خریف الرأسمالیة و تباشیر الثورة الاقتصادیة العالمیة | ||
خریف الرأسمالیة و تباشیر الثورة الاقتصادیة العالمیة مصطفىقطبی لو سألنا أنفسنا: ما السر الذی یکمن وراء اختفاء أخلاقیات ما تضمنه الإعلان العالمی لحقوق الإنسان فی القرن العشرین ، والذی کان یعنى ببلورة أخلاق کونیة تنطبق على جمیع شعوب الأرض، وأن مضامینه تؤکد احترام کرامة کل إنسان على وجه الأرض بغض النظر عن جنسه وأرضه، أصله وفصله، أوعرقه ولون وجهه، أو دینه وطائفته. ولکن بدأنا نتلمس تقسیم العالم إلى شمال وجنوب، مع التوحش فی التعامل وبدایات تکوین أخلاقیات کونیة کسیحة لا تستقیم أبداً ، ومبادئ حقوق الإنسان. بل غدا استخدام العامل الإنسانی غطاءً مجرداً من الأخلاق، بل ویستخدم مادة مستلبة فی القذارة السیاسیة!. لقد مزقت الرأسمالیة البنى الاجتماعیة التقلیدیة التی تعلم فیها الإنسان إنسانیته، وأفرزت طبقات هامشیة تعیش بؤسها وسط هالة من مظاهر الترف والرخاء، فهناک أصحاب المشاریع الصغیرة، القرویون الذین التهمتهم المدینة، وأصبح کل فرد فیها منعزلاً یعانی الوحدة والألم والاغتراب، وتقدر نسبة هؤلاء بخمس عدد السکان بالنسبة لأمریکا والغرب، ویصل التفاوت بین متوسط دخل هذه الفئات الدنیا والفئات العلیا 1/500، وقلبت الرأسمالیة المعاییر وشوهتها، فأصبحت أسعار نجوم الریاضة والفن لا تضاهى، وصار صاحب الرکلة الصائبة یفوق مردوداً أحسن من کتاب الفکر والأدب، وأصبح ما یصرف على موائد اللهو والقمار مبعثاً للعقد النفسیة والتشوهات الأخلاقیة والتدمیر الذاتی. فالرأسمالیة نظام متوحش وطفیلی یتلخص بتراکم الأموال فی أیدی فئة تستغل بشکل متنام القوى البشریة العاملة فی أنحاء العالم بخاصة فی دول الشمال ویعتبر هذا التراکم غایة فی حد ذاتها. فالإنسان الیوم قد تغیر کثیرا عمّا کان علیه سابقاً، وتبدلت أخلاقیاته کثیراً فی کل مکان من هذا الوجود. بدأت الثقة تفتقد بین الناس، وازدادت المافیات والجماعات المارقة فی مجتمعات الیوم، وهی تتصرف ضد القانون بشکل متفاقم الأخطار. وازداد التوحّش فی التعامل بین القارات. ربما لم تنته مفاصل الشرق والغرب بعد أن ودعنا عصر الاستعمار الکولینیالی والامبریالی، ولکن التوحش یتبلور الیوم بین شمال وجنوب، وربما تختفی عوامل استراتیجیة غیر منظورة الیوم. لم تعد المجتمعات هادئة کما کانت، بل تبدو متحرکة ومختلطة وتهددها الفوضى. ولم یعد العمال طبقة برولیتاریة فی مجتمع صناعی تصارع من أجل نیل فائض القیمة، بل غدت الأیدی العاملة من أثمن ما یکون فی السوق العالمیة. لم تعد الطبقة الأرستقراطیة منحسرة بعدد معین من أصحاب رؤوس الأموال فی أی مجتمع، فلقد تنامى عدد هؤلاء لیس فی العالم کله، بل فی کل مجتمع باستحواذ البعض على مصادر النفوذ والمال والقوة. ویبدو هؤلاء فی عرف الدارسین مجرد طفیلیین فی المجتمع ! یقول الفیلسوف الأمیرکی الراحل جون رولس صاحب ''نظریة العدالة'' الشهیرة، وهو وریث شرعی لکانط وجان جاک روسو، أن العدالة لا تعنی جعل کل الناس أغنیاء بنفس الدرجة، وإنما تعنی أن الفقراء لیس لهم ما یأکلونه. فالإنسان أینما کان له الحق فی هذا الوجود أن یحیا حیاة کریمة، وعنده الحد الأدنى من الطعام والشراب والملبس والسکن والدواء والعلاج.. وبالتالی فإن المفهوم الجدید للعدالة یتناقض تماماً مع الشیوعیة والاشتراکیة. لم تحقق الرأسمالیة بإنتاجها الهائل الأمن للإنسان، فالترسانات الحربیة تتحکم فیها عقول آلیة أو عقول مجنونة، وحاولت الرأسمالیة تجاوز أزماتها الدوریة بمزید من النهب للعالم الثالث الذی یبلغ عدد سکانه زهاء 75 فی المائة من العالم، والذی یعانی من تبعیة قاتلة للغرب الذی یتفنن فی الإبقاء على هیمنته ونهبه لخیرات الشعوب الفقیرة، والتحکم بمقدراتها، وتتغلغل الشرکات الاحتکاریة عمیقاً فی اقتصادیات العالم الثالث لتجنی أرباحاً خیالیة تعادل بالمتوسط ثمانیة أضعاف توظیفاتها. ونتیجة التبعیة والاستغلال البشع وقعت البلدان الفقیرة فی أزمة دیون حادة، ما جعل هذه البلدان عاجزة عن القیام بأیة إجراءات تنمویة حقیقیة، وعن الفکاک من التبعیة، وهذا ما عمق الفجوة بین البلدان الکبرى والبلدان الفقیرة التی قدر مستوى مداخیل الفرد الواحد فیها بأقل من (15) مرة مما هو علیه فی بلدان العالم المتحضر المشبع استهلاکیاً، والذی یتواجد إلى جانبه ملیار إنسان جائع، فها هی الصومال مثلاً یموت أبناؤها بالجملة، ولم یتحسس الأغنیاء من رافعی شعارات حقوق الإنسان، بالمأساة التی یواجهها نصف ملیون طفل یتضورون جوعاً، قد یتحولون إلى جثث باردة فی أحضان أمهاتهم الدافئة، وإنقاذهم لا یحتاج إلا لحوالی الملیارین یمکن أن تجنى من استخدام الأغنیاء لأراضی البلدان التی أصبحت مزابل للنفایات السامة ومرتعاً خصباً لصناعاتها السوداء. من یتصفح برنامج الأمم المتحدة للتنمیة لکل عام، فسیخرج مذهولاً نتیجة اتساع الهوة التی تزداد یوماً بعد آخر بین الأغنیاء والفقراء بدلاً من أن تنقص والإحصائیات الرسمیة واضحة بهذا الخصوص. لنضرب أمثلة على مدى اختلال التوازن فی توزیع الثروة بین الشمال الممثل الحقیقی لعالم الأغنیاء، وبین الجنوب ممثل الفقراء بشکل عام، نجد أن هناک 225 ملیاردیراً فی العالم تبلغ ثروتهم الإجمالیة ألف ملیار دولار. هذا المبلغ یعادل ما یحصله 2,5 ملیار من سکان البشریة، أی بمعنى أن 225 شخصاً، هم أغنى من ملیارین ونصف الملیار شخص من أبناء البشریة! فالعالم کله یدرک من هو المسؤول الحقیقی عن تبدل الأخلاقیات على مدى مائة سنة، وعن خراب العالم . وقد بدا الإنسان منتجاً مستغلاً أو مستهلکاً عبثیاً، أو شبحاً أکلته الحروب والکوارث والمجاعات. وبالضرورة، فإن عالم الجنوب هو المکتظ سکانیاً. وهو الذی یعانی وستزداد معاناته مع توالی الأیام والسنین فی ظل أخلاقیات کونیة جدیدة، لا تعرف إلا الحرب الاقتصادیة، والاستثمارات الوهمیة، ومضاربات العملة، وهیمنة الشرکات الکبرى، والتخطیط لخنق اقتصادات معینة، وعملیات غسیل الأموال، واستقطاب ثروات هائلة فی البنوک لدول وأفراد. وفرض أجندة على الغذاء والماء والدواء. والتلاعب بأسعار المحروقات، وتخفیض سعر الدولار. ألسنا فی عالم بات معولماً إلى حد بعید؟ فکل الحلول المستوحاة من عقائد النیولیبرالیة المفترسة تمر إجباریاً بالحلقة الهابطة نحو جحیم الفوضى: تقلیص الموازنات، تقلیص صلاحیات دولة الرعایة، تقلیص الإنفاق الحکومی، تقلیص الاستثمارات والخدمات، وما یستتبعه ذلک إجباریاً من تقلیص أعداد العاملین فی سوق العمل، ومن تصاعد سریع لمعدلات البطالة والفقر، کل ذلک یمنح شبح الخراب الذی بدأ یلف العالم کل الفرص التی تسمح له بأن یتفرد فی إلقاء أعباءه على الساحة العالمیة. لا فائدة من التنظیر حول الأشکال التی یمکن أن یأخذها الخراب فی بلدان الغرب. یکفی، بعیداً وحتى بالتوازی مع ما سینشب من صراعات قومیة وعرقیة ودینیة ومناطقیة ولغویة وما إلى ذلک، یکفی أن نشیر إلى ظاهرة باتت معروفة على مستوى التحرکات الجماهیریة منذ موت الطبقات التی کانت توصف بالثوریة: تلک الظاهرة هی النهب الذی تتعرض له المراکز التجاریة فی وقت یشهد فیه المجتمع المتحول بکلیته إلى مجتمع استهلاکی، ظهور طبقة واسعة من المستهلکین الذین یتمتعون بجمیع الحقوق والحریات باستثناء الحق بالتسوق والاستهلاک. هناک أعداد متزایدة من المدن ذات الکثافة السکانیة العالیة، وکلها مبنیة على الإسفلت والإسمنت، فی عالم یشکو من ندرة المواد الغذائیة. وهذا الواقع یشکل شرطاً ضخماً من شروط الفوضى والخراب. أما الزراعة فوق سطوح الأبنیة، على ما یقترحه بعض الخبراء الذین تعتریهم نوبات من العبقریة التی لا تتجاوز حدود الواقع السائد، فإنها لا تشکل غیر حل تفننی وانهزامی من النوع الذی نجده عند جمیع الموهوبین الذین یوظفون کل عنادهم فی محاولات یائسة لإصلاح النظام الفاسد بأدوات النظام الفاسدة حتماً. من الممکن لحرکات الاحتجاج أن تفرض تغییرات تحد من هیمنة البنوک والشرکات العابرة للقارات، أو تکبح جماح الفساد والتهرب الضریبی، أو تأتی بالمزید من العدالة الاجتماعیة. لکن ذلک کله لا یمکنه أن یزیل المشکلة الأصلیة التی تنبع منها الأزمة. ففیما یتجاوز الأزمة المالیة والأزمات السیاسیة وغیرها من أزمات، فإن البشریة بأسرها ولیس الجائعون فی إفریقیا وغیرها، باتت مهددة بمسلسل من أزمات العوز فی مجالات الاحتیاجات الأساسیة على مستوى الحد الأدنى الضروری لبقائها البیولوجی. من المرعب حقاً أن نعلم بأن العالم یعج بما لا یحصى من الجمعیات والمراکز المتخصصة مثلاً بـ ''زراعة الشعر'' أو بـ ''تبییض الأسنان''، فی وقت ـ وهنا المفارقة ـ باتت فیه الأکثریة الساحقة من البشر المتحولین من سکان مدن،أی إلى بطالین عاطلین عن العمل الحقیقی المنتج للمواد الغذائیة ، فی قطیعة تامة مع زراعة الحبوب، وفی وضع لا تجد فیه شیئاً تمضغه بأسنانها الناصعة البیاض . فالنظام الرأسمالی محکوم بتراجع المبادىء التی یقوم علیها وتدمیرها ذاتیاً على المدى القریب . ألم یلجأ هذا النظام إلى ما یسمى ''الفوضى الخلاقة'' وإلى تراکم دیونه واعتماده على التسلیف کإحدى آلیات حراکه المصرفی، ألم تأت أزمة 2008 لتؤکد على تراجع مکانة النظام الرأسمالی وفشله فی إیجاد بدائل للخروج من دوامة الأزمات الاقتصادیة المتعاقبة فی الغرب. فأزمة التسلیف الاستهلاکی والقروض فی الولایات المتحدة تترافق مع نهایة امتصاص فائض الصادرات فی أنحاء العالم بدءاً من الصادرات الأمریکیة، لذلک کان لابد من انهیار هذا النظام الرأسمالی الجشع وهو ما تأکد الیوم وما یشهده العالم على أرض الواقع، إذ لم یعد هناک مجال للشک فی أن موت الرأسمالیة حتمی . لذلک سارعت الحکومات الغربیة ذات التوجه الرأسمالی إلى إتباع سیاسة تفتیت المجتمعات فی العالمین الثانی والثالث للهروب إلى الأمام عبر ممارساتها العسکریة وتدخلاتها السافرة فی دول الجنوب الغنی لسرقة ثروات تلک الأخیرة شاءت أم أبت ، إلى جانب افتعال أزمات وحروب إقلیمیة تستطیع أن تستفید منها لإعادة صیاغة شکل جدید للرأسمالیة بعد أن غدت تلک الأزمات حاجة ضروریة لإنعاش هذا النظام المتداعی مصرفیاً واقتصادیاً وتجاریاً. من السیاسات التی ستأخذ العالم کله رهینة، نظام اقتصادی جدید لا یعرف إلا الأخلاقیة الکونیة للمصالح الأحادیة لطرف واحد على حساب کل العالم الذی یتقهقر شیئا فشیئا! وهذا ما یراه المفکر الهندی فاندانیا شیفا لعالم الجنوب، فهو ینتقد النظریة الرأسمالیة الجدیدة التی تقول بأن التجارة الحرة تؤدی إلى ضمان الحریة فی المجال السیاسی وسواه، إذ یرى العکس هو الصحیح، ذلک أن التجارة الحرة هی التی تحرمنا من الحریة فی عالم الیوم، وستکون الخیبة والخسران من نصیب عالم الجنوب. فعالم الجنوب یتقهقر شیئاً فشیئاً بملایین البشر التی تعیش بلا أی إنتاج وبلا علاقات إنتاج . إنها أفواه لا تقبل إلا الاستهلاک مع ازدیاد المجاعات والمشکلات والأمراض. فمنطقة الشرق الأوسط، وهی أقرب منطقة إلى أوروبا جغرافیاً ، کانت ولم تزل تعانی من صدمات تاریخیة وحضاریة متنوعة، وهی الیوم ضمن مناطق صراع الجنوب إزاء الشمال. وتبدو مجتمعاتها تعیش هی الأخرى فوضى التناقضات وغیاب المستویات وتقلّص النخب وغیبوبة الإنتاج وتفاقم الصراعات. إنها تعیش فی عالم متغیرات غیر إیجابیة على الإطلاق وبفعل سیاسات وأجندة وإعلامیات وتربویات ، لا تخلق إلا الانقسامات وتبدد الإرادات وتعدد الولاءات لثقافات متوحشة وظواهر لم یکن لها وجود فی حیاتنا وأخلاقیاتنا سابقاً!. کل الحلول، بما فیها تلک التی یحدوها الحرص على مصالح الجنس البشری، تظل ساذجة بقدر ما هی بعیدة عن ملامسة جذور الأزمة بکل عمقها : الهوس البشری بتطویع الطبیعة على الطریقة الدیکارتیة، أو بشکل أکثر عمقاً عبر الانطلاق من تلک الاعتبارات القائلة بأن الله قد وهب الإنسان مطلق الحریة بالتصرف فی کل شیء . على هذا تکون الحاجة ماسة إلى نقد جذری للحضارة المبنیة على عظمة الصناعة، على المحرک المفترض فیه أن یکون خادماً للإنسان، والذی أصبح سیده المطلق الذی لا غناء ولا محید عنه، لا لشیء إلا لکونها تنتج الحرارة وتقرب الإنسان من اللهیب العالمی الکبیر. نقد یفترض به أن یفضی إلى تصور آخر للعالم وللإنسان، وإلى ممارسة إنسانیة حقاً. فالکاتب الألمانی روبر کورتز فی کتاب له نشر مؤخراً بعنوان: ''حیاة وموت الرأسمالیة... تاریخ أمة'' یطالب بتجاوز لیس فقط الرأسمالیة النیولیبرالیة التی تحاول إقامة أو إحیاء دولة معجزة لا وجود لها تعید توزیع ثمار التنمیة، إنما کذلک البحث عن تنمیة وإنتاجیة تلبی احتیاجات هذا النظام الرأسمالی المهترىء. ویدعو کورتز فی کتابه المجتمع الدولی للبحث عن المذنبین والمسؤولین عن تفعیل الأزمات والحروب الیوم بما فی ذلک (الربیع العربی). یقول: هؤلاء مروجو النموذج الاقتصادی الأتغلوساکسونی وصناع القرار فی الدوائر المصرفیة الکبرى فی العالم ، هم من یقف وراء تدمیر المجتمعات وسفک الدماء لتحقیق مکاسب تعود علیهم فقط بالثروات، لذلک یحث هذا السیاسی الألمانی المجتمع الدولی لإعادة اختراع اقتصاد جدید لتجاوز الصناعة الرأسمالیة التی جاءت بإنتاجیة متعطشة لتدمیر ذاتها سواء کانت استهلاکیة أو حربیة کبیع الأسلحة فهی السلع الأکثر رواجاً فی العصر الحدیث. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,099 |
||