الثورةالإسلامیةوالدورالتأریخی للإمام الخمینی فی تولید القوة الناعمة | ||
بمناسبة الذکرى السنویة للإنتصار الثورةالإسلامیةوالدورالتأریخی للإمام الخمینی فی تولید القوة الناعمة التأریخ وضروراته وقعت الثورة الإسلامیة فی مرحلة تأریخیة دفع فرد هالیدی إلى تسمیتها باللغز المتناقض ، ومیشیل فوکو بروح العالم المجرد من الروح وأمل العالم الیائس. (هالیدی 1985؛ فوکو 2000) وبالطبع هناک تعابیر کثیرة أخرى لکتاب وعلماء وساسة ومؤرخین ، تحکی عن عجائب الثورة الإسلامیة فی أبعادها المختلفة لا یسعنا التطرق إلیها فی هذا المقال. البلد الذی وقعت فیه الثورة الإسلامیة هو (إیران) التی کان تحکمها المملکة البهلویة؛ النظام الذی کان یمتلک کافة الأبعاد الوجودیة للقوة المادیة . کان آبراهامیان یقول : أن الجیش والقوات المسلحة، ومنظمة الأمن والمخابرات (السافاک)، والبلاط ، والنفط وعائداته ودعم أمیرکا والغرب، کل ذلک أوجد تصوراً لدى المعارضین للشاه فی الداخل والخارج خلاصته أنه لیس بالامکان هزیمة النظام البهلوی .. کان هناک متغیران مهدا لتفرد ودکتاتوریة الشاه وعدم مبالاته بهواجس الشعب هما: النفط وعائداته ، والدعم الأجنبی خاصة أمیرکا له. یشیر الکاتب الأمیرکی المعروف (کازیوروسکی) إلى تفرد ودکتاتوریة الشاه ثم یتحدث عن عنصری النفط والدعم الأمیرکی ویقول : إن الشاه واصل برامجه وسیاساته دون الإلتفات إلى هواجس ومتطلبات الشعب والقوى والشرائح الإجتماعیة المختلفة معتبراً نفسه فوق الجمیع . ومن زاویة أخرى، ورغم أن قمع المعارضین لاسیما بعد عام 1953 عدّ من استراتیجیات نظام الشاه ، إلا أن البلاد کانت على مستوى عال من التبعیة لأمیرکا. (کازیوروسکی) وصف العلاقات الإیرانیة الأمیرکیة آنذاک بأنها غیر سلیمة وغیر متداولة أو تابعة. ثم عدد الأبعاد المختلفة للتبعیة وقال بکل صراحة: “ تعد العلاقة بین إیران وأمیرکا فی ذلک الوقت من أبرز مصادیق التسلط والتبعیة” . (1992. ص 346) عموماً طغت فی ذلک الوقت على إیران وسائر العالم الإسلامی روح الغفلة والإستسلام والنزعة الغربیة والتغرب، فیما تلاشت معالم الدین والمعنویة من العالم وخاصة فی إیران. وحسب منطق الشهید مطهری فإن أزمة المعنویة هی أکبر أزمات العالم المعاصر. (المطهری. 1993) اعتمد نظام الشاه الملکی فی سیاسته مبدأ تهمیش الإسلام وإضعاف المؤسسات المختلفة المرتبطة به کعربون لتعزیز العلاقات السیاسیة والتبعیة لأمیرکا والصهیونیة وتقویة أرکان نظامه . إن تأکید الشاه على النزعة الغربیة وسوق الناس باتجاه التغرب وإقامة المراسم الخاصة بالتأریخ القدیم ، جاء فی إطار إضعاف العقائد والتعالیم الاخلاقیة والمؤسسات الدینیة، بل وسعى إلى تغییر التأریخ الهجری الشمسی وإستبداله بالتأریخ االشاهنشاهی. و فی ضوء ذلک کانت النتیجة الوضعیة والطبیعیة لمثل هذه الشروط الزمکانیة ، سیادة روح الرکود والجمود على إیران والعالم الإسلامی والعالم الثالث ، حیث بدت الأمور وکأن إمکانیة التغییر والتحول فی ذلک الحین قاربت الصفر. فی الواقع أن القوى السلطویة عملت من خلال الظروف السائدة حینها ، على فرض نظام تسلطی علمانی لا یقبل التغییر من النواحی الثقافیة والسیاسیة والعسکریة. ولعل جملة “آندریه مالرو” التی یقول فیها: “رأیت منطقة الشرق کشیخ عربی قد غفا على ظهر حماره یحلم بالإسلام” (1986. ص 21) تعکس حقیقة هذا الوضع وهذه الحالة. فی مثل هذه الظروف الزمانیة و المکانیة دخل الإمام الخمینی “قدس سره” إلى میدان الجهاد السیاسی. ففی الوقت الذی اعتبر فیه الذین یتمظهرون بالتدین جهاد الإمام فی هذه الظروف بمثابة الضرب بالید على السندان، إستطاع سماحته عبر بناء نفسه والتحلی بروح العمل بالتکلیف والإعتقاد بالله تعالى والثقة بالنفس واعتقاد الناس به ،أن یقوض صروح النظام الملکی الممتدة لألفین وخمسمائة عام وینهی سیطرة القوى السلطویة لاسیما أمیرکا والصهیونیة من إیران، ویصبح مصدر إلهام وأمل لتحرر المسلمین والمستضعفین فی العالم من قیود العبودیة للسلطویین الدولیین . إن ما یثیر الدهشة هو کیف استطاع رجل کبیر فی السن وخالی الیدین أن یقوض أسس القوة لأعتى نظام فی الشرق الأوسط، ویتحدى حتى السلطویین الدولیین ویرسی دعائم صرح لازال رغم مرور أکثر من ثلاثة عقود على انتصار الثورة الإسلامیة، یتسامى ویتجدد ویواصل أهدافه الإلهیة السامیة ویتجاوز کافة العقبات ویحبط کل المؤامرات التی تحیکها القوى الشیطانیة. وهنا لابد من التذکیر بأن أنواع الحظر الإقتصادی والتسلیحی والنفطی، والإنقلابات، والتدخلات من أجل المطالبة بالإنفصال، وفرض الحرب، والمحاولات المحمومة للعدو لعزل إیران سیاسیاً... الخ ، ما هی إلا عناوین لمؤامرات قادة السلطویة العالمیة ضد الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة. وعلى الرغم من عدم إمکانیة مقارنة المقومات المادیة لقدرة إیران الإسلام لاسیما فی الأبعاد الإقتصادیة والعسکریة مع المقومات المادیة للسلطویین الدولیین خاصة أمیرکا والغرب عموماً ، إلا أن عظمة وعمق القدرة الناعمة التی أوجدها الإمام الخمینی “قدس سره” وأبعادها الواسعة فی إیران والمنطقة والعالم ، کانت من القوة واالبلوغ ما جعل أعداء الثورة وأعداء نظام الجمهوریة الإسلامیة لایزالون وبعد مضی أکثر من ثلاثة عقود على انتصارها فی موقف منفعل. إن ما نراه الیوم من استمرار لعجلة الثورة الإسلامیة وسموها فی إیران والعالم ، یعکس فی الواقع أبعاد القدرة الناعمة التی ابتکرها سماحة الإمام “قدس سره”. ینبغی القول هنا وبکل قاطعیة أن ماهیة وأهداف وأصل القوة الناعمة المبتکرة على ید الإمام الخمینی والإنقلاب الإسلامی تختلف عن نوع القوة الناعمة الغربیة؛ الأمر الذی میّز الثورة الإسلامیة حتى عن الثورات الکبرى فی العالم. بعبارة أخرى إن الروح الحاکمة للثورة الإسلامیة التی هی روح دینیة ومعتقدة بالله تعالى، تختلف تماماً عن أنظمة سیاسیة وحتى ثورات انبثقت عن روح المادیة والعلمانیة الحداثویة. لذا فإن أصل القوة والقدرة الناعمة وماهیتها متباینة عن النوع الغربی . و نظراً لأن مبدأ القوة الناعمة والأبعاد المعرفیة وعلم الوجود والإنتروبولوجی لدى الغرب ، یختلف تماماً عما هو فی الإسلام والرؤى القیادیة للإمام الخمینی “قدس سره”، لذا سنحاول فی هذا المقال دراسة القوة الناعمة وأبعادها وماهیتها ومصادرها فی الثورة الإسلامیة . الإمام الخمینی وإعادة تولیدالقوة الناعمة مع أن المنظومة الفکریة للإمام الخمینی قائمة على جوانب نظریة مع أصل التعالیم الدینیة، لکن بعض العناصر المحوریة لهذه المنظومة لعبت دوراًمحوریاً فی المراحل الثلاث (اسقاط النظام البهلوی، و تأسیس واستمرار الثورة الإسلامیة) فی تولید القوة الناعمة. لقد کان تهذیب الإمام لنفسه، وإلمامه بظروف زمانه، وتدبیره، وشجاعته التی قل نظیرها، والتوکل على الله، والثقة بالنفس، والثقة بالناس بالإضافة إلى شعوره وعمله بالتکلیف...الخ من أبعاد هذه المنظومة التی مهدت لبلورة القوة الناعمة للثورة الإسلامیة. فالخصال البارزة لشخصیة الإمام “قدس سره” خلقت له نوعاً من الجاذبیة العالیة بین عامة الناس وحتى النخب الفکریة والعلمیة دفعت الکثیرمن الکتاب الغربیین وحتى الأمیرکیین إلى ذکره بکل احترام وتقدیر. ولعل أجمل ما قیل فی هذا الباب، ما عبّر عنه یرواند آبراهامیان من أن الإمام الخمینی مظهر سجایا الإمام علی “علیه السلام” (الشجاعة، الصلاح والذکاء السیاسی). ومع أن الخصال الشخصیة للإمام کانت سبباً فی جذب شرائح فکریة مختلفة من المسلمین وغیرهم فی إیران والعالم، إلا أنه استطاع بواسطة عناصره الفکریة الخاصة تولید قدرة ثقافیة مستقرة تبعث على العز، وفی جملة واحدة قوة ناعمة لازالت آثارها ومعالمها بحیث أنه و رغم مرور ثلاثة عقود على انتصار الثورة الإسلامیة لازالت تتسم بنبض الحیاة والتجدد والقوة على الأصعدة الوطنیة والإقلیمیة والعالمیة. تنضوی المنظومة الفکریة للإمام الخمینی على عناصر متعددة، والتی من آثارها الوضعیة تولید القوة الناعمة حیث تفوق وبدرجات القوةالناعمة للسلطویین الدولیین . هذه القوة التی لو تم استثمارها بصورة صحیحة لمهدت للتوسعة والحضارة الإسلامیة وفتحت آفاقاً مشرقة للعالم الإسلامی. و فیما یلی نشیر إلى بعض مکونات ومصادر أو آلیات تولید القوة الناعمة لدى الإمام الخمینی “قدس سره”: ضرورةامتلاک القوة فینظرالإمام رغم أن طلب القدرة واستغلالها مذموم فی الإسلام والتعالیم الدینیة، و أننا لا نجد فی السیرة العملیة للإمام الخمینی سوى روح العمل بالتکلیف دون العثور على أثر لطلب الجاه والقدرة ، إلا أن النقطة الملفتة للنظر هی أن الإمام بیّن فی جملة رائعة الموقف من کسب القدرة بمفهومها الخاص باعتبارها هدفاً قیماً: “أعلن بصراحة أن الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة ترمی بکل ثقلها من أجل إحیاء الهویة الإسلامیة للمسلمین فی مختلف أنحاء العالم. لیس هناک أی دلیل یمنع مسلمی العالم وانطلاقاً من مبادئهم من الدعوة للحصول على القوة فی العالم والوقوف بوجه طلب الجاه والتوسع لأصحاب القدرة والمال. علینا التخطیط لتحقیق أهداف ومصالح الشعب الفقیر. . علینا أن نسعى بکل ما أوتینا من قوة لحل مشاکل شعوب العالم وقضایا المسلمین ودعم المجاهدین والجیاع والضعفاء، ونعتبر ذلک جزءاً من مبادئ سیاستها الخارجیة. إننا نعلن أن الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة ستبقى دوماً حامیاً وملاذاً للمسلمین الأحرار فی العالم، وأن إیران بصفتها قلعة عسکریة منیعة ، ستوفر احتیاجات جنود الإسلام ومستعدة لتربیتهم وتعلیمهم الأسس العقائدیة والتربویة الإسلامیة وأصول وأسالیب الجهاد ضد الکفر والشرک”. (صحیفة الإمام. ج21 ، ص 91) إن رؤیة الإمام بشأن القوة تختلف تماماً من حیث الماهیة والأسلوب وآلیة الحصول علیها، عن الرؤى الشائعة للقوة فی العالم. کان الإمام ینظر للقوة بصفتها وسیلة لا غایة، وسیلة یمکن بواسطتها تفعیل القیم الدینیة السامیة کالسعادة والکرامة الإنسانیة والهدایة وإقامة العدل والقسط، أو فلنقل تنفیذ الحدود الإلهیة. عنصرالتوعیةوالصحوة یشکل عنصر التوعیة الذی یعد واحداً من أهم بنود رسالة أنبیاء الله تعالى والمعصومین “علیهم السلام” الرامیة إلى توفیر السعادة الدنیویة والأخرویة للناس ، والذی تضمنته السیرة العملیة للإمام الخمینی ، مقدمة لتبلور فکرة الإمام وحرکة المسلمین المحرومین والمستضعفین والتی ساعدت فی إعادة إحیاء أبعاد من القوة الناعمة. إن سماحة الإمام الذی أرجع تخلف الشعوب والمسلمین إلى الغفلة واللاأبالیة والتغرب من جهة ، وإلى دور الأجانب والعوامل الداخلیة من جهة أخرى، صب جلّ اهتمامه على التوعیة والإلهام وحرکة الشعوب: “علینا من الآن فصاعداً أن نجد فی الحفاظ على مستوى الوعی الذی بلغه شعبنا، لقد بقینا ندفع ثمن عواقب الغفلة لمدة ثلاثمائة عام”. النقطة الأخرى هی أن الإمام اعتبر الصحوة الخطوة الأولى فی الخروج من التبعیة وسلطة القوى العظمى وتقریر المصیر. إن عنصر الصحوة بصفته مرکز الإلهام والحرکة أوجد فی الواقع قوة فی المنطقة والعالم تحدّت الأنظمة السلطویة المفروضة ، بل وحتى السیطرة الأجنبیة. یقول الإمام الخمینی: “الصحوة هی الخطوة الأولى.. الخطوة الأولى هی الیقظة. الیقظة هی الخطوة الأولى فی المسیر العرفانی. الصحوة هی الخطوة الأولى وقد فاقت البلدان الإسلامیة والشعوب المسلمة والشعوب المستضعفة فی أنحاء العالم من غفلتها وصار الأمیرکیون یتلقون عصا یقظة هذه الشعوب التی ستنتصر بإذنه تعالى”. (صحیفة الإمام. ج12. ص 382) إن النتیجة الوضعیة لیقظة وصحوة الشعب الإیرانی التی تعد ثمرة مساع الإمام الوعیة والطویلة الأمد ابتداءً من دخوله الحیاة السیاسیة عام (1962) حتى انتصار الثورة الإسلامیة (1979)، هی التمهید لبروز أزمة الشرعیة بالنسبة للنظام البهلوی . ففی ظل صحوة ووعی الشعب الإیرانی إزاء السیاسات اللامشروعة والإستبداد الداخلی والإستعمار الخارجی، رأى الشعب نفسه محقاً فی تقویض دعائم النظام المفروض والمتحکم بإیران حینها، فهب إلى إعلان رفضه للحکم الملکی ومقارعته للإمبریالیة الأمیرکیة والصهیونیة العالمیة. وفی الحقیقة أن الغلیان والهبّة الشعبیة ضد الإنحرافات التی کانت موجودة ، ترجع جذورها إلى صحوة أفراد الشعب واستیعابهم لقضایا کان الإمام الخمینی یبینها بشکل رسمی منذ عقد ونیّف تقریباً. و مما یذکر فی هذا الصدد أن یرواند آبراهامیان حدد المحاور التی انتقدها الإمام الخمینی بشأن عمل النظام الملکی وهی ذاتها التی کانت وراء حراک القوى المعارضة للشاه ، بما یلی : “الإمتیازات التی منحت للغرب، والإرتباط الخفی وغیر المباشر مع إسرائیل، و تکالیف التسلح غیر المجدی، و الفساد الشائع بین کبار رجالات الدولة، والرکود والفوضى فی القطاع الزراعی ،و إرتفاع تکالیف المعیشة و أزمة السکن والتزاید المطرد لأحیاء الصفیح، و التباین الطبقی الفاحش بین الفقراء والأثریاء، وقمع الصحف والأحزاب السیاسیة،وإیجاد دولة بلاط کبیرة وتجاهل الدستور”. (1998. ص 656) وفضلاً عن ذلک ، فقد أثار الإمام علامات استفهام من الناحیة النظریة حول شرعیة الملکیة البهلویة، وذکر فی کتاب ( الحکومة الإسلامیة ) نقلاً عن الرسول الأکرم (ص) أن السلطنة والملوک أکثر الکلمات مقتاً لدى الرسول الأکرم (ص). هذه الرؤیة المتفتحة والتوعویة اتجاه سلطة القوى الشیطانیة والصهیونیة الدولیة ظلت متواصلة طوال حیاة سماحته بل واتسعت. و أن الإصطلاحین المعروفین : “الشیطان الأکبر” و”أم الفساد فی القرن العشرین” وعشرات العناوین الأخرى المعادیة للإمبریالیة والصهیونیة العالمیة، لم تؤد فقط إلى تشویه صورة القوى الشیطانیة لدى الشعب الإیرانی وباقی الشعوب المسلمة والعالم الثالث ، بل خلقت أزمة لشرعیتها وتسلطها على الدول الأخرى، وأعان ذلک على تحقق إعادة تولید القدرة بین المظلومین وفقراء العالم المسلمین منهم وغیر المسلمین.و إن تأکید الإمام على دعم المظلومین والفقراء ، ومقارعة الإستکبار العالمی وتحطیم هیمنته عبر عبارات جمیلة من قبیل : “أمیرکا لا تستطیع أن ترتکب أیة حماقة” و”نحن نسحق أمیرکا بأقدامنا”... الخ قاد إلى تحطیم حیثیة وسلطة الناهبین الدولیین من جهة ، وبث الأمل والتحرک والإنسجام والإتحاد والقوة الناعمة لدى الطرف المقابل من جهة أخرى. الإستفادة من الإسلام وتعالیم الدین شکلت تعالیم الدین أهم منطلقات تولید القوة الناعمة فی الثورة الإسلامیة (إذ یمکن مشاهدة نموذجها فی التعبئة السیاسیة الموحدة لعامة الناس والطبقات الإجتماعیة المختلفة)، حیث أحسن استثمارها بفضل المبادرات الخاصة وحنکة الإمام بصفته محرک الثورة. وکما هو معروف فإن الروح السائدة فی رؤى وتعالیم الإسلام هی الروح الجماعیة التی تنضوی فی ذاتها على معنى الوحدة والإنسجام بین المسلمین. على الصعید النظری، وبالرغم من التأکیدات الکثیرة على الوحدة والتمسک بحبل الله “واعتصموا بحبل الله جمیعاً ولا تفرّقوا” بصفته عامل عز المسلمین، لکنه وبالتأثر بالأفکار الغربیة والعلمانیة والمادیة الأجنبیة وعناصر الإستبداد التابعة زالت الروح الجماعیة والتعاون والإتحاد الإسلامی للمسلمین سواءً على الصعید المحلی والوطنی أم على الصعید العالمی. فی الواقع أن التعمد فی إشاعة وتجذیر الأفکار العلمانیة بواسطة عملاء الغرب وأذنابهم فی الداخل، کان یستهدف قلع جذور العقائد والقیم السائدة. إن تسید روح التفرد والنزعة الفردیة السلبیة، أو حسب تعبیر آبراهامیان انعدام التفاهم حتى بین شخصین ولو من أجل الحصول على النقود من شخص ثالث فی إیران، یعکس شیوع روح الفرقة وتزعزع الروح الجماعیة المجتمع الإیرانی حتى أوخر عقد السبعینات من القرن الماضی. أما الدول الإسلامیة والعالم الثالث فهی الأخرى ظلت حتى أواخر القرن العشرین وبعضها حتى یومنا هذا لا تحظى بوضع أفضل مما کانت علیه إیران فی تلک المرحلة. إن انتصار الثورة الإسلامیة مثل بدایة النهایة لحاکمیة الجمود والرکود والتراخی والفرقة فی إیران والعالم الإسلامی. ولقد کان الإسلام والتعالیم الدینیة أهم عوامل توحید الصف فی إیران ومن ثم لدى الشعوب المسلمة فی المنطقة.. یشیر هاینس جفری فی کتاب “الدین، القدرة الناعمة والعلاقات الدولیة” إلى انهیار نظام الشاه ویقارن بین الثورة الإیرانیة وثورات بعض دول المنطقة کمصر والعراق وسوریا بالإضافة إلى الصین فیؤکد أن الثورة الإیرانیة هی أول ثورة مکتوبة، التفوق الإیدیولوجی فیها والنمطیة المؤسساتیة وإرشاد الناس والأهداف المعلنة، کل ذلک دینی؛ قیل إن مبادءها مستمدة من القرآن (الکریم) والسنة (الشریفة). (جفری.2009) فی ظل التعالیم الإسلامیة المفعمة بروح الوحدة وقیادة الإما الخمینی “قدس سره”، تراجعت النزعة الفردیة السلبیة فی إیران لتحل محلها التعبئة السیاسیة الموحّدة والروح الجماعیة. وفی الحقیقة لا یمکن مقارنة الروح الجماعیة المنبثقة من الأفکار الإسلامیة للثورة مع باقی الثورات بما فیها الثورات الکبرى فی العالم. کثیر من الکتاب الغربیین اعتبروا أن الثورات الکبرى مثل الثورة الفرنسیة الکبرى عام 1789، وثورة أکتوبر الروسیة عام 1917 والثورة الثقافیة فی الصین 1949 و.. شهدت انتفاضة طبقة ضد الطبقة الحاکمة. لکن الثورة الإسلامیة لما تمیزت به من شمولیة واتساع الأفکار الإسلامیة ، شملت انتفاضة کافة طبقات الشعب ضد النظام البهلوی. ولعل ذلک من السمات المدهشة للثورة الإسلامیة، الأمر الذی دفع الآخرین لتسمیتها بالثورة الجماهیریة. لقد اعتبر میشیل فوکو الذی زار إیران مرتین ورأى بعینه وقائع من الثورة الإسلامیة الإیرانیة ، أن الروح الجماهیریة تجسدت فقط فی الثورة الإسلامیة الإیرانیة. لم یتم حتى الآن مشاهدة الإرادة الجماعیة، وکنت أتصور أن الإرادة الجماعیة لا یمکن مشاهدتها مثلما لا یمکن رؤیة الله. لا أدری إن کنتم تشاطروننی الرأی أم لا، لقد شاهدنا فی طهران وفی سائر مناطق إیران الإرادة الجماعیة للشعب. إنه أمر یستحق التقدیر. إنه لیس بالأمر الذی یمکن مشاهدته کل یوم. هذه الإرادة الجماعیة التی تأخذ طابعاً عاماً فی نظریاتنا؛ وجدت فی إیران شکلاً معیناً وثابتاً وواضحاً فدخلت التأریخ بصورة مفاجئة. الامر الآخر هو أن مفاهیم التحلی بروح المسؤولیة والإیثار والجهاد والشهادة التی استلهمها الإمام الخمینی من الثورة الحسینیة وأحیا ذکراها فی نفوس الشعب الإیرانی ، لم تقتصر على المراحل الأولى للثورة الإسلامیة بل تجلت بوضوح فی الوقوف بوجه السلطویین الدولیین خلال العقود الثلاثة الماضیة لاسیما فی مرحلة الحرب المفروضة. إن الحرب العراقیة المفروضة على إیران ودعم الشرق والغرب والحکومات الرجعیة فی المنطقة للنظام البعثی العراقی ، هی الحرب الوحیدة التی شهدتها الأعوام المائة الماضیة واستطاعت فیها إیران من استثمار روح الجهاد والشهادة وتحقیق النصر ودحر نظام البعث العراقی وتحطیم آلته الحربیة مع کل ما حظی به من دعم عسکری وسیاسی من الغرب والشرق. و قد اعتبرجیمز بیل تحطم الآلة الحربیة العراقیة مع کل ما شهدته من دعم عسکری وسیاسی غربی وشرقی ، نتیجة التأثر بروح الجهاد والشهادة المکنونة لدى الشیعة. (بیل. 1989) . لقد مثل الدین خلال العقود الثلاثة الماضیة أهم مرکز لغلیان القوة الناعمة وذلک من خلال خلق روح التضامن والوحدة فی بلدنا. إن الإمام الخمینی کان یعزو انتصار الثورة ووحدة وتآلف الشعب، وتغییر مسیر تأریخ البشریة، والتغلب على الدبابة والمدفع، و على القوى الشیطانیة، إلى التأثر بالإسلام ، فیما تکمن الهزیمة فی تجاهل الاسلام وقیمه السامیة. و أن بعض جملاته تعکس أهمیة ومکانة الإسلام السامیة فی إعادة تولید القوة والحفاظ على النظام الإسلامی والقیم الإسلامیة الرفیعة . و تکشف السیرة العملیة للإمام الخمینی “قدس سره” خلال مراحل ما قبل وبعد الثورة الإسلامیة وتقویض دعائم النظام الملکی وکذلک تأسیس ودیمومة نظام الجمهوریة الإسلامیة، عن المدخلیة الکبیرة للدین ومحوریة الله تعالى والصبغة الإسلامیة فی کل حرکاته وقراراته. لقد أکد مراراً: علینا أن نفدی الإسلام ونحفظ وجوده. ذلک أنه اعتبر استمرار ودیمومة الثورة الإسلامیة والجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة مکنونان فی مفهومین مترابطین بشدة هما “وحدة الکلمة” و”الإتکاء على الإسلام”، وقد شدد دوماً على أن بلدنا لن یتضرر أبداً طالما ظلت “وحدة الکلمة” و”الإتکاء على الله” قائمین. زرع روح الثقة بالنفس لدى الشعوب رغم أن الدین الإسلامی الحنیف منح المؤمنین والمسلمین العزة “ولله العزة ولرسوله وللمؤمنین” ومنعهم من الرکون إلى سلطة الکفار باعتبار أن ذلک سیسوقهم إلى التخاذل والإنهزامیة “لن یجعل الله للکافرین على المؤمنین سبیلاً” (سورة النساء. الآیة 141) لکن الإستعمار والإستبداد الداخلی عمل على سلب مجتمعات العالم الإسلامی والعالم الثالث عامل الثقة بالنفس الذی یعد أهم عناصر بناء هویتها الثقافیة وذلک عبر أسالیب النفوذ والسیطرة الثقافیة والقمع على مدى سنوات متوالیة. بالطبع هناک آیات وروایات کثیرة فی تکریم وتعظیم المسلمین والمؤمنین غیر أن المساعی المحمومة والمتعمدة للإستعمار والإستبداد لم تبق فرصة لظهور الهویة التأریخیة للمسلمین خلال القرون الأخیرة. وفی الحقیقة تحولت روح التخاذل والتبعیة على مدى قرون إلى السمة الثانیة للمسلمین بسبب الضغط والقمع والمحاولات الثقافیة الإستعماریة والإستبدادیة. استطاع الإمام الخمینی بفضل وعیه لکُنه السیاسات الإستعماریة والإستبدادیة من جهة ، وفهمه العمیق لتعالیم الدین من جهة أخرى ، أن یحیی عنصر بناء الهویة المتمثل بالثقة بالنفس لدى الشعب الإیرانی وباقی الشعوب المسلمة وشعوب العالم الثالث. إحیاءروح الجهادوالشهادة یعد الجهاد والشهادة عنصرین صانعین لتأریخ الإسلام ومصیریین فی الحیاة الإجتماعیة للمسلمین. بل إن لنفوذهما فی الحیاة السیاسیة – الإجتماعیة للمسلمین دوراً بارزاً فی الهویة الدینیة والثقافیة والمحلیة للمسلمین، حتى أن تجاهلهما وکما أوضح أمیر المؤمنین “علیه السلام”، موجب لذلتهم وعجزهم. إن الإمام الخمینی الذی کان سباقاً للجهاد والشهادة ، إستطاع بإحیائه لهذین العنصرین أن یلهم ویحفز الشعوب على التصدی للإستبداد والإستعمار. وکما هو معروف فإن الجهاد والشهادة إثنان من مجموعة عناصر لا ترى إلا فی هویة المسلمین ومنظومتهم الفکریة، العناصر التی تعد بالنسبة للثقافة والحضارة الإسلامیتین من مکونات هویة المسلمین وتمهد لثقتهم بأنفسهم ، ورعب وذلة أعداء الإسلام. هذان العنصران لم یکونا مؤثرین فقط فی انتصار الثورة الإسلامیة ، بل مارسا دوراً خلاقاً فی الحفاظ على الثورة الإسلامیة دیمومتها، خاصة اثناء الحرب العراقیة غیر المتکافئة االتی فرضت على إیران . یقول “جیمز بیل” الخبیر الأمیرکی المعروف بشؤون إیران یتحدث عن دور الجهاد والشهادة فی هذه الحرب فیقول: “إن أساس الروحیة العالیة التی کانت بمثابة السند للتدابیر الحربیة الإیرانیة مکنونة فی مفهومی الجهاد والشهادة، وذا الأمر یدرکه کل مسلم معتقد.. إن الرؤیة العقائدیة للإسلام التی یشکل مفهوما الجهاد والشهادة أساسها، لها تأثیر کبیر على روحیة وحیویة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة. هذه الرؤیة العقائدیة تخلق نماذج قویة من عدم الخوف والشهادة التی تعد أمراً حیویاً فی ساحة الحرب”. (1989. ص 420-423) کاتب آخر یدعى “بیر بلانشه” أشار إلى الدور المبدع والتأریخی للشهادة فی انتصار الثورة الإسلامیة وقال: “إن الشعب الإیرانی تخلص من شر الشاه بصرخات الشهید، الشهید.. هذه الحادثة تعد مدهشة وفریدة من نوعها ولا سابقة لها على مر التأریخ”. (1979. ص 35) | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,146 |
||