البعـد الدینامـی للرؤیا الإسلامیة فی صیانة ذاتیة المرأة فی ظل معاییر التحرر الغیر مشروط وحرکة الانعتاق الموهوم | ||||
PDF (3589 K) | ||||
![]() | ||||
الدکتورة زینب محمد عیسى کاتبة وباحثة و مدیرة جمعیة السیدة زینب الخیریة – بیروت بسم الله الرحمن الرحیم “وقل للمؤمنات یغضضن من أبصارهن” (النور: ٣١). “ یا أیها النبی قل لأزواجک” (الأحزاب: ٥٩). التأمل فی الآیات الکریمة تُبیّن البُعد الدینامی للرؤیا الإسلامیة فی صیاغة شخصیة المرأة. کما تبیّن الآیات الکریمة فریضة شرعیة هادفة الى تحصین المرأة من الانزلاق فی متاهات الإثم والانحراف والحرام، والعروج الى المستویات الأخلاقیة التی تُهذِّب النفس من مرکز الضبط الداخلی ضمن إطار التقنین التشریعی الإلهی بما یضمن حصانتها وحمایتها. إنَّ قیمة المرأة تتمثّل بما شرَّع لها الإسلام من وعی لفکرها وخصوصیتها ودوافعها ورغباتها الأصلیة، وتشریع أسس التبادلات العلائقیة فی إطار من الحشمة والستر اللذان یشکّلان دعائم قوة وحمایة من الإغراء والانفلات الغریزی اللاأخلاقی. الستر والحجاب هما من الفرائض المشترکة بین الأدیان الإلهیة التی تُحقق للمرأة أرقى مستوى من التعزیز والتکریم لمکانتها وتُمثل عاملاً أساسیاً فی عوامل الارتقاء النفسی والبنیوی والوظیفی والاجتماعی من حیث أن المرأة تشکّل نصف المجتمع، لا بل هی التی تصنعه وتبنیه. وکما یقول الإمام الخمینی (قدس سره) “ إن المرأة إنسانة، بل إنسان عظیم، وهی مربیة للمجتمع، ومن أحضان المرأة یولد الرجال، إن سعادة البلدان وشقائها منوطان بوجود المرأة(٢ ). لقد شهد مطلع الثمانیات من القرن الماضی اهتماماً ملحوظاً بالمرأة، وقد أخذت حیزاً هاماً فی المشهد الاجتماعی والثقافی والسیاسی، وحظیت باهتمام مطرد على المستویین الدولی والإقلیمی، وتحوّل موضوع المرأة الى حرکة اجتماعیة. وبرزت حرکات نسائیة متعددة التنظیمات والعلاقات والمرجعیة والاهتمامات. کما أنها مرتبطة بالتیارات الفکریة والسیاسیة التی تتراوح بین المحافظة والتقلید وبین التجدید والتحدیث، وبین تیارات تؤکد على المرجعیة الاسلامیة فی رؤاها وخطابها، بمعنى أنها لا تهدف الى استبدالها بمرجعیة أخرى تعمل على المطالبة بالمساواة بین الجنسیة تبعاً لمفهوم الحرکات النسائیة الغربیة. لقد أثبتت الوقائع خلال العقود الثلاثة الماضیة بأن الدعم اللامتناهی للمرأة بهدف القضاء على جمیع اشکال التمییز ضدها یشکل الوجه الخفی لبرنامج العولمة. والصورة السلبیة التی تستنبطها قطاعات واسعة من الرأی العام العالمی تجاه العالم العربی والاسلامی، وثقافته وقیمه. باعتبار أن المرأة تمثل فی جوهرها مستودع الموروث الثقافی الدینی والحضاری. کما أنها الوجه الآخر للصحة الاسریة والمجتمعیة فی بعدیها النمائی والانتمائی. والسؤال الذی یطرح: هل استطاعت معاییر التحرر الغیر مشروط لتحریر المرأة – ومنها خلع الحجاب- من تحقیق الارتقاء الإنسانی الذی یمهد السبیل لبناء نوعیة حیاة راقیة، ومتجددة، وخلاقة ؟؟ وقراءة فی بعض الوقائع تٌبیّن بأن معاییر تحریر المرأة وحرکة الانعتاق الموهوم التی تنادی بها شعارات مناهضة للإسلام لم تُحقق سوى استلاباً لقیمة المرأة وهدراً متصاعداً لکیانها واختزالها “الى شیء ما” بدل أن تکون “إنساناً ما”. أدخلتها فی دائرة المجتمع المأزوم، وفی إطار الاستثمار إعلامیا فی موضوع الجنس والتحریض على الرذیلة والجریمة الاخلاقیة فی اطار خطوط الصداقة “الدولیة التی تنشط التبادلات الاباحیة. إن اختزال المرأة إلى صورة جسد یشکل أحد مقومات اقتصاد السوق فی عصر العولمة. لقد تحول الجسد من خصوصیة وحمیمیة تبحث عن المتعة الحلال، إلى جسد بارد، یعمل کطاقة تبادل اقتصادیة بالترغیب والترهیب. وبهذا تم الانتقال بصورة الجسد من مهارة إقتصاد الانتاج إلى مهارة إقتصاد الجنس. المرأة وتبعاً لثقافة العولمة مقبلة “ لا بل إنها تعیش” حالة فوضى تبادلیة علائقیة عارمة لن تجد حلاً لها إلا فی العزلة والانفجارات الذهنیة. لقد برزت مع تنامی ظاهرة النمو الحضاری وکنتیجة لحرکة التغییر التی تنادی به المرأة ظاهرة الجنسیة المثلیة (زواج الشاذین جنسیاً). فقد بذلت جهوداً واسعة النطاق على المستوى الرسمی فی الولایات المتحدة الامیرکیة لدعم الدفاع عن حقوق مثلیی الجنس وحمایتهم. وقد أقرت العدید من الدول الأوروبیة، کذلک فی بعض الولایات الأمیرکیة قانون الزواج، والتوریث، والتنبیّ لمثلیی الجنس. ناهیک عن الاستعراضیة الجنسیة؛ وهی مرتبطة بالاعلان والاعلام الراهنین. وهی عبارة عن استغلال الجسد على کافة الصعد لتمریر السلع الاستهلاکیة فی اطار عملیة تشریطیة معقدة، هناک محاولة تحریف لعلاقة المرأة بجسدها الذی هو کلٌّ غیر منفصل عن منظومات القیم والادوار والمعطیات الثقافیة، إلى حضور مادی استهلاکی، مهیأ للاستغلال کأیة سلعة فی الاسواق. ویجری تداوله حسب العرض والطلب. تشیر الدکتورة أمینة خمیس الظاهری استناداً إلى دراسة أجرتها حول صورة المرأة فی الاغانی الشبابیة العربیة الخلیجیة. “أن معظم الاغانی أظهرت المرأة فی ملابس من العصر الفیکتوری، والذی لا یمت للمجتمع العربی بأیة صلة – کما تظهر المرأة فی معظم صور الأغانی بملابس غربیة عصریة، وتقوم المرأة باستبدال ملابسها فی الأغنیة الواحدة أکثر من مرة وکأنها فی عرض أزیاء. ویتضح من هذا أن النموذج الغربی سواء فی شکل المرأة أو ملابسها هو النموذج المطلوب والمعمم والمنتشر عبر وسائل الاتصال الجماهیری، والتی تسعى النساء العربیات إلى تقلیده باعتباره النموذج العصری ویبدو أن وسائل الاعلام أقنعتنا بأنه النموذج الأجمل الذی یجب أن یحتذى به من قبل نساء العالم الأخریات. وهو ما یهدد معتقدات الهویة للمرأة العربیة فی ظل تیارات العولمة التی بدأت تغزو مجتمعاتنا”(٣ ). هناک محاولة لطمس الهویة الثقافیة الاسلامیة وفرض التغییر بالقوة بحجة إنهاء الأنظمة الشمولیة واستبدالها بالأنظمة الدیمقراطیة. هذه المحاولة هی أحد أوجه محاربة الذاکرة التاریخیة والموروث الثقافی الدینی والإجتماعی من خلال تجاوز المرجعیات التقلیدیة واستبدالها بمرجعیة کونیة یجد فیها الفرد نفسه فی التیه، والضیاع، والعزلة، والانقطاع عن التاریخ والحیَّز الجغرافی اللذین یشکلان إطار الهویة الشخصیة. إن الانتماء إلى مرجعیة ثقافیة یشکل أساس الهویة والنظرة إلى الوجود. والإنتماء إلى الذات لا یستقیم إلا من خلال الانتماء إلى مرجعیات تتجاوزها اجتماعیاً وقیمیاً. والثقافة کما یشیر الامام الخمینی (٩/١/١٩٧٨) “أساس أی أمة، وأساس وطنیة کل أمة وأساس إستقلال کل أمة”(٤ ). وفی تعبیر الإمام الخمینی (٢٢/٩/١٩٨١) “تعبر الثقافة أساساً عن هویة ووجود هذا المجتمع ومهما کان هذا المجتمع قومیاً من النواحی الإقتصادیة والسیاسیة والصناعیة والعسکریة فإن الانحراف الثقافی سیحوله إلى کیان خاوٍ وفارغ من أی إعتبار وقریب من السقوط، وإذا کان المجتمع مرتزقاً من الناحیة الثقافیة وتابعاً للثقافة العدوة، فسیکون مجبوراً على أن ینجَّر إلى جانب الأعداء من ناحیة الأبعاد الأخرى للمجتمع، وسوف یستهلک أخیراً ویضیع شرفه فی جمیع الابعاد والنواحی”(٥). نحن أمام انهیار مجتمعی، سلوکی ومعیاری کبیر على مستوى القیم وعلى مستوى التجربة الحیاتیة الیومیة. الأمة الاسلامیة أمام انهیار منظم ومقنن بشعارات فی ظل التطور التکنولوجی الغیر منظم والمتفلت من حدود الضبط، وما رافق هذا التطور من تقدم المعلوماتیة والاعلام الفضائی والاعلان، والثورة البیوکیمیائیة. لقد انتقل الإنسان کما یشیر عباس مکی “من صدمة الطبیعة إلى صدمة تکنولوجیا الحضارة، أو من صدمة الإنکفاء إلى صدمة الإنفلات”( ٦). لقد انتقل من صدمة إغراء الصناعة الثقافیة إلى إغراءات صدمة الکارثة الطبیعیة الإجتماعیة: السلوک الجنائی الاخلاقی الفردی والمنظم(٧ )... انتقل من عولمة الإقتصاد إلى عولمة الإقتصاد الجنسی والاستغلال الجنسی تحت عناوین “السیاحة الجنسیة”( ٨). الأوجه المظلمة للحضارة الغربیة ١- اختراق منظومة الثقافة الاسلامیة والهیمنة علیها وتذویب هویتها: لقد نجحت الحضارة الغربیة فی اختراق منظومة الثقافة الاسلامیة والهیمنة علیها وتذویب هویتها عن طریق حکام مسلمین فی بلاد مسلمین أمثال رضا خان، وابنه محمد رضا خان فی ایران، وکمال اتاتورک فی ترکیا اللذین جسدوا المثل الأعلى للإنسان الأوروبی المنتصر. لقد شهدت فترة حکم رضا خان محاولة جریئة لاعادة تشکیل ایران على ضوء مفاهیم الغرب وتجاربه فی محاولة لاستلهام اللیبرالیة الإقتصادیة، والطابع العلمانی لنظام الحکم، وجملة مظاهر المدنیة فی التربیة والاجتماع. لقد کان من انقلاب رضا خان عام ١٩٢٠ – کما یشیر المفکر والکاتب محمد صادق الحسینی – والمدبر من قبل الانکلیز فی محاولة لإلحاق ایران بالمسیرة الاتاتورکیة العلمانیة، کجارتها ترکیا المنسلخة من عصر الخلافة العثمانیة، بما حملته من مساع حثیثة لمسخ هویة الدولة والمجتمع الایرانی ومحاولة جعلها مجرد تابع للغرب”( ٩). لقد کان رضا خان علمانیا متطرفاً، فقد اندفع فی معارضة المظاهر الدینیة إلى حدود القمع. فأصدر جملة قوانین تربویة وتعلیمیة أقصى من خلالها رجال الدین فی مجال التعلیم الرسمی، ثم سلب سلطة المحاکم الشرعیة منهم وحصر عملهم فی الأصول الشخصیة. وفی عام ١٩٣٤، سن جملة قوانین حدیثة حول الاوقاف، وتشدد فی موضوع إقامة المجالس الحسینیة ثم منع الحجاب، وحول التقویم من الهجری إلى الشمسی”( ١٠). وبعد قرار عزل رضا خان من قبل الثلاثی تشرشل – ستالین – روزفلت والإتیان بابنه محمد رضا، بدأ فصل جدید فی التغریب تحت عنوان الحریة، وأخرى معاکسة لها فی الاتجاه ظاهریا لکنها من جنسها وجوهرها تحت عنوان الثورة والعدالة. فکان فصل الاشتراک بینها والقاسم المشترک الأعظم هو معاداة الدین والتدین والمتدینین، ومحاولة فصل عرى الدین عن السیاسة فی الأوساط الشعبیة کما فی الحوزات العلمیة(١١ ). وهکذا بدأت مع محمد رضا خان مرحلة جدیدة أبرز مظاهرها السعی إلى تحویل ایران إلى بلد علمانی على شاکلة ترکیا، من خلال القضاء على المظاهر الدینیة والطقوس والشعائر ونفی الثقافة الایرانیة من میراثها الاسلامی. وقد وصل الأمر بالشاه محمد رضا أن یرى بالانجازات الاسرائیلیة انطباعاً ایجابیاً لدیه، وکان یرى أنهم قد اثبتوا مستوى عال من الکفاءة، وقد ألمَّوا بآخر التطورات التکنولوجیة، فکان على استعداد للتعلم منهم خاصة فیما یتعلق بالأمن. وعلیه انتقى بعض الضباط الأساسیین، بما فی ذلک بعض أفراد الحرس الملکی وأرسلهم للتدریب فی اسرائیل”( ١٢). وفی ترکیا حاول مصطفى کمال أتاتورک عبر سلسلة محسوبة بدقة من الاصلاحات فی العشرینات والثلاثینات أن یزحزح شعبه بعیداً عن الماضی العثمانی والاسلامی، ثم أعلن نفسه سلطاناً، وأسسَّ نظاماً جمهوریاً للسلطة السیاسیة على نمط غربی. ألغى الخلافة المصدر المرکزی للسلطة الدینیة، وأنهى التعلیم التقلیدی والمناصب الدینیة، والغى المدارس والمعاهد الدینیة المنفصلة، وأسس نظاماً علمانیاً للتعلیم العام، واستغنى عن المحاکم الدینیة التی طبقت القوانین الاسلامیة، واضعاً محلها نظاما قانونیا جدیداً مبنیاً على القانون المدنی السویسری. والغى الاسلام کدین رسمی فی الدولة، وقرر أن تکتب الترکیة باستخدام الحروف الرومانیة بدلاً من العربیة. وبعد الحرب العالمیة سعى إلى تحقیق عضویة حلف الاطلسی فی عام ١٩٥٢. وطالب فی الدخول فی عضویة الاتحاد الأوروبی”( ١٣). ولیس غریباً أن یؤدی هذا الانصهار فی قیام الیهودی حفید مرزحی عام ١٩٢٣ بافتتاح البرلمان الترکی بقوله: “نحن الآن فی القرن العشرین لا نستطیع أن نسیر وراء کتاب – یعنی القرآن الکریم – یبحث عن “التین والزیتون” “فصفق له الدونمة وقالوا: سلمَّنا البلاد لأیدی اتاتورک الأمین، وترکنا الکعبة للعرب. وبالفعل قام أتاتورک بالغاء کل ما یربط ترکیا بالاسلام من قریب أو بعید”(١٤). ٢- التداعی الشامل على المستوى الثقافی الدینی والاجتماعی لقد مهدت الحضارة الغربیة بإیدیولوجیتها اللیبرالیة بتهمیشها للقیم والثقافة إلى بروز اللامعیاریة المجتمعیة. لقد اهتزَّت کل القیم والمعاییر الإجتماعیة، وتشهد نوعاً من المیوعة لأنها تواجه قیم الکسب والمنفعة. لقد تبدلت القیم التقلیدیة والروحیة لصالح القیم المادیة والمصالح الفردیة وأصبح من یتمسک بتقالیده وثوابته مغترباً فی مجتمعه. ولخوف الفرد من فقدان شعوره بالتماثل الاجتماعی، أصبح یتغاضى عن تقالیده وثقافته وموروثاته. إن الازمة العالمیة کما یشیر العرابی هی “أزمة قیم”( ١٥). إن تنامی ظاهرة المتاجرة بالاطفال، والنساء، والمخدرات، والجریمة المنظمة وما یرتبط بها من غسل الأموال، والمافیا التکنولوجیة الذکیة؛ تختصر فجور وجسارة مفاهیم هذا العصر. کما أن الاسرة وتبعاً لثقافة الحضارة الغربیة مقبلة “لا بل أنها تعیش” فوضى تبادلیة علائقیة عارمة لن تجد لها حلاً إلاَّ فی العزلة والانفجارات. إن الأسرة ومع تنامی ظاهرة النمو الحضاری وکنتیجة حتمیة لحرکة التغییر الاجتماعی تتجه نحو التفکک. کما وأنه نتیجة لحرکة التغییر التی تنادی بها الحریة برزت ظاهرة الجنسیة المثلیة (زواج الشاذین جنسیاً). نحن أمام دینامیة بالغة التعقید تتجه إلى تدمیر ونسف الخصوصیة الذاتیة للبشریة (ذکور، وإناث) بإحلال ظاهرة التبنیِّ على حساب تحدید النسل تحت شعارات الصحة الإنجابیة، إنها تحدِّ خطیر على مستوى القیم والموروث الثقافی والدینی. کما أن بیئة التکنولوجیا المعاصرة أدخلت المرأة فی دائرة المجتمع المأزوم الذی تنادی به الحضارة الغربیة من خلال المساواة بین الجنسین. إن المرأة تعیش فی الوقت الراهن فی ظل حرکة الانعتاق الموهوم وفی ظل معاییر التحرر الغیر مشروط التی تنادی بها العولمة والتی لم تحقق سوى استلاباً لقیمة المرأة. ٣- رؤیة الاسلام التکاملیة للمرأة إن التداعیات السلبیة لواقع المرأة فی ظل العولمة تطرح أهمیة مراجعة خصوصیة واقع المرأة فی الاسلام، والمعاییر التی حددتها الشریعة الاسلامیة التی اثبتت الوقائع بأنها النموذج المثالی على وضعیة التوازن، والاعتراف المتکامل لکیان المرأة بکل أوجهه ودینامیاته. ففی شخصیة المرأة المسلمة تتجمع کل مظاهر الارتقاء والاعتراف بالکیان المستقل، والارادة الشخصیة والحریة التی تنطلق من مرکز الضبط الداخلی الذی یستند فی مرجعیته إلى قوانین إلهیة، منها “ قانون الحجاب والعفاف. “ تحدد الحقوق والتشریعات التی تحقق للمرأة أرقى مستوى من التعزیز والتکریم لمکانتها. وینطبق ذلک على مکانتها الشخصیة والاجتماعیة والعائلیة والزوجیة والاقتصادیة حتى السیاسیة وذلک بما یضمن خصائصها وحمایتها. هذه الرؤیة الاسلامیة تجاه المرأة نجدها فی شخصیة ما زال عبق ذکراها یتناقل عبر القرون من جیل إلى جیل حیث تتجمع فیها کل عوامل الارتقاء النفسی والبنیوی والوظیفی، هذه الشخصیة هی السیدة فاطمة الزهراء (ع) کریمة النبی محمد (ص). المرأة المسلمة على جمیع مذاهبها أمام تحد کبیر فی اعادة التعامل مع مبادئها وتقییم واقعها على ضوء الکتاب والسنة، والاقتداء بنماذج من التاریخ الاسلامی أمثال السیدة خدیجة (ع) التی کانت للنبی محمد (ص) وزیر صدق فی الاسلام، فکانت بذلک أول إمرأة فی العالم تفوز بهذا اللقب السیاسی الوزیر. کذلک السیدة فاطمة الزهراء (ع) التی تشرفت بلقب “أم أبیها”. والأم هی الأصل، وأم کل شیء أصله وعماده، وأم القوم رئیسهم، وأم منزله أی امرأته ومن یدیر بیته( ١٦). فالسیدة فاطمة الزهراء التی تشرفت بأن تکون “أم أبیها” وأن تکون أفضل نساء العالمین کما أخرج ابن عساکر عن طریق مقاتل عن الضحاک عن ابن عباس عن النبی (ص) قال “أربع نسوة سادات عالمهن: مریم بنت عمران، وآسیة بنت مزاحم، وخدیجة بنت خویلد، وفاطمة بنت محمد (ص) وأفضلهن عالماً فاطمة”( ١٧). إن المرأة المسلمة مطالبة على المستوى الفردی والجماعی بالوعی لخطورة الإستلاب المبرمج والمخطط فی المشروع العولمی، وإعادة ترکیبه وصیاغته على هدی الإسلام ومبادئه. إنها مطالبة وخاصة (السیدات النُخبة) بتوحید الرؤى نحو مناهضة هذا الاستلاب ووضع الآلیات التی من شأنها بلورة الرؤى الاسلامیة تجاه المرأة، والتی تحقق على المستوى البنائی الأهلیة لبناء حیاة کریمة؛ توفر بدورها أساساً متیناً فی تحقیق المشروع الشخصی – الاجتماعی، کما أنها توفر شخصیة ذات قیمة تکیفیة کبرى وقادرة على توظیف طاقاتها بکفاءة، والتعامل بفاعلیة ودینامیة مع مجریات الواقع بالقدر الذی یحفظ لها خصوصیاتها، ودوافعها ومشاعرها الأصلیة. إن الدعوة إلى الاقتداء بالسیدة فاطمة الزهراء (ع) هی دعوة إلى الالتزام بالمنطق القرآنی الذی کما یبین زیعور “قدیر فی مجال الصقل والتهذیب وقدراته عمیقة فی تعمیق الوعی الاخلاقی والحس بالمسؤولیة والربط بالأمة والقیم”( ١٨). إنها دعوة إلى القیم الاخلاقیة والمبادئ الدینیة التی تساعد کما یشیر الملیجی “فی التکیف المتواصل والتوسع المستمر فی الاستیعاب العاطفی للناس”( ١٩). إنها دعوة إلى نهج التربیة السلیمة التی کما یشیر البرفسور عباس مکی “هی الاعداد للآتی من الایام، عندما یصبح الأبناء أحداثا أو راشدین، وبالتالی منفصلین عن الأهل کهویة وکیان معنوی نفسانی، بعد أن تتکون شخصیتهم تأثراً بالأهل، وتمثلاً بسلوکهم، سلباً أم ایجاباً، لأنهم القدوة الحسنة والبوصلة التی تحدد الاتجاهات، والمرجع الذی تقاس به المواقف والمعطیات”( ٢٠). ونحن، فی الوقت الراهن، وبحمده تعالى وبتوفیق وعنایة منه جلّ وعلا، نعیش صحوة إسلامیة عارمة نتلمسها فی الاتجاه العام لمختلف الشرائح نحو فهم الاسلام، ومعرفة جوانبه الحیاتیة، ونحو تطبیق المبادئ والشریعة الإسلامیة فی کل شؤون الحیاة الفردیة والمجتمعیة؛ باعتبار أن الإسلام یمثل الهویة الحقیقیة للبشریة عموماً لقوله تعالى: “کنتم خیر أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنکر وتؤمنون بالله” (آل عمران: ١١٠). هذه الصحوة نجدها فی التوجه العام للنخبة من علماء الدین والمثقفین والاصلاحیین على اختلاف مذاهبهم إلى تبنّی قضایا المرأة المسلمة ووضع الآلیات والاستراتیجیات الهادفة إلى إعادة بلورة حقوق المرأة والفرائض المشرعة لها فی القرآن الکریم ومنها “الستر والحجاب والعفاف” حفاظاً على هدی المرجعیة الاسلامیة فی رؤاها وخطابها، والترکیز على بلورة الأدوار الرسالیة لسیدات عهد النبوة الأولى أمثال السیدة فاطمة الزهراء والسیدة زینب بنت علیّ (علیهم السلام). وهذا التوجه العام ظهرت تجلیاته من خلال شبکات التواصل، ونشر المعرفة والوعی، واصدار دراسات وعقد الندوات، والمؤتمرات، والتبلیغ بحقیقة تلک الشخصیة لارتباط خصائصها البنیویة بالثوابت الدینیة وبالفکر الرسالی المحمدی التی أثبتت الوقائع أنه النموذج المثالی على وضعیة التوازن، والاعتراف المتکامل لکیان الانسانی، وباختصار استرداد کامل الاعتبار الانسانی الذی بدوره یمهد لعوامل الارتقاء ولبناء نوعیة متجددة وخلاقة. إن اختزال المرأة إلى صورة جسد یشکل أحد مقومات اقتصاد السوق فی عصر العولمة. لقد تحول الجسد من خصوصیة وحمیمیة تبحث عن المتعة الحلال، إلى جسد بارد، یعمل کطاقة تبادل اقتصادیة بالترغیب والترهیب. إن تنامی ظاهرة المتاجرة بالاطفال، والنساء، والمخدرات، والجریمة المنظمة وما یرتبط بها من غسل الأموال، والمافیا التکنولوجیة الذکیة؛ تختصر فجور وجسارة مفاهیم هذا العصر. کما أن الاسرة وتبعاً لثقافة الحضارة الغربیة مقبلة “لا بل أنها تعیش” فوضى تبادلیة علائقیة عارمة لن تجد لها حلاً إلاَّ فی العزلة والانفجارات. أن بیئة التکنولوجیا المعاصرة أدخلت المرأة فی دائرة المجتمع المأزوم الذی تنادی به الحضارة الغربیة من خلال المساواة بین الجنسین. إن المرأة تعیش فی الوقت الراهن فی ظل حرکة الانعتاق الموهوم وفی ظل معاییر التحرر الغیر مشروط التی تنادی بها العولمة والتی لم تحقق سوى استلاباً لقیمة المرأة. بذلت جهوداً واسعة النطاق على المستوى الرسمی فی الولایات المتحدة الامیرکیة لدعم الدفاع عن حقوق مثلیی الجنس وحمایتهم. وقد أقرت العدید من الدول الأوروبیة، کذلک فی بعض الولایات الأمیرکیة قانون الزواج، والتوریث، والتنبیّ لمثلیی الجنس. نحن أمام انهیار مجتمعی، سلوکی ومعیاری کبیر على مستوى القیم وعلى مستوى التجربة الحیاتیة الیومیة. الأمة الاسلامیة أمام انهیار منظم ومقنن بشعارات فی ظل التطور التکنولوجی الغیر منظم والمتفلت من حدود الضبط. قائمة المراجع ١.القرآن الکریم ٢.مکانة المرأة فی فکر الامام الخمینی ، مؤسسة تنظیم ونشر تراث الإمام الخمینی، قسم الشؤون الدولیة، ط٣، طهران، ٢٠٠٨، ص٣١. ٣.الظاهری، أمینة خمیس، صورة المرأة فی الاغانی الشبابیة العربیة الخلیجیة، (الفیدیو کلیب) المنتدى الرابع لمؤتمر قمة المرأة العربیة (المرأة والاعلام) أبو ظبی، ٢ – ٣ فبرایر ٢٠٠٢، ص ١٤٦. ٤.الاستقامة والثبات فی شخصیة الإمام الخمینی، ترجمة کاظم یاسین، مرکز الإمام الخمینی الثقافی، ط ١، ١٩٩٢، ص ٣٣. ٥.مکی، عباس محمود، الخبیر النفس جنائی وتنامی الجرائم الأخلاقیة المعاصرة، ط ١، المؤسسة الجامعیة للدراسات والنشر، بیروت، ٢٠٠٧، ص ٩٦. ٦.مکی، عباس محمود، الخبیر النفس جنائی وتنامی الجرائم الأخلاقیة المعاصرة (م.ن)، ص ٩٨. ٧.(م.ن)، ص ١٠١. ٨.الحسینی، محمد صادق، الخمینی فی رسائل الإصلاح والتغییر، ط ١، مرکز الحضارة لتنمیة الفکر الاسلامی، بیروت، ٢٠٠٩، ص ١٧. ٩.حمیة، خنجر، الشیخ مرتضى مطهری: الاشکالیة الاصلاحیة وتجدید الفکر الاسلامی، ط ١، مرکز الحضارة لتنمیة الفکر الاسلامی، بیروت، ط ١، ٢٠٠٩، ص ٢٥. ١٠.الحسینی، محمد صادق، الخمینی فی رسائل الإصلاح والتغییر، (م.س)، ص ١٧. ١١.هیکل، محمد حسنین، مدافع آیة الله، ط ٧، دار الشروق، القاهرة، ٢٠٠٦، ص ٩٩ بتصرف. ١٢.هنتنغتون، صموئیل، صدام الحضارات، (م.س)، ص ٢٧٠. ١٣.شمس، محمود زکی، الارهاب الدولی وزیف أمریکا واسرائیل، (م.س)، ص ٣٣٥. ١٤.العرابی، عبد القادرعبد العرابی، تجارة المخدرات ولاقات الشمال فی الجنوب قی ضوء العولمة، ص٩٨. ١٥.المجلسی، محمد باقر، بحار الانوار، ج١٦، ج ١٦، ص ١١. ١٦.ابن منظور، لسان العرب، ص ٢١٨ – ٢١٩، ج ١. ١٧.السیوطی، الدر المنثور، مکتبة المرعشی النجفی، قم، ایران، ١٤٠٤هـ، ج ٢، ص ٢٣. ١٨.زیعور، علی، التربیة وعلم نفس الولد فی الذات العربیة، دار الاندلس، ط ١، بیروت، ١٩٨٥، ص ٥٢. ١٩.الملیجی، عبد المنعم، تطور الشعور الدینی عند الطفل والمراهق، دار المعارف، مصر، ١٩٥٥، ص ٣١٨. ٢٠.مکی، عباس محمود، دینامیة الاسرة فی عصر العولمة، المؤسسة الجامعیة للدراسات والنشر والتوزیع، ط ١، بیروت، ٢٠٠٣، ص ١٣٩. | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 306 تنزیل PDF: 131 |
||||