ظلمهافعدلت معه | ||
ظلمهافعدلت معه مبارک فى السجن، صدق أو لا تصدق. من کان یتصور ان تکون هذه نهایة آخر الفراعین المصریین. هو ذاته لم یصدق، حین نقلوه بالطائرة إلى محبسه فی سجن طرة، صدم الرجل وثار وسب الذین حملوه بألفاظ نابیة (جریدة «التحریر» المصریة ذکرت فى 4/6 انه سب الدین ثلاث مرات لطاقم الأمن المرافق له). استسلم فی النهایة، بعدما رفضت طلباته التی أراد بها ان یستثنى من اللوائح، سواء فى الإقامة أو الرعایة الطبیة أو التمریض، أو حتى الهاتف النقال، وحسبما ذکرت الصحف المصریة فإنه عومل کسجین محترم. أعطى الثیاب الزرقاء المخصصة للمحکوم علیهم، کما تم تصویره واعطى رقما. بعدما نزعت عنه هالة التقدیس التی أحاطت به طوال ثلاثین عاما، بعد ذلک سمح له بزیارة استثنائیة شأن غیره من المساجین فی إطار الاحتفال بعید العمال. ما عاد الزعیم الملهم الذى ولدت مصر یوم ولد، ولم یشفع له ادعاؤه انه بطل الضربة الجویة التى بدأت بها حرب أکتوبر، ولم یأس علیه سوى الإسرائیلیین الذین افتقدوا «کنزهم الاستراتیجى». لکنه حوکم أمام القضاء المدنی، الذى وفر له کل ضمانات الدفاع. وحکم علیه بالسجن المؤبد، اشفاقا على عمره الثمانینی، وهو الذی لم یرحم أحدا من خصومه ومعارضیه طیلة سنوات حکمه، ولم یتردد فى احالتهم إلى المحاکم العسکریة لتصدر بحقهم أقسى الأحکام. ظل أسدا على المصریین طوال سنوات حکمه الثلاثین. فاعتقل نحو 200 ألف شخص (100 ألف من الإخوان و50 ألفا من الجماعة الإسلامیة)، وهؤلاء غیر الذین تم إعداهم والذین قتلوا تحت التعذیب، والذین اختفوا ولم یظهر لهم أثر. لکنه فی مواجهة الأمریکیین والإسرائیلیین ظل لینا وطیعا فیطیبة الحملان ووداعتهم، الأمر الذى کان محل حفاوة بالغة من جانبهم. لِمَ لا وقد قبل بتعذیب الذین أرادت المخابرات الأمریکیة ألا تتحمل وزرهم، وأهدى الإسرائیلیین غاز مصر بسعر التراب لمدة خمسة عشر عاما. وتلک صفحة واحدة فى سجل الرجل، الذى یملأ فساد نظامه على الصعیدین السیاسی والاقتصادی العدید من صفحاته الأخرى. لقد أذل مبارک شعب مصر وأهان البلد ودمر سمعته، ومع ذلک لم ینتقم المجتمع منه، رغم ما خلفه من مرارات وجراح، وقدم إلى العدالة لکی تقتص منه، رغم انه أسقط رغما عنه بعد الثورة التی انفجرت ضده، وحاول قمعها بکل السبل، وکان القنص والقتل العمد أحد أکثر تلک السبل شیوعا وأکثرها قسوة وفظاظة. أجرم مبارک فی حق مصر وأهدر کرامة الشعب والوطن، لکن مصر عاملته بأخلاقها ولیس بأسالیبه. ظلمها فعدلت معه، وأهانها فاحترمته. وساق الجمیع إلى المحاکم العسکریة، فقدمته إلى محکمة مدنیة. ولیس ذلک جدیدا على شعب مصر، الذى ظلم کثیرا وصبر طویلا واختزن تلالا من المرارات والأحزان، لکنه حین فاض به الکیل فإنه لم یعدم أحدا ولم یقتل ولم یسحل. وفی حالات القتل النادرة التى حدثت فإنها نسبت إلى جماعات بذاتها ولم تحسب على المجتمع ککل (حادث قتل النقراشى باشا رئیس الوزراء فی سنة 1948 وقتل السادات فى سنة 1981). حین قامت الثورة ضد الملک فاروق فى عام 1952، فإنها طلبت منه التنحى والرحیل عن البلد، وقام رئیس مجلس الثورة آنذاک اللواء محمد نجیب بتودیعه قبل سفره، وکان معه السفیر الأمریکی. وحین أدى له التحیة العسکریة لاحظ الملک أن اللواء نجیب یحمل معه «عصا المارشالیة»، فطلب منه انزالها التزاما بالتقالید، فما کان من اللواء نجیب إلا أن استجاب له. ورحل یخت الملک (المحروسة) بعد إطلاق المدفعیة 21 طلقة تحیة له. وحتى حین دب الخلاف بین جمال بعدالناصر واللواء نجیب، وتقرر اقصاء الأخیر، فإن غایة ما فعله ضباط الثورة انهم حددوا إقامته فى فیللا بإحدى ضواحى القاهرة. و کان من الیسیر للغایة أن یصفى اللواء نجیب وتطوى صفحته بمضى الزمن، کما هی التقالید المتبعة فی دول أخرى. صحیح أن عبدالناصر وأجهزته تعاملوا مع المعارضین بقسوة أحیاناً ، إلا أن النقطة الملفتة هی کیفیة تعامل المجتمع مع حکامه، حتى الذین ظلموه منهم. ذلک کان واضحا للغایة مع الرئیس السابق حسنی مبارک. ولست مع الذین یقولون إن المجلس العسکرى الذى تولى السلطة بعد الثورة جامله کثیرا إلى حد تدلیله، سواء حین حدد إقامته فى شرم الشیخ أو حین تم نقله إلى المرکز الطبى العالمى فى أطراف القاهرة. ذلک أن المجلس العسکری بمسلکه ذاک کان ملتزما بقیم المجتمع المتحضر التی ترفض التشفی أو الانتقام، وتؤثر الالتزام بما تقتضیه المروءة ویفرضه الاحترام والعدل. ما فعله مبارک بمصر اسوأ کثیرا مما فعله الملک فاروق بالبلد وشعبه، ومع ذلک فإن مصر کانت أکرم وأکثر مروءة وشهامة، واحتکمت إلى العقل والعدل، ولم تستسلم للانفعال والغضب. إن الطغاة لا یعتبرون لأنهم لا یرون إلا أهواءهم وبطانتهم أنفسهم، ولابد أن نحمد الله ونشکره على أن شعبنا لم یتعلم شیئا من طغاته. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 2,162 |
||