الإســلام وحقوق الأم فی الأسرة | ||||
PDF (1220 K) | ||||
![]() | ||||
جمیل عودة لماذا یسعى المجتمع الإنسانی إلى لفت الانتباه إلى المرأة الأم؟ وماهی الأدوار والمسؤولیات التی تقع علیها تستوجب تقدیرها وتکریمها؟ وکیف صور الإسلام دور الأم فی القرآن وأحادیث النبی وأهل بیته؟ وماهی الواجبات التی أوجبها على الأبناء تجاه الأم؟ وماهی الآثار الإیجابیة التی تنعکس على الأبناء فی حال رعایة أمهم وتکریمها؟ وماهی الآثار السلبیة التی تترتب على عدم رعایة الأم؟ هناک اهتمام بالمرأة عموما، ولکن هناک اهتمام على وجه التحدید بالمرأة الأم لدى غالبیة دول العالم، والمنظمات الإنسانیة الدولیة والوطنیة، وکان من نتائج هذا الاهتمام أن شرعت العدید من الدول قوانین من أجل ضمان حقوق الأم،لا سیما ضمان حقوقها فی إطار الأسرة وحمایتها من التعرض للعنف، ورعایة صحتها وصحة طفلها، وکفالة حقوقها فی العمل، وتمتعها بالعیش الکریم. ولعل أشهر هذه القوانین ذات الطابع العالمی هی (قانون حمایة الأسرة من العنف) الذی یعالج حالات حمایة أفراد الأسرة من العنف الممارس ضدهم کالنساء والزوجات والأمهات والأطفال وکبار السن وذوی الاحتیاجات الخاصة، و(قانون حمایة الأم)وهو قانون یحمی حقوق الأم وحقوق جنینها،أثناء الحمل، وأثناء الولادة والوضع، وأثناء رعایة طفلها وتربیته. وتشمل الحمایة الأمهات والحوامل، سوءا کن عاملات فی وظیفة دائمة، أو متدربات، أو عاملات بدوام جزئی. ومع کل ما حملته القوانین الحدیثة من نصوص تحفظ حقوق الأم الأسریة والاقتصادیة والثقافیة، إلا أن المتتبع للنظام الإسلامی یجد أن الأم فی الإسلام حظیت بما لم تحظ به فی القوانین قدیما وحدیثا، ومکانتها فی الإسلام لا تعلو علیها مکانة، وتکریمها یسبق کل تکریم. والوصایا التی تضمنتها الشریعة الإسلامیة عن الوالدین، تحدیدا الأم تجمع کلها على الاهتمام الاستثنائی الذی تحظى به المرأة الأم. ولیس ثمة شک أن منزل الشریعة الإسلامیة، ورب هذا الکون یعلم المسؤولیات والأدوار التی یمکن أن تقوم بها المرأة الأم فی إطار مسؤولیاتها الأسریة، وفی إطار مسؤولیاتها الاجتماعیة، ویعلم ما یمکن أن یصیب الأم جراء تلک المسؤولیات الصعبة والمعقدة. إذ تتحمل الأم ما لا یستطیع غیرها أن یتحملها فی إطار الأسرة، لا من الناحیة التکوینیة والوظیفیة، ولا من الناحیة النفسیة والاجتماعیة. فقد أوکل الله لها دون غیرها مهمة استمرار البشریة بواسطتها ومن خلالها، فوظیفة حمل الجنین والإنجاب هی مهمة حصریة للام لم یوکل الله أحدا غیرها، وهی من أعظم الأدوار وأهمها التی وکلها الله للام، وهی مهمة شاقة یصعب أداءها ما لم تکن المرأة الأم قد زودت تکوینیا ونفسیا بما یعینها على أداء هذه المهمة البشریة العالمیة الصعبة. ولا تنتهی مهمة المرأة الأم فی حمل الجنین ووضعه، بل علیها أن تتکفل رعایته وتنمیته حتى یکبر ویبلغ أشده، وهی مهمة نفسیة واجتماعیة یصعب على غیرها القیام بها إلا بشق الأنفس، فتربیة الطفل ورعایته بما تتضمنه من معاناة وآلام تحتاج إلى مقومات ومستلزمات لا تتوفر إلا عند الأم. وإن قام بها الأب على أکمل وجه، فهی تظل ناقصة ومشوهة لأن الحب والحنان الذی یمکن أن تغدقه الأم على طفلها لا یکون إلا من المرأة الأم، ولا یکون له أثر إیجابی إلا منها. فقَدرُها عظیم لا یُقدّر بثمنٍ، ومکانتها کبیرةٌ لا یمکن وصفها. ففی أول یوم تشعر المرأة أنها تحمل بین جنبیها جنینا، تبدأ تتنازل عن حقوقها من أجل حقوقه، وعن راحتها من أجل راحته، وعن سعادتها لسعادتها، وتجد وقتها فی وقته، وراحتها فی راحته، وسعادتها فی سعادته. وحین تلد قرة عینها یصبح شغلها الشَّاغل، وتختصر فیه الدُّنیا بما فیها، ولا تستکثر علیه عطاءً ولا یعزُّ علیها شقاءٌ، ولا تختصُّ وحدها بذلک فیشارکها الأب فی فضلها وعطائها ویعینها على حسن التَّربیة والرِّعایة، فإن وفِّقَت إلى زوجٍ صالحٍ للأُبوَّة کانت الأمومة علیها أیسر واللَّیالی أهنأ، فالمسؤولیَّة تهون بالمشارکة والحمل یخفُّ بالعون. لهذا فقط اعتبر الإسلام عطاءهما عملاً جلیلاً مقدساً استوجبا علیه الشکر وعرفان الجمیل وأوجب لهما حقوقاً على الأبناء لم یوجبها لأحد على أحد إطلاقاً، حتى أن الله تعالى قرن طاعتهما والإحسان إلیهما بعبادته وتوحیده بشکل مباشر فقال: (واعبدوا الله ولا تشرکوا به شیئاً وبالوالدین إحساناً) لأن الفضل على الإنسان بعد الله هو للوالدین، والشکر على الرعایة والعطاء یکون لهما بعد شکر الله وحمده. فقد قال تعالى (ووصینا الإنسان بوالدیه أن أشکر لی ولوالدیک إلیَّ المصیر). وقد اعتبر القران عقوق الوالدین والخروج عن طاعتهما ومرضاتهما معصیة وتجبراً حیث جاء ذکر یحیى ابن زکریا بالقول: (وبراً بوالدیه ولم یکن جباراً عصیا). هذا هو الإمام علی بن الحسین علیه السلام یصف حق الأم بأفضل تعبیر وأکمل بیان، فیختصر عظمة الأم وشموخ مقامها فی کلمات، ویصوِّر عطاءها بأدق تصویر وتفصیل، فیقول: (فحقّ أُمِّک أن تعلم أنَّها حملتک حیث لا یحمل أحدٌ أحداً، وأطعمتک من ثمرة قلبها ما لا یُطْعِم أحدٌ أحداً، وأنَّها وقتک بسمعها وبصرها ویدها ورجلها وشعرها وبشرها وجمیع جوارحها مستبشرة بذلک فرحةً موبلة (کثیرة عطایاها )، محتملة لما فیه مکروهها وألمها وثقلها وغمِّها، حتى دفعتها عنک ید القدرة وأخرجتک إلى الأرض فَرَضِیَتْ أن تشبع وتجوع هی، وتکسوک وتعرى، وترویک وتظمأ، وتظللک وتضحى، وتنعمک ببؤسها، وتلذذک بالنوم بأَرِقهَا، وکان بطنها لک وعاء، وَحِجْرَها لک حواء، وثدیها لک سقاءاً، ونفسها لک وقاءاً، تباشر حر الدنیا وبردها لک دونک، فتشکرها على قدرِ ذلک ولا تقدر علیه إلاّ بعون الله وتوفیقه). بهذه العبارات المضیئة والتعابیر الدقیقة، یستثیر الإمام زین العابدین(ع) الضمیر والرحمة فی قلب الإنسان تجاه من (حملته کرهاً ووضعته کرهاً) وتذکره بالمشاق العظیمة التی تحملتها الأم فی سبیل فلذة کبدها، لذلک قال الرسول الأعظم (ص): (حق الوالد أن تطیعه ما عاش، وأما حق الوالدة فهیهات هیهات.. لو أنه عدد رمل عالج وقطر المطر أیام الدنیا قام بین یدیها ما عدل ذلک یوم حملته فی بطنها)، لأن الأم بطبیعة الحال، تتحمل النصیب الأوفر من العنایة والرعایة لولدها لما تجود به من حنان وعطف بلا حدود، فنتیجة لتلک التضحیات اللامتناهیة کان للأم حقها العظیم على الأبناء. وبخاصة إذا کانت طیبة ومؤمنة، لتأثیرها البالغ فی جنینها، فتجعل منه إنساناً سویاً ومستقیماً، وحتى أثناء الرضاع تسری أخلاق الأم إلیه. قال تبارک وتعالى: (وبراً بوالدتی ولم یجعلنی جباراً شقیاً). ومن أجل هذا الدور الکبیر الذی تقوم به الأم، وهذا الفضل الذی تتقدم به على البشریة، لاسیما أولادها من الذکور والإناث فقد أوجب الله عز وجل على الأولاد أن یبروا بأمهاتهم وآباءهم. والبر هو رعایتهما وطاعتهما والإحسان إلیهما ومساعدتهما فی حیاتهم ما أمکن ذلک، وعدم الجحود بحقهم أو نکران فضلهما، أو التجاوز علیهما، ولو بکلمة (أف) فقد قال تعالى (قضى رَبُّکَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِیَّاهُ وَبِالْوَالِدَیْنِ إِحْسَانًا إِمَّا یَبْلُغَنَّ عِندَکَ الْکِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ کِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا کَرِیمًا) فأنها من الذنوب الکبائر التی یعاقب علیها الإنسان فی الدنیا وفی الآخرة، لأن هذه الکلمة وغیرها لا ینبغی أن تقال بحق الوالدین مهما صدر منهما من عمل، ومهما أخذا من قرار، رضینا به أم لم نرض. ومن البر بالأم الإنفاق علیها إذا کانت فی حاجة إلى المال، ولا یوجد لدیها ما یکفی لتعیش حیاة کریمة بین الناس.. والرسول علیه الصلاة والسلام یعطی للآباء حق الأخذ من أموال أولادهم ما یکفیهم فیقول: (إن أولادکم من أطیب کسبکم، فکلوا کسب أولادکم) ومن البر بها أیضا الدعاء لها بالرحمة.. وهذا الدعاء جعله الله فی مقابل تربیتها له (وقل رب ارحمهما کما ربیانی صغیرا) وأن یؤثر الولد رغبة والدیه ورضاهما على رغبة نفسه ورضاها، ولا یستکثر ما یقدمه فی سبیل برهما وخدمتهما مهما عظم فی ظـاهره، بل یعدّه قلیلاً فی جنب فـرضهما علیه، غیرَ واف بـما لهـما من حق لدیه. فقد جاء فی دعاء الإمام زین العابدین علیه السـلام لأبـویه (اللّهم اجـعلنی أهـابهما هیبة السلطان العسوف، وأبرهما برّ الأم الرؤوف، واجعل طـاعتی لوالدی وبری بهما أقرّ لعینی من رقدة الوسنان، وأثلج لصدری من شربة الظمآن، حتى أوثـر على هوای هواهما، وأقدّم على رضای رضاهما، وأستکثر برهما بی وإن قـل، واستقل بری بهما وإن کثر، اللّهم خـفض لهما صوتی، وأطب لهما کلامی، وألن لهما عریکتی، وأعطف علیهما قلبی وصیرنی بـهما رفیقاً، وعلیهما شفیقاً). نخلص مما تقدم: ١. إن القوانین الدولیة والوطنیة الحدیثة أخذت تعنى بالمرأة الأم على وجه التحدید لما لمسه المجتمع الإنسانی من دور متمیز واستثنائی للأم، بهدف حفظ حقوقها الأسریة والاجتماعیة والصحیة والاقتصادیة والثقافیة وغیرها. ٢. وعلى الرغم من الاهتمام العالمی بحقوق المرأة الأم فان الإسلام نظر إلى المرأة الأم أنها أساس استمرار الحیاة وقاعدته، ولولاها لما کان الإنسان ولم یکن، فهی بوابة الحیاة، وسبیل بقائها. وعلى هذا الأساس أفرد لها نصوصا قرآنیة وحدیثة قطعیة، وأشار إلى دورها ومسؤولیاتها فی المجتمع، وما ینبغی أن تتمتع به من حقوق ومیزات، سواء فی نطاق الأسرة أو المجتمع، فالأسرة الصالحة، نواة للمجتمع الصالح. ٣. لم یکتف الإسلام بالتأکید على دور المرأة الأم فی الأسرة والمجتمع، ولم یکتف بالتذکیر بحقوقها، وما ینبغی أن یقوم به المجتمع لصالحها، وإنما رتب على ذلک أجرا وعطاء وجزاء لمن یٌحسن التعامل مع المرأة الأم، أبنا کان أو غیر أبن، وعقوبة عظیمة لمن یسئ التعامل معها. ٤. فی المجتمع الإسلامی مازلنا لم نرتق إلى مستوى نظر الشارع المقدس إلى أهمیة المرأة ودورها، وما زلنا نتعامل مع الأم خلاف ما نص علیه الإسلام، بل تکثر حالات الإساء إلى الوالدین بکثرة، وتعج المحاکم ومراکز الشرطة عندنا بحالات الاعتداء على الوالدین لاسیما الأم. ٥. وأغرب ما یکون أن المؤسسات الإسلامیة لم تعن بنشاطات تعزز مکانة الأم فی نفوس أسرتها ومجتمعها، کما تعنى بنشاطات قد تقل أهمیة عن التذکر والتنبیه لدور الوالدین وألام خصوصا. فقلما نلحظ احتفالیة تذکر المجتمع بضرورة رعایة الوالدین والاهتمام بهما على النحو الذی یعظمه الشارع المقدس. | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 269 تنزیل PDF: 135 |
||||