نصـف الثـورة کارثـة | ||
نصـف الثـورة کارثـة بعضهم قال: 'نصف ثورة یساوی هلاک أمة' ، و قال آخرون 'من یصنع نصف ثورة یحفر قبره بیدیه'. العرب لا یستحقون من الشیء الا نصفه او بعضه، هذا ما یؤمن به الغربیون ویعملون من اجله، وما اعتاد الحکام على ترویجه، لیس فی مجال الثورة فحسب، بل فی المجالات الانسانیة الاخرى، هؤلاء العرب لا یستحقون الا نصف الاشیاء او اقل من ذلک. وحتى عندما یخوضون معرکة التحرر من الاحتلال، فانهم لا یستحقون الا نصف الاستقلال، فتبقى القوات المحتلة فی القواعد العسکریة عقودا بعد 'الاستقلال'. وحین یطالبون بالدیمقراطیة فیجب ان لا یعطوا الا نصفها او اقل، وکثیرا ما تطرح ذرائع تافهة تنطوی على الکثیر من العنصریة والازدراء، ومن ذلک 'الشعوب لیست مستعدة لها'. اما الدیکتاتوریون فیروجون عبر ابواقهم مقولات فیها الکثیر من الاستخفاف بالشعوب والتقلیل من انسانیتها وذکائها الفطری 'بریطانیا احتاجت 300 سنة للوصول الى الدیمقراطیة'، ویقولون تارة 'الدیمقراطیة عملیة تتطور وتتکامل ولیست قالبا جاهزا'. اما السیادة الکاملة على الاوطان فلا یستحق العرب الا نصفها او بعضها. فالقرار السیادی تصادره القوى الکبرى او مندوبوها المفروضون بالقوة کحکام على الشعوب. وفی مقابل التنازل عن السیادة توفر لهؤلاء الحکام 'حصانة' ضد محاولات التغییر من قبل شعوبهم. فمثلا عندما اجبرت الولایات المتحدة على الانسحاب من العراق بعد قرار سحب الحصانة عن الجنود الامریکیین فی ذلک البلد المبتلى، اعلن مسؤولو البنتاغون انهم سوف یعیدون نشر القوات المنسحبة من العراق فی دول الخلیج الفارسی بدون الرجوع الى حکوماتها او الدخول معها فی اتفاقات جدیدة. الامریکیون یشعرون انهم یملکون السیادة الکاملة على هذه البلدان، یتصرفون فی شؤونها کما یشاؤون. هؤلاء الامریکیون، ممثلین بجیفری فیلتمان، مساعد وزیرة الخارجیة لشؤون الشرق الادنى، ومایکل بوسنر مساعد وزیرة الخارجیة الامریکیة لحقوق الانسان والدیمقراطیة، هم الذین یدیرون الملف البحرانی بشکل کامل سواء فی الملف السیاسی ام الامنی. فهم الذین یتصلون بالجمعیات السیاسیة ویضغطون علیها للتفاوض من اجل وقف الثورة والقبول بحلول لا تمثل القدر الادنى من الاصلاح. وهم الذین استلموا الملف الامنی وجاؤوا بجون تیمونی، أسوأ شرطی فی امریکا لادارته، فازداد القتل والتعذیب وسوء المعاملة ولکن باشکال اخرى. وحقوق الانسان المنتهکة، لن تتطور وغایة ما یمکن ان تبلغه نصف المستویات الدولیة. فالانظمة الدیکتاتوریة لا یمکن ان تحترم حقوق الانسان او تتوقف عن ممارسة القمع والتعذیب. ویتدخل الغربیون عبر 'خبرائهم' لاحداث تغییرات الامور الاجرائیة ولیس الجوهریة. فمثلا اصبح اعتقال المواطنین فی بعض البلدان العربیة التی یدیر الغربیون اجهزتها الامنیة یتم لیس على ایدی اجهزة الامن، بل من قبل الشرطة، واصبح التعذیب لا یمارس فی مراکز التحقیق بل فی منازل او مزارع عن نائیة عن الانظار. وسمعنا کیف یتباهى وزراء خارجیة امریکا وبریطانیا بهذه 'التطورات' التی تعکس 'رغبة حقیقیة فی الاصلاح'. وهکذا الحال مع ای حل لأیة مشکلة، فما یعطى للشعوب العربیة لا یتجاوز النصف فی احسن الحالات. نصف الثورة مشکلة کبرى بدأت آثارها تظهر تدریجیا فی العدید من البلدان. فحتى تونس التی تعتبر ثورتها الاکثر نجاحا مقارنة بثورات الدول الاخرى، تتواصل المساعی لاحتواء النظام السیاسی الجدید فیها، الذی اصبح یرکز على اظهار 'الاعتدال' بدلا من التطرف بعد ان اصبح یواجه قضایا سیاسیة واقتصادیة لیست فی حسبانه. فی ما عدا تونس فلیس هناک الا نصف ثورة فی مصر، وبعض ثورة فی الیمن وثورات ممنوعة من الانتصار فی بقیة البلدن التی شهدت الربیع العربی. فالیمنیون ممنوعون من تحقیق انجاز سیاسی ملموس. فقد تدخلت قوى الثورة المضادة التی تشمل دول الخلیج الفارسی والولایات المتحدة لحصر التغییر بشخص الرئیس السابق علی عبد الله صالح. ما السبب فی ذلک؟ ما الذی ساعد قوى الثورة المضادة على تحقیق هدفها بمنع التغییر الثوری الذی یمنح الشعب حق اتخاذ قرار تقریر المصیر واختیار نظامه الذی یریده وانتخاب حکومته؟ . الثوریون لا ینظرون للامر من هذه الزاویة، بل یعتقدون ان الطرح الثوری له معاییره الخاصة ولا یخضع لحسابات الربح والخسارة او توازن القوى او المنطق الریاضی الدقیق، ولا ینسجم فی جوهره مع المقولات المرتبطة بالممارسة السیاسیة مثل 'المناورات السیاسیة' و'استعمال اوراق الضغط' والاعتقاد بان الغرب دائما یملک قرار الحسم فی الاشکالات السیاسیة. وهکذا یقع اصحاب المشروع الثوری ضحایا لیس لسیاسات النظام وقمعه فحسب، ولیس لقرارات الغرب المعادیة للثورة، بل لمواقف الفرقاء السیاسیین الذین یساهمون، ربما بدون قصد، فی اضعاف مواقف الثوریین بالتحاور مع النظام القائم او اعلان القبول ببقائه او الاستعداد للعمل ضمن اطره. فهذه جمیعا تفت فی عضد شباب الثورة وتؤدی الى بلبلة مدمرة. الثوریون یؤمنون بالحل الثوری الحاسم، والسیاسیون یمثلون 'نصف ثورة' ویحرکون الشارع لیس کخیار ثوری مستقل وحاسم بل لتحویله الى 'ورقة ضغط' تدعم مشروعا سیاسیا آخر. الثوریون لا یؤمنون بتحویل الثورة الى ورقة ضغط سیاسیة على النظام او داعمیه، بل یعتبرونها الطریق لحسم الموقف بدون تنازل او تراجع او مساومة او اضعاف للصف الثوری. المصریون بشکل خاص یشعرون بحالة من الغبن بسبب ما حصل لثورتهم التی حصر التغییر فیها بالتخلص من الرئیس وابنائه، مع الاحتفاظ بنظامه کاملا. واصبح المجلس العسکری هو النظام السیاسی البدیل للرئیس المخلوع. وکان امرا غریبا جدا قبول الاحزاب السیاسیة بتسلیم الامور للعسکر الذین یعتبرون فی التاریخ السیاسی، من اکبر اعداء الثورة واقلهم حماسا للتغییر. بل ان هدف الجیش فی ای بلد، دیمقراطی ام استبدادی، الحفاظ على النظام السیاسی القائم ومنع سقوطه مع عدم التدخل فی السیاسة .. المجلس العسکری فی مصر استفاد من وجود ثنائیة فی الساحة السیاسیة المصریة بین الاحزاب والمجموعات السیاسیة من جهة والقوى الثوریة من جهة اخرى. هذه الثنائیة ساهمت فی تعقید الامور، ولکن الجیش یعرفها ویدرک حدودها، ویعلم سلفا انها تزید مسألة التغییر الشامل امام قوى الثورة. وکان النظام العسکری المصری قد استهدف دعاة التغییر والثوار قبل انفجار ثورة 25 ینایر. هذا المجلس هو الذی انقذ النظام من السقوط بعد ازاحة حسنی مبارک عن الحکم، ولکنه فی الوقت نفسه یقدم نفسه للشعب انه هو الذی حمى الثورة واوصلها الى حد اسقاط حکم الرئیس. وتعتبر واشنطن الجیش المصری صمام امان لسیاستها فی الشرق الاوسط لان مصر هی بوابة هذه المنطقة، ولذلک استطاعت واشنطن من خلاله احتواء الثورة وجعلته عراب التغییر والسلطة لدعم مرشحی منصب الرئاسة او رفضهم. وربما اعتقد الاخوان المسلمون فی البدایة ان بامکانهم استرضاء العسکر، وان 'الحکمة' فی التعامل سوف تفضی الى تعایش سلمی والى تحقیق ما یریدونه من نتائج اهمها الانتقال السلمی للسلطة الى المدنیین. ولکنهم ادرکوا الآن ان الجیش مفوض من الغرب بمهمة اساسیة وهی الحفاظ على اتفاقات کامب دیفید ومنع تحول مصر الى المعسکر المقاوم للاحتلال الصهیونی. واصبح الاخوان مخیرین بین خیار التراجع عن ثوابتهم کحرکة اسلامیة رائدة فی العالم العربی، ومن ذلک رفض الاعتراف بالکیان الاسرائیلی والغاء اتفاقات کامب دیفید، او الدخول فی مواجهة مع المجلس العسکری. نصف الثورة کارثة، فاما انتصار ارادات الشعوب او العودة الى العهود السوداء التی تهیمن فیها قوى الاستبداد والظلم والتعذیب. انهما خیاران لا ثالث لهما. فمصر التی وقفت فی منتصف ثورتها لاسباب عدیدة، تواجه هذا الخیار الصعب. ولکن المهمة هذه المرة ستکون اصعب لان قوى الثورة المضادة استعادت قدرا کبیرا من مواقعها، وخبت شعلة الثورة فی نفوس الکثیرین من شباب التغییر، واصبح تحریک الشارع اصعب کثیرا مما کان علیه من قبل. فانظمة الحکم العربیة تأسست على الاستبداد ولا تستطیع ان تغیر ایدیولوجیة اجهزتها لتکون 'دیمقراطیة' . والرهان على امکان تغیر منظومة الحکم من الاستبداد الى الدیمقراطیة محکوم بالفشل. ان هناک حاجة لتغیر جوهری فی نفسیة العناصر المتصدیة للعمل السیاسی التی تسعى لتحقیق مکاسب فئویة او حزبیة او فردیة على حساب قیم الثورة والتغییر الشامل. ان نصف ثورة هزیمة کارثیة، لان انظمة الاستبداد لا بد ان تقتلع کاملة، وبدون ذلک یبقى الجسد العربی کالمصاب بالسرطان الذی یستأصل الجزء الظاهر منه، وتبقى الخلایا السرطانیة الصغیرة منتشرة فی اجزائه الاخرى ما لم تعالج کیماویا او إشعاعیا. اذا لم یحدث ذلک فسوف یعود السرطان مجددا أشد شراسة لیقضی على الجسد المنهک. فاما العلاج الکامل او الموت المحتوم وان کان بطیئا. نصف الثورة قد یکون أخطر من عدمها، والتغییر الذی تصممه الهندسة الامریکیة یکرس الاستبداد ولا یأتی بالدیمقراطیة. واسترضاء واشنطن یؤدی الى التنازل عن مبادیء الثورة وقیمها ولا یحقق الدیمقراطیة. ان شباب التغییر مطالب باکمال الثورة وعدم القبول بنصفها لان ذلک خیانة لکل قطرة دم ازهقها المستبدون والطغاة والمحتلون.
التحریر | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,119 |
||