثورة.” - فرید هالیدی أستاذ العلاقات الدولیة فی جامعة لندن فیقول فی مقدمة کتاب ألّفه عن إیران: “إن الثورة الإسلامیة هی بحق من أعظم الثورات فی التاریخ. ونحن جمیعاً على علم بأن هذا الحدث العظیم کان بتأثیر عظمة شخصیة الامام الخمینی(قدس) وأن یداه القویتان وقیادته کانت هی التی أثارت هذه الأمواج البشریة الهائلة”. - المفکر والخبیر الفرنسی البارز فی علم المجتمع میشیل فوکو یشیر فی تألیفاته إلى رحلة قام بها إلى إیران فی فترة ذروة أحداث الثورة عام ١٩٧٩ “أن السمة البارزة التی یتمیز بها الفکر السیاسی للإمام الراحل هی ارتکازه على الهویة الدینیة حیث عرض فکره ضمن إطار یتجاوز إطار العلمانیة الغربیة، فالثورة الإسلامیة الإیرانیة تحدّت قرنین من سلطة فکر سیاسی ذو جذور تعود إلى بضعة مئات من السنین.. وإن هذه الثورة لدیها الکثیر لتقوله، وإن ذلک یعد السمة البارزة التی یتمیز بها الفکر السیاسی للإمام الخمینی(قدس) “. إن الامام(قدس) وبناء على هذا الفکر السیاسی حرّک عجلة أعظم ثورة اجتماعیة فی القرن العشرین، والتی یعتبرها المحللون الدولیون أنها لا یمکن تقییمها ضمن إطار المعاییر التی یتم على أساسها تقییم باقی الثورات الکبیرة فی العالم. إن ترابط الثورة الاسلامیة الوثیق مع أفکار وشخصیة الامام الخمینی(قدس) الشاملة هو العامل الذی یؤدی إلى تمییز هذه الثورة عن باقی الثورات الاسلامیة الکبیرة فی العالم، التی حدثت فی القرن العشرین، فخط الإمام فی مسیرة الثورة کان من أعظم مکاسب هذه الثورة المبارکة ،هذا الخط الذی تبنته الثورة وسارت علیه عند أصوله وجذوره إلى دعوة الأنبیاء والمرسلین علیهم السلام لیس فیه شیء جدید إلا ما یتعلق بظروف التطبیق والعمل والثورة تتحرک على خطى أولئک الصدیقین الذین حملهم الله تعالى رسالته على خطى إبراهیم ونوح وموسى وعیسى، وخطى رسول الله(ص) و أهل البیت(ع). | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 154 تنزیل PDF: 71 |
||||