الحج فی فکر الامام الخمینی | ||||
PDF (3033 K) | ||||
على الرغم من أنّ الحج فی الدین الإسلامی الحنیف واحد فی أغلب تفاصیله، یتفق المسلمون على صلبه ویختلفون فی بعض تفاصیله، وأن المسلمین یؤدوا مناسکهم فی وقت واحد، ولکن المسلمین لا یفقهون کثیرا الأبعاد السیاسیة والثقافیة والاجتماعیة لرکن الحج العظیم، إلاّ أنّ الإمام الخمینی تمیز بین أقرانه العلماء برأیه المتمیز فی هذه الفریضة الإسلامیة، فإن ما أتى به الإمام الخمینی هو أن أخرجه من جموده وروتینیته، مضیفاً إلیه معنىً حیویاً جدیداً، فقد نادى بتفعیله وتحریکه على الساحة الإسلامیة... فلم یعد ذلک الحج الطقوسی أو الشعائری الجامد، لم یعد مجرّد سفر وحرکات محددة وأداء واجبات معینة، وإنما صار إضافة إلى الأداء الصحیح لمراسمه وأرکانه، صار فریضة فاعلة لعبت دوراً حیویاً فی الحیاة الاجتماعیة والسیاسیة والنفسیة... فأصبح من خلال أفکار الإمام الخمینی أقرب إلى المؤتمر السنوی الحامل لرسالة الوعی والإرشاد، یستضیء المسلمون بضوئه فی حیاتهم وسلوکهم دنیا وآخرة. وهذا طرح جدید على مستوى الحیاة الإسلامیة الدینیة اقتضتها ضرورة التجدید وإصلاح حال الأمة الإسلامیة التی جمدت على أفکار لابد من تفعیلها. والجدیر بالذکر أنّ الأمام رکز على أهم مقومات الحج، کما رکّز العلماء الآخرون علیه، لکنه تمیز أن فرّع من تلک المقومات الشرعیة أبعاداً أبعدَ مدىً من المادة الفقهیة والشرعیة، فأقام أسساً جدیدة جمع من خلال المادة الفقهیة بالحیاة العملیة للإنسان، فأخرج بذلک الحج من الفکرة النظریة المجردة إلى واقع عملی یعیشه الإنسان بکلّ جوارحه، وذلک هو ما مارسهُ الأئمة من أهل البیت علیهم السلام، عندما کانوا یعتبرون الحج قاعدة حوار فکری وساحة تربویة ومدرسة علم ومعرفة لکل أبعاد الحیاة وساحة صراع مع شیاطین الإنس والجن، بل کانوا علیهم السلام یعتبرون الحج الساحة التی یریدون للأمة المسلمة أن تسیر فی خطّها الإسلامی المستقیم، فی خطة توجیهیة عملیة شاملة. إن المؤمن الصادق الطموح یجهد نفسه فی أداء مناسک الحج بشکل متقن وصحیح وبنفس طاهرة متعلقة بخالقها ومعبودها ; لأنّ نفسه تنظر إلى المرآة الإلهیة قبل أن تنظر إلى المرآة الاجتماعیة والاقتصادیة وغیرهما؛ بحیث یکون سلوکه الذاتی والداخلی والروحی مطابقاً للخطاب الشرعی {وأذن فی الناس بالحج یأتوک رجالا وعلى کلّ ضامر یأتین من کلّ فج عمیق} سورة الحج ٢٧. * من أفکار الإمام الخمینی عن الحج: إن مفهوم الحج لدى الإمام الخمینی یتضح فی خطاباته لحجاج بیت الله الحرام، ففیها عن مفهوم الحج الروحی والثقافی والاقتصادی والسیاسی على السواء، فقد وجه الإمام الخمینی خطابات عدیدة فی هذا المجال ; لیبین أنّ على الحاج أن یطهّر نفسه ویخلی قلبه من کلّ شیء إلاّ حب الله والطاعة والخضوع له، وأنه یجب علیه أن یربط روحه بمعبوده الواحد الأحد، فقد قال رضی الله عنه محدثاً الحجیج: «عندما تلفظون لبیک اللهم لبیک، قولوا: لا، لجمیع الأصنام، واصرخوا: لا، لکلّ الطواغیت الکبار والصغار، وأثناء الطواف فی حرم الله حیث یتجلى العشق الإلهی، اخلوا قلوبکم من الآخرین، وطهروا أرواحکم من أی خوف لغیر الله. .. وفی موازاة العشق الإلهی، تبرأوا من الأصنام الکبیرة والصغیرة والطواغیت وعملائهم وأزلامهم، من حیث أنّ الله تعالى ومحبّیه تبرّوا منهم، وإنّ جمیع أحرار العالم بریئون منهم، وأثناء سعیکم بین الصفا والمروة اسعوا سعی من یرید الوصول إلى المحبوب، حتى إذا ما وجدتموه هانت کلّ الأمور الدنیویة، وتنتهی کلّ الشکوک والترددات، وتزول کل المخاوف والحبائل الشیطانیة والارتباطات المادیة. وحین تلمسون الحجر الأسود اعقدوا البیعة مع الله أن تکونوا أعداء لأعداء الله ورسوله والصالحین والأحرار، ومطیعین وعبیداً له، أینما کنتم وکیفما کنتم، لا تحنوا رؤوسکم واطردوا الخوف من قلوبکم، واعلموا أنّ أعداء الله وعلى رأسهم الشیطان الأکبر جبناء، وإن کانوا متفوقین فی قتل البشر وفی جرائمهم وجنایاتهم. ویسترسل الإمام فی حدیثه للحجیج مذکرهم بالاطمئنان القلبی الحاصل من الحالة العرفانیة التی یعیشها العبد من معبوده ومحبوبه قائلا: سیروا إلى المشعر الحرام وعرفات وأنتم فی حالة إحساس وعرفان، وکونوا فی أی موقف مطمئنی القلب لوعد الله الحق بإقامة حکم المستضعفین، وبسکون وهدوء فکّروا بآیات الله الحق، وفکّروا بتخلیص المحرومین والمستضعفین من براثن الاستکبار العالمی، واطلبوا من الحق تعالى فی تلک المواقف الکریمة تحقیق سُبل النجاة. بعد ذلک عندما تذهبون إلى منى أُطلبوا هناک أن تتحقق الآمال الحقّة حیث التضحیة هناک بأثمن وأحب شیء فی طریق المحبوب المطلق، وأعلموا أنه ما لم تتجاوزا هذه الرغبات، التی أعلاها حبّ النفس وحبّ الدنیا التابع لها، فسوف لن تصلوا إلى المحبوب المطلق. .. وفی هذا الحال ارجموا الشیطان، واطردوا الشیطان من أنفسکم، وکرروا رجم الشیطان فی مواقع مختلفة بناءً على الأوامر الإلهیة ; لدفع شرّ الشیاطین وأبنائهم عنهم. هذا.. وقد أکّد الإمام مراراً وتکراراً أنّ هذا السفر سفر إلهی ولیس سفراً عادیاً مادیاً مجرّداً، وأنّ المراتب المعنویة للحج هی رأس مال الحیاة الخالدة وهی التی تقرّب الإنسان من أفق التوحید والتنزیه، وأنّه لن یحصل علیها الحاج ما لم یطبق أحکام وقوانین الحج العبادیة بشکل صحیح وحسن... وحرفاً بحرف، وإذا دفن الحاج فی عالم النسیان الجوانب المعنویة فلا یظن أنه قادر على التخلص والتحرر من مخالب شیطان النفس، وما دام فی أسر وقید ذاته وأهوائه النفسیة فلن یستطیع جهاداً فی سبیل الله ودفاعاً عن حرماته تعالى... ومن الجدیر بالمعرفة أنّ روح الحاج من خلال المراسم العبادیة تسمو وترتفع إلى أعلى درجات الکمال النفسی والروحی مع المعبود المحبوب من خلال تطبیق المناسک بالشکل الصحیح المتقن ومن خلال الأدعیة والخوف والانسجام والتضرع والبکاء، خصوصاً عندما یشعر الحاج أنه من أناس یخافون الخالق ویهابونه فی بیته وحرمه الشریف، یقول الإمام: “اعلموا جمیعاً أنّ البعد السیاسی والاجتماعی للحج لا یتحقق إلاّ بعد أن یتحقق البُعد المعنوی. * البُعد الاجتماعی للحج... المؤتمر الإلهی: الحج ذلک المؤتمر الکبیر الذی یجتمع فیه الملایین من المسلمین فی کلّ عام، وأغلبهم حریصٌ على أن یکون على أتم أشکال الطهارة البدنیة والروحیة، ولا شک أن هؤلاء الأفراد - بسبب شروط الحج فی البلوغ والعقل - لدیهم القابلیة الفکریة والاستعداد الروحی والذاتی على استیعاب وتقبل شروط ومفردات التغیر الاجتماعی.. یقول الإمام الخمینی فی هذا المجال: “اِعلموا أیها المسلمون، أن هذا التجمع الکبیر، الذی ینعقد کلّ عام بأمر من الله تبارک وتعالى، یفرض علیکم - بصفتکم أمة مؤمنة ذات عقیدة راسخة - أن تبذلوا جهودکم فی سبیل تحقیق أهداف الإسلام السامیة وشریعته الغراء، وفی سبیل تقدم المسلمین وتضامنهم ووحدتهم الشاملة “. وهذا المؤتمر الإلهی لا یعطی ثماره ولا یسمو إلى الهدف الإسلامی المطلوب إلاّ إذا عرف الحاضرون فیه والمدعوون إلیه کیف یتصرفون ویستخدمونه “ لتبادل الآراء فی حل مشاکلهم العامة أولا، ومشاکل بلادهم الإسلامیة ثانیاً، ولیتعرفوا على ما یحلّ بإخوانهم المسلمین فی بلادهم من أسالیب المستعمر، وماذا یجری علیهم من مصائب وآلام “. و”الآن حیث یجتمع مسلمو العالم من البلاد المختلفة حول کعبة الآمال وحج بیت الله ; للقیام بهذه الفریضة الإلهیة العظیمة، وعقد هذا المؤتمر الإسلامی الکبیر فی هذه الأیام المبارکة، فإنّ على المسلمین الذین یتحملون رسالة الله تعالى، أن یستفیدوا من المحتوى السیاسی والاجتماعی للحج بالإضافة إلى المحتوى العبادی منه ولا یکتفوا بالمظهر”. وقد دعا الإمام المسلمین فی کافة قارات العالم المدعوین إلى مؤتمر السماء وحثهم على الوحدة الإسلامیة ووحدة الکلمة والتعاون والاعتصام بحبل الله المتین وعدم التفرقة قائلا: “أیها المسلمون فی العالم ویا أتباع مبدأ التوحید: إنّ سبب کلّ المشاکل فی البلاد الإسلامیة هو اختلاف الکلمة وعدم التعاون، ورمز الانتصار هو وحدة الکلمة وإیجاد التعاون؛ قال تعالى فی جملة واحدة {واعتصموا بحبل الله جمیعاً ولا تفرقوا}– سورة آل عمران ٠٣)، الاعتصام بحبل الله بیان لتعاون المسلمین، کونوا جمیعاً للإسلام وتوجهوا إلى الإسلام ولصالح المسلمین، وابتعدوا عن التفرقة والخلاف الذی هو أساس مشاکلنا وتخلّفنا. وقال أیضاً: “إنّ الحج یمثل أفضل مکان لتعارف الشعوب الإسلامیة، حیث یتعرف المسلمون على إخوانهم وأخواتهم فی الدین من شتّى أنحاء العالم، ویلتقون مع بعضهم فی البیت الذی تتعلق به کلّ المجتمعات الإسلامیة من أتباع إبراهیم الحنیف “. فالحج إذن محل اجتماع المسلمین أسودهم وأبیضهم، عربیهم وأعجمیهم، غنیهم وفقیرهم، رئیسهم ومرؤوسهم، رجالهم ونسائهم، کلّ ذلک یدلّ على أنّ من مقاصد الحج هو تقریب الأفراد من مختلف الأجناس والمواطن نحو بعضهم البعض، حتى یتم تفاعلهم الاجتماعی وهم فی أسمى درجات العبادة والتنسک والابتهال والدعاء فی مجتمع التوحید الإسلامی وبالقرب من بیت المعبود والمحبوب. ولا شک أنّ هذا ینسجم تماماً مع أهداف الرسالة الإسلامیة فی إقامة دولة التوحید العالمیة المنسجمة على کلّ الأصعدة الحیاتیة. یقول الإمام الخمینی فی بیانه إلى حجاج بیت الله الحرام: “لیعلم الإخوة أهل السُّنَّة فی جمیع البلدان الإسلامیة أنّ المأجورین المرتبطین بالقوى الشیطانیة الکبرى لا یستهدفون خیر الإسلام والمسلمین، وعلى المسلمین أن یتبرأوا منهم ویعرضوا عن إشاعاتهم المنافقة “. ثم یضیف قائلا: “إنّی أمد ید الأخوة إلى جمیع المسلمین الملتزمین فی العالم، وأطلب منهم أن ینظروا إلى الشیعة باعتبارهم أخوة أعزاء لهم، وبذلک نشترک جمیعاً فی إحباط هذه المخططات المشؤومة”. وقال أیضاً: “... وتجنبوا التفرقة والتنازع {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ریحکم} “. وخاطب الکتّاب والخطباء المجتمعین مع إخوانهم فی عرفات ومنى والمشعر وغیرها قائلا: “أیها الکتّاب والخطباء: أُذکروا قضایاکم الاجتماعیة والسیاسیة لإخوانکم المؤمنین أثناء الاجتماعات الکبیرة فی عرفات ومشعر ومنى ومکة المعظمة والمدینة المنورة واطلبوا منهم العون”. وقد یعرّف الإمام الحج بأنه نداء لإیجاد وبناء المجتمع البعید عن الرذائل المادیة والمعنویة، وأنّ مناسکه تجل عظیم لحیاة کریمة ومجتمع متکامل فی هذه الدنیا، وأنه یتواصل فیه مجتمع المسلمین من أی قومیة کانوا ویصبحوا یداً واحدة، وأنه کذلک ساحة عرض ومرآة صادقة للاستعدادات والقابلیات المادیة والمعنویة للمسلمین. والحج یمنح المجتمعات الإنسانیة مصدراً مستمراً من مصادر الکسب الثقافی الناتج عن تفاعل الأفراد من مختلف الثقافات والطبائع البشریة، وذلک عن طریق تقریب الأفراد - بأجناسهم المتباینة - فی المکان الواحد فی الوقت المعین ; لیتشاوروا فی أمور دینهم وعقیدتهم وحیاتهم، ویتبادلوا الخبرات والتجارب والآراء والعادات الحسنة، ویتعرف بعضهم على أخبار البعض الآخر، فیزداد الوعی، وتنمو المعرفة، وتشحذ الهمم من أجل الإصلاح والتغییر والاهتمام بشؤون الأمة والعقیدة {لیشهدوا منافع لهم}. وقد بیَّن الإمام أنّ الحج فرصة ثمینة لتشترک أفکار المسلمین لنشر الثقافة الإسلامیة والقرآنیة، وحذّر من تسرب الثقافة الغربیة إلى الشعوب المسلمة، فقال: “الیوم حیث نشبت براثن الاستعمار الخبیثة - بسبب تهاون وتساهل الشعوب الإسلامیة - فی أعماق الأرض المترامیة لأمة القرآن، لتنهب جمیع الثروات الوطنیة والخیرات الطائلة، ولتنشر الثقافة الاستعماریة المسموعة فی أعماق وقصبات العالم الإسلامی، ولتقضی على ثقافة القرآن، وتجنّد الشباب أفواجاً لخدمة الأجانب المستعمرین، وتطلع علینا کلّ یوم بنغمة جدیدة وبأسماء خادعة تضلّ بها شبابنا. . فی مثل هذه الظروف علیکم، یا أبناء الأمة الأعزاء المجتمعین لأداء مناسک الحج فی أرض الوحی هذه، أن تستثمروا الفرصة وتفکروا فی الحل، وأن تتبادلوا وجهات النظر وتتفاهموا لحل مسائل المسلمین المستعصیة”. ثم قال فی مناسبة أخرى للحج: “مِن المسلّم أن حجّاً دون معرفة ووعی ودون روح ودون حرکة ونهوض، وحجّاً دون براءة، وحجّاً دون وحدة، وحجّاً لا ینتج هدماً للکفر والشرک، لیس حجّاً، وخلاصة الأمر أنه یجب على جمیع المسلمین السعی لأجل تجدید حیاة الحج والقرآن وإعادتهما ثانیة إلى ساحة حیاتهم، وعلى المحققین المؤمنین بالإسلام أن یبینوا التفاسیر الصحیحة والواقعیة لفلسفة الحج، ویرموا فی البحر کل نسیج خرافات وادعاءات علماء البلاط”. وقال أیضاً: “إننی أوصی جمیع العلماء المحترمین والکتاب والمتحدثین الملتزمین أن یوضّحوا لجمیع المسلمین وخاصة الحجاج منهم أهداف هذه الفریضة المقدسة، کما أنی أوصیهم بتعلیم مناسک الحج وکیفیة أدائها بشکلها الصحیح حتى یکون عملهم خالیاً من الأخطاء، وعدم الاکتفاء بأننا أدینا الفریضة وأنجزنا الواجب کیفما کان، فإن الأخطاء فی هذه الفریضة تترک آثاراً وأشکالا على صحتها قد تکلفهم وقتاً وجهداً مضاعفاً لتصحیحها”. وأیضاً خاطب العلماء وحملهم المسؤولیة فی إیقاظ المسلمین فی هذا الاجتماع الکبیر، فقال: “وعلى العلماء المشارکین فی هذا الاجتماع، من أی بلد کانوا، أن یصدروا - بعد تبادل وجهات النظر - بیانات صریحة واضحة لإیقاظ المسلمین، وأن یوزعوها فی مهبط الوحی بین أبناء الأمة الإسلامیة، ثم ینشروها فی بلدانهم بعد عودتهم”. کان الإمام متیقناً أنّ التلاقح الفکری للمسلمین فی موسم الحج سیعطی ثماراً جیدة، لکن أین الأیادی المؤیدة لهذا المشروع الإصلاحی؟! البُعد التربوی والأخلاقی للحج فی فکر الإمام: إن مناسک الحج ومراسمه ما هی إلاّ دورة تدریبیة تربویة للنفس والروح والبدن على السواء لصنع إنسان الحیاة الحرّ فی فکره وإرادته وفی حرکة الحیاة من حوله غیر منقاد لأعداء الله شیاطین الإنس والجنّ کبیرهم وصغیرهم. فالأفعال العبادیة والتروک والالتزامات، کلّ هذه التعابیر الجسدیة والنفسیة وسیلة من وسائل انتظام الخُلق وسموه ککیان روحی فکری أخلاقی عبادی متمیز، ولهذا نجد الإمام رضی الله عنه) اهتم بهذا الجانب; لأنه الوسیلة الناجعة لارتقاء المسلم الأبعاد الأخرى، فقد جاء عنه قدس سره: “فی المواقیت الإلهیة والمقامات المقدسة، فی جوار بیت الله الملیء بالبرکات، راعوا آداب الحضور فی الساحة المقدسة للعلیّ العظیم، وحرّروا قلوبکم أیها الحجاج الأعزاء من جمیع الارتباطات المتعلقة بغیر الله”. وفی محل آخر بیّن الإمام عنه أنّ الحجاج الحقیقین الواعیین المعتبرین یرجعون إلى أوطانهم حاملین الأخلاق المفروضة علیهم بالحج وکأنها ملکة تأصلت بروحهم والتصقت بتصرفاتهم، فیقول: «وبنبذهم ما یمایزهم من اللون والقومیة والأصل، یعودون الى أرضهم وبیتهم الأول، وبمراعاتهم للأخلاق الإسلامیة الکریمة، وتجنبهم للجدال ومظاهر الزینة، یجسدون صفاء الأخوة الإسلامیة ومظهر وحدة الأمّة المحمدیة. ففی الحج یتعود المسلم الألفة، والتعارف عن طریق السفر والاختلاط، فتنمو لدیه الروح الاجتماعیة، وتتهذب ملکاته الأخلاقیة، عن طریق هذه الممارسة التربویة، والتفاعل البشری الرائع، الذی یشهده فی الحج، بأرقى درجات الالتزام، والاستقامة السلوکیة، من خلال المناسک والمراسم الشرعیة، وکثیر ما یتغیر الإنسان إلى الأفضل، فهو یربی - أی الحج - النفس على السلوک الصالح ویقضی على النوازع السلبیة لدى الإنسان المسلم الملتزم الصادق مع الله ومع نفسه، فیتعود الحاج على الصبر، واحتمال المشاق والصعاب، إضافة إلى تعوده من خلال المعاشرة على حسن الخلق والصدق واتساع الصدر للمجاملة والنقاش أو المجادلة والحوار مع الحجاج الآخرین، ویتعود اللطف، والتواضع، واللین، وحسن المحادثة، والتعاطف، والکرم، والامتناع عن: الکذب، والخصومة والغیبة والنمیمة والتکبر، والعظمة، والجدال وغیرها حیث قال تعالى {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فی الحج}– سورة البقرة ١٩٧. وهذه النواهی فی الحج تساهم فی بناء شخصیة المسلم، وتعمل على إعادة تنظیمها، وتصحیح مسیرتها فی الحیاة، وتسد وجهتها ومسارها إلى الله تعالى... وتزرع فی النفس مکارم الأخلاق وتقودها إلى استقامة السلوک، وحسن المعاشرة؛ فقد قال الإمام الخمینی مخاطباً الحجاج حاثّاً على مکارم الأخلاق: «أخرجوا من قلوبکم غیر حب الله ونوّروها بأنوار التجلیات الإلهیة، حتى تکون الأعمال والمناسک فی سیرها إلى الله ملیئة بمضمون الحج الإبراهیمی وبعده بالحج المحمدی، وبمقدار تخفیف الحمل من أفعال الطبیعة یسلم الجمیع من أوزار المنى والمنیة، وبحمل ثقل معرفة الحق وعشق المحبوب تعودون إلى أوطانکم، وتجلبون للأصدقاء هدایا النعم الإلهیة الأزلیة بدل الهدایا المادیة الفانیة، وبقبضات ملیئة بالقیم الإسلامیة التی بعث لأجلها الأنبیاء العظام من إبراهیم خلیل الله إلى محمد حبیب الله صلى الله علیهم وآلهم أجمعین. وقال فی مکارم الأخلاق وتربیة النفس أیضا ً: “... تلتحقون بالرفاق عشّاق الشهادة. هذه القیم والدوافع التی تحرّر الإنسان من أسر النفس الأمارة بالسوء، وتنجّی من الارتباط بالشرق والغرب، وتوصل إلى شجرة الزیتون المبارکة اللاشرقیة واللاغربیة “. * المفهوم السیاسی للحج فی فکر الإمام الخمینی: إنّ أغلب خطابات الإمام السنویة لحجاج بیت الله الحرام کانت تتناول البُعد السیاسی بالخصوص بعد انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران... کان یعرض فیها قضایا الأمة الکبرى ومشاکلها، مستنهضاً المسلمین إلى وجوب التحرک الشامل للتصدی بها، داعیاً إیاهم إلى الوحدة فی العمل والصف والأهداف تحت رایة الإسلام للتخلص من الظلم والاستضعاف والتخلف والتبعیة للاستکبار العالمی، والسعی إلى تحقیق ما من شأنه تعزیز ونشر قیم الله وأحکامه فی الأرض. یقول الإمام الخمینی: “هناک عوامل سیاسیة عدیدة وراء عقد الاجتماعات والمجامع وخاصة اجتماع الحج القیم، والتی منها التعرف على المشاکل الأساسیة والقضایا السیاسیة للإسلام والمسلمین، ولا یمکن ذلک إلاّ باجتماع رجال الدین والمفکرین والملتزمین الزائرین لبیت الله الحرام، وذلک بعرض وبتبادل الآراء لإیجاد الحلول، وفی العودة إلى البلدان الإسلامیة یعرضونها فی المجامع العامة ویسعون فی رفع وحل مشاکلهم”. * نداءات الإمام للمسلمین فی مواسم الحج: کان موسم الحج فرصة نادرة ; لیوصل الإمام فکره النهضوی لجمیع مسلمی العالم، فکان یناشد المسلمین فی موسم الحج قائلا: «ماذا دهاکم یا مسلمی العالم، أنتم الذین استطعتم أن تحطموا القوى العظمى فی صدر الإسلام مع قلة عددکم، وأوجدتُم الأمة الإسلامیة الکبرى، والیوم مع ما یقارب من ملیار نسمة وامتلاککم للثروات الکبیرة، التی هی أکبر حربة أمام الأعداء، أصبحتم هکذا أذلاء ضعفاء! هل تعلمون أنّ جمیع مصائبکم ناشئة من الاختلاف والتفرقة بین رُؤساء بلادکم وبالتالی بینکم أنفسکم... قوموا من أماکنکم واحملوا القرآن الکریم بأیدیکم واخضعوا لأمر الله تعالى; لکی تعیدوا مجد الإسلام العزیز وعظمته. تعالوا واستمعوا إلى موعظة واحدة من الله عندما یقول {قل إنّما أعظکم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى} سورة سبأ ٤٩.. قوموا جمیعاً لله قیاماً فردیاً لمواجهة جنود الشیطان فی باطنکم وقیاماً جماعیاً أمام القوى الشیطانیة ; لذا کان القیام إلهیاً وکانت النهضة لله وهی منتصرة... یا زوار بیت الله: اتحدوا معاً فی المواقف والمشاعر الإلهیة، واطلبوا من الله تعالى غلبة الإسلام والمسلمین ومستضعفی العالم... أیها المسلمون وأیها المستضعفون فی العالم; تعاضدوا وتوجهوا إلى الله العظیم والجأوا إلى الإسلام وانتفضوا ضد المستکبرین ومنتهکی حقوق الشعوب. ولا نستغرب من الإمام بصفته مرجعاً دینیّاً أن یتجه هذا الاتجاه فی مفهوم الحج وواقعه العملی؛ فإنه کما قال د. سمیر سلیمان: “إنّ هذه الطروحات التی رأى الإمام موسم الحج من خلالها هی انعطاف مفهومی کبیر فی اتجاه العودة إلى الینابیع والأصول الإسلامیة التی لم تکن عبادة الحج فیها إلاّ مصادر طروحات الإمام ومرجعها، فلم یکن الحج أیام النبی (صلى الله علیه وآله) إلاّ فی الإطار الذی أعاد الإمام رسمه وربطه بالمتغیرات الزمنیة والاجتماعیة والسیاسیة المستجدة، فکان له فی رسول الله (صلى الله علیه وآله) أسوة حسنة عندما قام بمفرده لیرفع لواء التوحید لصالح المستضعفین، فی وجه عبده الأصنام والمستکبرین “. وقد کان الإمام جادّاً ومخلصاً فی توجیه المسلمین کافة وتحویل الحج إلى مؤتمر إسلامی عام، تعرض فیه المشاکل الصعبة التی یعانیها العالم الإسلامی فی کل بقاع العالم، کقضیة فلسطین وغیرها، ومعالجة کل القضایا بصدق وإخلاص ووفاء، ولکن کانت الظروف أقوى من أن تأخذ هذه الخطوة مجراها الطبیعی، فقد قوبلت بالضغط والتعتیم والتشویه والتضییق من قبل الاستکبار العالمی. . یقول: “ ولو رجع المسلمون إلى الماضی قلیلا إلى ما عانى النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) وأئمة الهدى من الغربة لأجل دین الحق وإزهاق الباطل، لقد استقاموا ووقفوا ولم یهابوا أو یجزعوا على کثرة التهم والإهانات التی کالتها ألسنة أمثال أبی لهب وأبی جهل وأبی سفیان. .. وفی نفس الوقت استمروا وأکملوا طریقهم مع وجود الحصار الاقتصادی فی شعب أبی طالب، ولم یستسلموا ولم یهنوا، ومن بعدها تحمّلوا الهجرة والغربة ومراراتها وآلامها فی سبیل دعوة الحق، وتبلیغ رسالة الله وتواجدوا فی الحروب المتتالیة وغیر المتکافئة، رغم المؤامرات وکثرة المنافقین، قاموا بهدایة وإرشاد الناس بهمة عالیة وصلبة حیث شهدت صخور وحصى مکّة والمدینة وصحاریها وجبالها وأزقتها وأسواقها آثار تبلیغ رسالتهم. وإذا ما رفعنا الستار وکشفنا النقاب عن سرّ ورمز تحقق {فاستقم کما أمرت} لعرف وعلم زوّار بیت الله الحرام کم سعى رسول الله (صلى الله علیه وآله) لأجل هدایتنا وحصول المسلمین على الجنّة”. أنّ الإمام الخمینی تمیز بین أقرانه العلماء برأیه المتمیز فی هذه الفریضة الإسلامیة، فإن ما أتى به الإمام الخمینی هو أن أخرجه من جموده وروتینیته، مضیفاً إلیه معنىً حیویاً جدیداً، فقد نادى بتفعیله وتحریکه على الساحة الإسلامیة. .. فلم یعد ذلک الحج الطقوسی أو الشعائری الجامد، لم یعد مجرّد سفر وحرکات محددة وأداء واجبات معینة، وإنما صار إضافة إلى الأداء الصحیح لمراسمه وأرکانه، صار فریضة فاعلة لعبت دوراً حیویاً فی الحیاة الاجتماعیة والسیاسیة والنفسیة... قد أکّد الإمام مراراً وتکراراً أنّ هذا السفر سفر إلهی ولیس سفراً عادیاً مادیاً مجرّداً، وأنّ المراتب المعنویة للحج هی رأس مال الحیاة الخالدة وهی التی تقرّب الإنسان من أفق التوحید والتنزیه، وأنّه لن یحصل علیها الحاج ما لم یطبق أحکام وقوانین الحج العبادیة بشکل صحیح. إن مفهوم الحج لدى الإمام الخمینی یتضح فی خطاباته لحجاج بیت الله الحرام، ففیها عن مفهوم الحج الروحی والثقافی والاقتصادی والسیاسی على السواء، فقد وجه الإمام الخمینی خطابات عدیدة فی هذا المجال ; لیبین أنّ على الحاج أن یطهّر نفسه ویخلی قلبه من کلّ شیء إلاّ حب الله والطاعة والخضوع له، وأنه یجب علیه أن یربط روحه بمعبوده الواحد الأحد.
یعرّف الإمام الحج بأنه نداء لإیجاد وبناء المجتمع البعید عن الرذائل المادیة والمعنویة، وأنّ مناسکه تجل عظیم لحیاة کریمة ومجتمع متکامل فی هذه الدنیا، وأنه یتواصل فیه مجتمع المسلمین من أی قومیة کانوا ویصبحوا یداً واحدة، وأنه کذلک ساحة عرض ومرآة صادقة للاستعدادات والقابلیات المادیة والمعنویة للمسلمین. دعا الإمام المسلمین فی کافة قارات العالم المدعوین إلى مؤتمر السماء وحثهم على الوحدة الإسلامیة ووحدة الکلمة والتعاون والاعتصام بحبل الله المتین وعدم التفرقة قائلا: “أیها المسلمون فی العالم ویا أتباع مبدأ التوحید: إنّ سبب کلّ المشاکل فی البلاد الإسلامیة هو اختلاف الکلمة وعدم التعاون، ورمز الانتصار هو وحدة الکلمة وإیجاد التعاون | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 260 تنزیل PDF: 94 |
||||