الترویة واصداؤها... نداء: فَلیرحل معنا! فلْیرْحل معنا ! | ||||
PDF (1163 K) | ||||
یوم الترویة بالنسبة للحجاج، هو نداء الرحیل والتوجّه الى المشاعر والمکوث فی وادی العشق والحیرة والدعاء والقرب. وفضلاً عن ذلک، یوم الترویة بالنسبة للشیعة هو استحضار لواقعة تاریخیة خالدة، حافلة بالدروس والعبرة. هو یوم دعوة الانسان النورانی للانقطاع عن المنصب والمقام، والدنیا، والاسم، والمنافع الشخصیة. یوم خروج الامام الحسین سید الشهداء، برفقة انصاره من مکة متوجهاً الى العراق. ومن ثم حصل واقعة عاشوراء، المأساة التاریخیة الخالدة. وها هی اصداء النداء الذی صکّ اسماع العالم على مرّ التاریخ: “فلیرحل معنا”. ان التحرک الذی صنع التاریخ، ما فتىء یشغل الاذهان ویستحوذ على الافکار ویدعوها للتأمل والتمعن، ویلفت انظار کل مسلم ـ بمعزل عن الخلفیة الفقهیة ـ لوعی وإدراک ثمرة اداء الحج واهمیته فی الاسلام، والمنزلة الفریدة التی تحتلها هذه الفریضة المتمیزة وجذبتها المعنویة. ذلک ان مناسک الحج وشعائره ذات جذبة خاصة تهیمن على توجهات کل مسلم، وتمهّد الطریق امامه بناء الذات والارتقاء فی مدارج التکامل المعنوی. الامام الحسین ـ سبط الرسول الاعظم ـ الذی ما زالت ترانیم دعائه القدسی یوم عرفه تبهر العقول وتذهل النفوس، وتجعل الانسان فی حیرة ودهشة، وتناغم وانسجام بین الروح والمشاعر. والمناجاة العرشیة التی تعتبر موروثاً معنویاً قیّماً ونفیساً، وتعد احد مصادر العرفان الاسلامی الفریدة. کیف تسنى له الانفکاک من کل ذلک قلباً وقالباً، والانقطاع عن الحضور والمشارکة فی هذه الشعائر المقدسة، والتوجّه الى العراق؟ ما الذی جعل من نهضة الامام الحسین ونهجه طلیعیاً رائداً؟ انه الدافع الربانی الصادق، والاتصال بعالم المعنى والملکوت. إذ نجده اثناء الطواف لأداء الفریضة الاهم والاصعب، وحیث اللذة المعنویة التی هی أمر مقبول وموافق للعرف؛ وبعبارة أخرى، خیار مصالح الامة وتطلعاتها، حتى المیول الشخصیة بما فیها المعنویة. نجده اثتاء الطواف یتخطى اللذائذ المعنویة والمیول الشخصیة، ویمضی دون ادنى تردد فی قراره وعزمه واقدامه.. دون ای تردد ازاء تشخیص التکلیف ومصالح الامة، وکذلک تجاه ما یؤمن به. لم یحاول التذرع بالتکلیف والتشبث بالمصلحة العامة، ومحاولة تبریر إکمال مناسک الحج والحظی بثوابه. بید أننا نحن اصحاب الإدعاء، الذین نحاول فی کل مرة یعرض علینا منصب أو مقام، بل وحتى مجرد وصول رائحته الى مشامنا، نحاول التذرع بالواجب والتکلیف والایثار للقبول بذلک، والترحیب به بکل رغبة وحماس، ونکون على اهبة الاستعداد لبذل المال وانتهاک حرمات الآخرین، أداء لهذا النوع من التکلیف. للتخلص من عطش السلطة والشهرة، کل الایام بالنسبة لنا هی یوم الترویة. لأن هذا العطش لا یروى ولا ینتهی. وفرة الماء فی یوم واحد لن تروی ولن تغنی عنه. ولکن اذا ما انتابنا الشک والتردید ازاء الاستغناء عن الکرامة، الملذات، الشهرة، والجهاد للذود عن الدین والمعتقد؛ فإننا نمضی فی هذا المسار الى الحد الذی نقضی کل الوقت بالاستخارة واستشارة من نشترک معهم بالمسلک والمنافع، حتى یطرق الاسماع صوت طبول انتهاء المعرکة، واعلان نهایة فجر العاشر. العبد الصالح، العارف المتأله الزاهد والانسان الکامل، العاشق للمناجاة مع ربّ العزة، والمستغرق فی الذکر والدعاء، یقف بکل شجاعة ویتخلى عن رغباته ومیوله النفعیة، ویفکر بما یخدمة مصالح الاسلام والامة ولیس منافعه الشخصیة، واتخاذ قراره وعقد العزم دون ادنى تردد، والصدح بکلمات خالدة فی التاریخ، وحاضرة فی کل عصر وزمان: “من کان باذلاً فِینَا مهجتَه، وموطِّناً على لِقَاءالله نفسه، فلْیَرْحَل مَعَنا”. وعلى الرغم مما کان ینتظره النفعیون، والزهّاد القشریون، والمرفهون طلاب الدنیا، والاعداء الحاقدون؛ فانه لم یملأ قرابه بالماء لأجل عرفات، بل ولم یلق حتى نظرة الیه، وقرر الالتحاق بمصارع عشاق نینوى. دعا الجمیع الى سقی غرسة الاسلام الفتیة ورعایة شجرة العدالة، کی تکون الترویة لأجل الهجرة على الدوام، ویکون التحرّک لأجل شجرة الاسلام الباسقة، مخلداّ اسمه ونهضته. وعلى الرغم من وقوف الجمیع بوجهه ومحاولة ثنیه عن نهجه ومسیرته، بدءً بالنفعیین وانتهاء بالمتحمسین، المنافسین، طلاب الدنیا والاعداء ؛ غیر ان ذلک لم یفت فی عضد الامام الهمام ولن یثنیه عن توجهاته واهدافه الربانیة السامیة. حاولوا تخویفه من الموت، ومن تشرید أهل بیته ! فردّ علیهم لافتاً الى ایمانه بطریقه ونهجه : أبالموت تخوفنی؟ “ فیا سیوف خذینی “. کان عزمه وارادته تستند الى مکان آخر. وما اراده واصرّ علیه عین ما کان یریده “هو”، حیث قدره وارادته. ولهذا یوم الترویة هو یوم العزم والارادة الایمانیة والربانیة فی تخطی المنافع الشخصیة واللذائذ المعنویة لأجل أمر هام وحیاتی، وإن کان أمر فی غایة الصعوبة وباهض التکلفة، حیث الدفاع عن دین الله وصیانة مصالح الامة والعمل بالتکلیف، الذی اضحى خالداً فی الوجود والتاریخ. الاسلام والتحرر أخذت منه الحیاة وبقی خالداً. فهو لم یفکر بغیر التکلیف ومسؤولیته التاریخیة والالهیة، ولم یرغیر ذلک ولن یریده. وکم هو جمیل ودقیق ما قاله شیخ عارف: “ سید الشهداء اوضح التکلیف لنا جمیعاً “. بالنسبة لی یعتبر یوم الثامن من ذی الحجة، ملازماً لشعور غریب وقلق واضطراب على الدوام. إذ کثیراً ما کنت اتساءل لو أننا واجهنا مثل هذا الموقف ماذا کنّا سنفعل؟ هل سنکون بهذا القدر من الاطمئنان لإتخاذ قرار صائب، وأدرکنا تکلیفنا بشکل سلیم؟ ونعمل ونتحرک وفقاً لما یقتضیه الواجب؟ أم نتخذ من العمل بالظواهر والفرائض ذریعة للهروب من المسؤولیة الاولى والحقیقیة ؟ لابد من تفویض الأمر الى الله وندعو لأن یمنّ علینا بالمعرفة، والشعور، والارادة، والعزم، والشجاعة اللازمة لإتخاذ القرار الصائب والاقدام فی الوقت المناسب. وا أسفا من التشخیص غیر السلیم والقرار الخاطىء. ونعوذ بالله من التوجهات النفعیة والانانیة المقرونة بذرائع ومبررات مخادعة. إن الحج مظهر للمساواة ورمز لالغاء کل الوان التمایز بشتى الوان التمایز بین عباد الله، وبهذا الخصوص قال الشیخ المرجع والمفسر الکبیر ایة الله الشیخ مکارم الشیرازی: إن مناسک الحج وطقوسه من جملة العبادات الجماعیة المشترکة یبدأها الانسان بتجرد کامل وتنزه عن کل شئ سوى ما یلبس من ملابس الاحرام البسیطة جدا، وتلک المراسم تدل على المساواة بین خلق الله وعباده فی حضرته، ومعلوم أن المساواة والغاء الفوارق الطبیعیة هی أمل وطموح البشر بأن یأتی الیوم الذی تتحقق فیه العدالة بین الناس وتتلاشی فیه کل الوان التمییز والاختلاف بین الوان البشر وعناصرهم من قبیل الشکل والثروة والعرق واللغة ونحو ذلک، فیتساوى الجمیع ویتشابهون فی الوقوف بین یدی الله ویذعن الانسان أن جمیع البشر سواسیه عند الله جل شأنه. | ||||
الإحصائيات مشاهدة: 168 تنزیل PDF: 41 |
||||