محمد باقر الصدر معالم لمشروع النهضة والهویة | ||
محمد باقر الصدر معالم لمشروع النهضة والهویة حیدر حب الله الفکر الإسلامی المعاصر بین سؤال النهضة والهویة سؤال النهضة هو السؤال الذی شغل المفکّرین المسلمین منذ أواسط القرن التاسع عشر المیلادی، لیدفعهم للتفکیر فی النهوض بالأمّة الإسلامیة بعد تراجعها المرّ على المستویات الحضاریة والفکریة وغیرها. أما سؤال الهویة، فهو السؤال الذی عاد إلى الواجهة وبقوّة منذ الستینیات والسبعینیات لیبدی لنا الأمة مأزومةً قلقة فی وضع لا تحسد علیه. فی سؤال النهضة أمارس النقد للذات، أمارس التفتیش عن أسباب التراجع والتقهقر، أمارس الطروحات الجدیدة غیر المکرورة؛ لأن المکرورة لو کانت مفیدةً الیوم بوضعها الحالی لما کنّا على الحال التی نحن علیها. أما فی سؤال الهویة، فأنا أخاف على نفسی، وأنتقد غیری الذی أحمّله مسؤولیة ما یحصل فی الواقع الإسلامی الکبیر. السید الشهید محمّد باقر الصدر جاءت أعماله کلّها للجواب عن هذین السؤالین؛ فقسم من أعماله یمکننا أن نحسبه على سؤال النهضة، أی هو محاولات نقدیة فی الداخل الإسلامی ووضع حلول للمشاکل الموجودة فی تفکیرنا، وفی واقعنا فی حیاتنا الاجتماعیة والسیاسیة، وفی رؤانا وقراءتنا. أما القسم الآخر من جهوده ومحاولاته فکان بهدف الحفاظ على الهویة والدفاع عنها أمام المخاطر القادمة من الخارج. ولکی نصف أعمال السید الصدر، نجده فی بعض أعماله منشغلاً بهمّ الهویة، وفی بعضها الآخر منکباً على همّ النهضة وقیامة الأمة الإسلامیة، وأکبر مشکلة یعانی منها المفکّر المسلم تکمن فی قدرته على التوفیق بین همّ الهویة وهمّ النهضة، لماذا؟ لأنه فی همّ النهضة یغلب علینا نقد ذواتنا وتحمیل أنفسنا المسؤولیة، فنردّد دوماً: نحن تخلّفنا، نحن تراجعنا، نحن نعانی من خطأ ما فی تفکیرنا وفی عقلنا الجمعی. أما فی همّ الهویة فنتّجه إلى الخارج، أنا أدافع، أضع مربّعاً وأضع هویتی داخل هذا المربع، هویتی الحضاریة والإسلامیة والمذهبیة، أو على تیارات أُخرى هویتی القومیة وغیر ذلک. أنا أقف داخل المربّع وعلى أطرافه وأقوم بالاشتباک مع الأحداث التی تقع. هنا یکمن السؤال التالی: کیف یستطیع المفکّر المسلم من جهة أن ینتقد واقعه الداخلی وینتقد نفسه ویملک جرأة ذلک ویحلّ هذه المشکلات الموجودة، وفی الوقت عینه یدافع عن هذا الواقع أمام الآخرین، أمام الغرباء، أمام الغزو الثقافی، أمام العولمة، أمام المشکلات التی تأتیه من خارج المناخ الجغرافی والاجتماعی الذی یعیشه. إنّ قدرة المفکّر المسلم على التوازن هنا هی عنصر النجاح فی هذا الموضوع؛ فنحن وجدنا أشخاصاً أفرطوا فی انتقاد واقعهم الداخلی حتى ذهبوا إلى الاتجاهات الغربیة، وصاروا یتنکّرون لمجتمعهم الإسلامی من شدّة إفراطهم فی نقد هذا الواقع، لقد صاروا غرباء عن واقعهم، وصار طابعهم العام انتقاد الحالة الإسلامیة والعربیة والقومیة والاجتماعیة الموجودة فی داخلنا، وتنزیه الآخر عن أیّ مشکل. من جهة أُخرى، نجد بعضنا ینزّه نفسه عن أیّ معضل ویحیل مشاکلنا الداخلیة على الخارج، فکل مشاکلنا عنده هی من الغرب، أما نحن فلا نعانی من أیّة مشکلة، ومن ثم لا یجب علینا إعادة النظر فی أیّ شیء من قضایانا الداخلیة: الفکریة والاجتماعیة والثقافیة وغیرها. إنّ القدرة على الجمع بین هذین الهمّین هو عنصر نجاح المفکّر المسلم، وأعتقد أن السید محمّد باقر الصدر نجح فی الجمع المذکور إلى حدّ جید، فلم یفرط فی الدفاع، ولا استغرق فی النقد، بل جمع بینهما واستطاع أن یحلّ بعض المشکلات الموجودة ضمن وضعنا الداخلی، وبعض الإشکالیات الموجودة على مستوى الدفاع عن هذا الوضع. ولکی أفهرس أبرز معالم النهضة والهویة عند السید الشهید الصدر على مستوى هذین الخطّین، أستطیع أن أذکر سبع خصائص فکریة تتمیز بها مدرسته، قسم من هذه الخصائص یعود إلى الجواب عن سؤال النهضة، وقسم آخر منها یعود إلى الجواب عن سؤال الهویة، قسم منه نقدی، وقسم آخر منه دفاعی. 1ــ البُعد المنهجی، إعادة تکوین منهاجیات التفکیر البُعد المنهجی أو منهاجیة التفکیر، قضیة خضعت لتطوّر فکری فی حیاة السید الصدر، فقد اعتقد الصدر أن طریقة تفکیرنا فی معالجة الأُمور تعانی من مشکلة المنهج الفکری نفسه، وعلینا أن نصلح هذه المشکلة ونسدّ هذه الثغرة، السید الصدر لم یقل: إنّ هذا المنهج الفکری الذی نحمله خاطئ بأکمله، إلا أنه اعتقد بأنّ فیه بعض الثغرات الخاطئة وعلینا أن نسدّها، لقد اعتقد أنّ المنطق الأرسطی لا یستطیع أن یجیب عن کلّ مشاکلنا الیوم، وربما إعمال المنطق الأرسطی فی الدراسات الإنسانیة وفی العلوم الاجتماعیة یصیب هذه العلوم نفسها ببعض المشاکل، لقد اعتقد الصدر بأن المنطق الأرسطی أو الفلسفة العقلیة الصرفة غیر قادرة على أن تحفظ لنا هویتنا، وغیر قادرة على أن تسدّ الثغرات الموجودة فی واقعنا؛ فاتجه لإعادة النظر فی المنهج الفکری الذی نتّبعه، فلم یعارض المنطق الأرسطی ـ خلافاً لما یتصوّره بعضنا من أنه ضدّ المنطق الأرسطی، فهذا الکلام غیر صحیح ـ وإنما اعتقد بأنّ بالإمکان أن نؤسّس مزدوجاً منطقیاً، أی أن نستفید من أکثر من منهج منطقی فی دراستنا الإسلامیة، وأن لا نبقی هذه الدراسات حکراً على منهج منطقی واحد، فإذا نوّعنا المناهج المنطقیة ومناهج التفکیر فی الدراسات الإسلامیة والدینیة فإنّنا سوف نحصل على ثروة إضافیة، وستتراکم أمامنا المزید من المعلومات والمکتشفات؛ من هنا، اتجه الشهید الصدر إلى البحث عن منطق الاستقراء وحساب الاحتمال، للکشف عن آلیات جدیدة لدراسة علومنا الإسلامیة. لا أرید هنا أن أبحث فی کلّ نظریة من نظریاته؛ لکن باختصار نشیر إلى أنّ الصدر طبّق منطق الاحتمال ومنهم الاستقراء فی علم الکلام فی کتاب «موجز أُصول الدین»، وکذلک فی الاستدلال على وجود الله تبارک وتعالى کما سوف نرى، وطبّقه أیضاً فی أُصول الفقه؛ فی الإجماع والشهرة، کما نشّطه فی علم الرجال والحدیث لدى دراسته شخصیة بعض الرواة الذین قیل بأنهم لا یروون ولا یرسلون إلا عن ثقة. لقد استخدم الصدر منطقاً جدیداً فقدّم لنا ثراءً جدیداً فی نظامنا المعرفی، فلم یقل بأنّ المنطق الأرسطی غیر قادر على أن یقدّم لنا الخیرات فی المجال الفکری، لکنّه اعتقد أنّ بإمکاننا أن ننوّع مناهجنا المنطقیة؛ فأیّ مشکلة فی أن یکون عندنا أکثر من منهج منطقی؟! أیّ مشکلة فی أن تستفید دراستنا الإسلامیة من أکثر من عُدّة معرفیّة؟! لا توجد مشکلة إطلاقاً، بل تجربة السید الصدر أثبتت أنّ بإمکاننا خدمة الدین وسدّ الکثیر من الثغرات عبر هذا التنوّع المنهجی. إذن، أوّل قضیة عالجها السید الشهید هی قضیة المنهج الفکری وأسلوب التفکیر الذی نستخدمه، کان یرید الجواب عن السؤال التالی: أیّ أسلوب یفترض أن نستخدم فی حلّ مشکلاتنا الفکریة التی نعانی منها؟ هل هناک ضرورة أن نحصر أنفسنا داخل مربّع منطقی واحد أم بالإمکان أن ننفتح على مدارس منطقیة جدیدة، وأن نتحرّر من أن نکون محکومین لمنطق واحد، ومن ثم نثری فکرنا الدینی ونثری معلوماتنا الإسلامیة؟! لقد اعتقد الصدر ما کان یراه محمّد إقبال ـ وبالمناسبة موضوع المنطق الاحتمالی الاستقرائی کان قد أشار إلیه من قبلُ محمّد إقبال فی کتابه «تجدید الفکر الدینی» طبعاً مع فارق بسیط، وهو أن إقبال کان یحمّل المنطق الأرسطی مسؤولیة تخلّفنا وهذا ما لا نراه عند السید الصدر فی حدود اطّلاعی ـ من ضرورة الانفتاح على مناهج المنطق الاستقرائی. هذا المعلم والخاصّیة فی فکر السید الصدر تحاول أن تجیب عن بعض أسئلة النهضة، وفی الوقت نفسه تخدم قضایانا الدینیة الداخلیة. 2ــ الکلّیانیة والتعالی النظری الکلّیانیة والنظرانیة ـ إذا جاز التعبیر ـ سمة أخرى من سمات التفکیر عند الصدر؛ فنحن نرى أنّ الصدر انتقد فی دراساته ما سمّاه بالفقه الفردی الانکماشی، فالفقیه الیوم ـ مثلاً ـ فی الاتجاهات الفقهیة المدرسیة یعالج المسألة الجزئیة الفلانیة، ویعالج المسألة الجزئیة الثانیة، والثالثة والرابعة، فهو دائماً محکوم بمسألة تلو مسألة، ینتقل من واحدة إلى أُخرى، کذاک الذی ینتقل من جزیرة إلى جزیرة عبر جسر، ولا ینتقل من جزیرة إلى أخرى عبر الطائرة؛ لهذا فهو لا یطلّ على المشهد من الأعلى؛ لیرى کلّ هذه الجزر والجسور، بل یتحرّک من جزیرة إلى أُخرى، فینتهی من مسألة لیبدأ بأختها، فهو ینظر وهو على الأرض، وهذا هو الفقه التجزیئی الفردی الذی عبّر عنه السید الصدر بالفقه الانکماشی. لقد لاحظ الصدر أنّ الأمة الإسلامیة فی زمنه لیست بحاجة ـ فقط ـ إلى حلّ القضایا الجزئیة التفصیلیة، بل بحاجة أیضاً إلى تکوین نظریات، أی یجب أن یتحوّل عقلُنا من عقل تجزیئی یلاحظ القضایا الفکریة التفصیلیة إلى عقل متعالٍ مشرف من الأعلى، کما یقول جلال الدین الرومی فی شعره: عندما تجد همّاً احتضنه بعشق ** وانظر من أعلى الربوة إلى دمشق [المصدر:المثنوی، الکتاب الثالث، البیت: 3755.] أی لا تنظر إلى دمشق وأنت على بابها، فربما لا تجد شیئاً یعجبک، وربما لا یکون المنظر خلّاباً، لکن اصعد إلى التلّ وإلى الربوة وانظر إلى دمشق منها فستجدها مدینةً جمیلة. أراد السید الشهید أن یخرجنا والفکر الإسلامی من مأزق التجزیئیة، من مأزق التنقّل من مفردة إلى مفردة، وعدم القدرة على إیجاد حلول کبرى، والعجز عن ابتکار نظریات عظمى قادرة على النهوض بالمجتمع وتحریکه، فقد تکون هناک جزیئیات صغیرة یمکن حلّها، لکننا لا نستطیع أن ننظم حزمة الآلاف من هذه الجزیئیات الصغیرة التی تتحرک ضمن هذا المربع أو تلک الدائرة، لهذا نکون بحاجة للانتقال بالعقل المسلم من مرحلة التفکیر التجزیئی الفردی الصغیر ـ وهی مرحلة مشکورة وضروریة کما یقول السید الشهید، ولا غنى عنها بوصفها مرحلةً أولى ـ إلى مرحلة العقل المشرف المتعالی على کلّ التفاصیل الجزئیة الصغیرة، لیکوّن منها صورةً ورسماً کاملاً، أی من مرحلة لملمة أجزاء الفسیفساء إلى مرحلة تکوین الصورة من خلالها. هذا هو الذی دفع السید الصدر إلى أن یفکّر بالفقه المجتمعی وبفقه النظریة، لقد لاحظ أننی ربما أبقى أدرس کتاب المکاسب وأبحاثه عشر سنوات أو عشرین سنة، وأدرّسها وأبحثها وأجتهد فیها، لکن مع ذلک قد لا أقدر على أن أقدّم فقه نظریة اقتصادیة؛ لأن القضیة لیست فقط فی أن تجتهد فی الجزئیات، وإنما أن تقدر بعد اجتهادک فیها على أن تکوّن صورة أکبر شاملة؛ فالفقیه المسلم والمفکّر المسلم لم تعد مشکلته مشکلة أفراد، وإنما مشکلة المجتمع بأکمله، صارت مشکلته مشکلة الأمة بأکملها، فیجب أن نفکّر على مستوى حلّ مشکلة أمّة ولیس على مستوى حلّ مشکلة أفراد، هذا التفکیر على مستوى حلّ مشکلة أمة یستدعی الانتقال بالعقل من المرحلة الفردیة التجزیئیة الصغیرة إلى المرحلة الشاملة النظریة الکلیة الکبیرة، وهذا بالضبط ما فعله السید الشهید؛ فکأنه شعر بأنّ مشکلتنا فی أننا نبقى فی هذا الجزیء الصغیر المنتقل من باب فقهی إلى باب فقهی، دون أن نستطیع أن نبلور رؤیة کلّیة للحیاة. وهذه نقطة أساسیة أراد السید الشهید من خلالها أن ینقذ هذا العقل المسلم من الغرق فی التفاصیل، لکی یجعله فی رحابة الرؤى الکلیة والقواعد العامّة، لکی تستطیع علومنا الإسلامیة أن تدیر المجتمع کما تدیر الفرد، أن تدیر الأمة کما تدیر الآحاد، فبعقلیة إدارة فرد لا یمکن إدارة أمة، ولا دولة. هذا معلم آخر أیضاً أساسیّ ومهمّ للغایة سعى له السید الصدر لتکوین فقه مجتمعی، وفقه دولة، وفقه اقتصادی، وفقه سیاسی، لا لتکوین فقه فردی قد یکون له علاقة هنا بالسیاسة أو علاقة هناک بالاقتصاد أو علاقة ثالثة له بالحیاة الاجتماعیة. 3 ــ الانتقال من الفرضیّة إلى العملانیة نقصد من العملانیّة أو البعد العملی، الانتقال بالفکر الدینی من الدراسات النظریة البحتة إلى الدراسات العملیة، وهذه أیضاً نقطة أساسیة؛ لأن أکثر المفکرین النهضویین منذ القرن التاسع عشر إلى یومنا هذا یعیبون على فکرنا الإسلامی ببعض مفاصله خلال عصور الانحطاط، أنها أغرقت فی التجرید والاستغراق خارج نطاق الواقع، کأن المفکّر المسلم جلس فی زاویة من زوایا بیته وأخذ یفترض مشکلةً ربما لا وجود لها فی الخارج، ثم یبدأ بحلّها، فلا المشکلة لها وجود ولا الحلّ نحن بحاجة إلیه الآن. سأعطی مثالاً واقعیّاً معاصراً، توجد بعض الدراسات الفقهیة المتعلّقة بالبنک یسعى کتّابها لدراسة معاملة بنکیة ومصرفیة ما، فیفرضون لها ـ مثلاً ـ سبع فرضیات ویبدؤون بحلّ هذه الفرضیات، ولو أتعبوا أنفسهم قلیلاً وذهبوا إلى البنک لما وجدوا سوى فرضیة واحدة الیوم من هذه الفرضیات المخترعة؛ فلماذا أشغل نفسی بسبع فرضیات لا وجود لها وأصرف جهداً من طاقتی ومن إمکاناتی لحلّ مشکلة لا وجود لها فی واقع المسلمین الیوم؟ فلو وجدت غداً فسیأتی جیل الفقهاء الذی یعالجها. وهذا ما یشیر إلیه الإمام الخمینی فی بعض أبحاثه، حینما ینتقد الفکرة الشائعة التی تقول بأننا نبحث بعض المسائل فی أُصول الفقه لشحذ الذهن، أفهل نضبت المشکلات العملیة التی نشحذ بها ذهننا حتى نذهب إلى مشکلات لا وجود لها؟! هنا نجد المفکّر المسلم ـ مثل السید الشهید محمّد باقر الصدر ـ یرید أن ینتقل بالعقل المسلم من هذه المرحلة التجریدیة التی یحلّق فیها فوق الأرض لیحلّ فیها مشکلات لا وجود لها، إلى مرحلة عملیة. فماذا فعل؟ حتى أُصول الدین، حتى علم الکلام، انظروا کیف کان السید الشهید یسعى لإدخاله فی الترکیب الاجتماعی، وفی الحیاة الاجتماعیة، فالنظرة الاجتماعیة إلى أُصول الدین التی کتبها السید الصدر، والنظرة الاجتماعیة إلى العبادات التی تحدّث عنها، تمثل توظیفاً لهذا الفکر الإسلامی فی حیاتنا العملیة، وعدم البقاء والغرور بمجرد التفوّق الفکری والتحلیلی، وإنما النزول إلى أرض الواقع لحلّ المشکلات. من هذه النقطة بالذات، ننظر إلى السید الشهید فی اهتمامه بالأولویات، وهو ما کان تحدّث عنه الشهید مرتضى مطهری أیضاً، فنحن نعانی من خلل فی میزان تنظیم الأولویات، لقد مثّل المطهری لذلک بمثال حین قال بأن هناک من یذهب لزیارة الإمام الحسین ، وعلى الحدود العراقیة الإیرانیة یکذب لکی یُفسح له المجال لعبور الحدود، إنه یرتکب الحرام لأجل المستحب، هنا یختلّ میزان الأولویات، وهو یشبه إلى حدّ کبیر میزان الحرارة الذی إذا اختلّ انهارت کلّ المعاییر فی الجسم، هنا یصبح الإنسان مستعداً لشغل نفسه سنین فی موضوعات لا قیمة لها ویترک موضوعات ضروریة جداً لاعتبارات وهمیة کاسدة. لهذا جاء المفکّر المسلم ـ مثل السید الصدر ـ وأخذ أصول الدین وعلم الکلام، ذلک العلم الذی أخذ طابعه التجریدی النظری، وأراد أن یقحمه فی حیاتنا الاجتماعیة. انظروا کیف حاول أن یدخله فی حیاتنا المیدانیة فی مقدّمة کتاب فلسفتنا حین قال بأن الرؤیا الکونیة بالنسبة إلینا هی معیار نستطیع من خلاله أن نغیّر واقع حیاتنا الاجتماعی والسیاسی والشخصی.. هذا النوع من التفکیر یمنحنا قدرة تنشیط القضایا الأکثر تجریدیةً فی حیاتنا العملیة، إنه الانتقال بالعلوم التجریدیة لتتحوّل إلى علوم واقعیة عملیة تستطیع تغییر حال المسلمین نحو الأفضل. 4ــ الواقعیّة أو الرحلة من الواقع إلى النص إلى الواقع المثال الأبرز الذی أرید أن استخدمه هنا فی البعد الواقعی هو التفسیر الموضوعی، فالسید محمّد باقر الصدر أراد أن یغیّر طریقة رجوعنا إلى النصوص، وأن یلفت نظرنا إلى آلیة جدیدة، فنحن ندرس فی العلوم الإسلامیة حینما نصل إلى مرحلة معینة باباً فقهیاً، وننتقی مسألة فقهیة نبحث فیها، وهنا أجد أنّ أمامی نصوصاً قرآنیة وحدیثیة، وأجد أمامی کلمات العلماء والفقهاء عبر الزمن، أجد أمامی کلّ هذا الزخم من التراث، ثم أبدأ بتحلیله، فأنا من البدایة إلى النهایة مع هذه النصوص، وإذا أردنا رسماً لهذا المشهد فنحن نرسم سهماً دائریاً من النص إلى النص. یقول السید الصدر بأننی لا أذهب إلى النص، ولماذا أذهب إلیه؟! فلنذهب إلى الواقع أوّلاً، أی إلى واقع الحیاة الإنسانیة، وإلى هموم الإنسان المسلم المعاصر ومشکلاته وأزماته وعناصر تخلّفه وسبب تردّی حاله، ثم آخذ الأسئلة من هذا الوضع القائم، فأنا فی البدایة واقعیٌّ، أی أنطلق من الواقع وأبدأ به، وآخذ الأسئلة والهموم منه، ثم أذهب إلى النص، وأجثو على رکبتی أمام الکتاب والسنّة لأقول لهما: ما الذی یمکننی أن أستفیده منکما فی حلّ المشکلات الواقعیة؟ أنا أبدأ من الواقع إلى النص، ثم بعد أن أحصل على الجواب من النصّ، أبدأ رحلة العودة من النص إلى الواقع، فأحمل ما أخذته من هذا النص المقدّس، وأذهب إلى الواقع لإصلاحه وفق هذه القیم الدینیة التی أعطانی إیاها النص. إذن، حرکتی من الواقع إلى النص، ثم من النص إلى الواقع، ولیست حرکتی من النص إلى النص، وکأن الواقع لا قیمة له عندی، مثل ما یسمّى بفقه الأرأیتیین، وهی جماعة ظهرت فی القرن الثانی الهجری أطلق علیها فی حینه الأرأیتیون، وفی بعض الروایات عن أهل البیت ما یشیر إلیهم، وقد سمّوا بالأرأیتیین لأنهم کانوا عندما یطرحون مسألةً فقهیة یقولون: أرأیت لو کان کذا وکذا فما هو الحکم؟ فکانوا یستخدمون هذا التعبیر فسمّوا به. أنا أرید أن أنتقل من «أرأیت لو کان کذا» إلى «أرأیت کیف حصل هذا، فأعطنی الجواب». هذا هو المشروع فی التفسیر الموضوعی وغیره من مشاریع الصدر، أی النظر إلى مشکلات واقعنا المعاصر بکل تفاصیله، ثم أخذ هذه المشکلات وحملها لتوجیهها أسئلةً إلى النصّ لأخذ الجواب منه، ثم العودة فی رحلة الرجعة إلى الواقع الذی یصلحه فی ضوء النص. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,187 |
||